الثقافة السياسيّة بين الثابت والمتغيّر – بقلم : أنور ساطع أصفري

دراسات …..
بقلم : أنور ساطع أصفري – الولايات المتحدة الامريكية
مفهوم الثقافة السياسية يعود إلى عام 1965 حيثُ إستخدمه الأمريكي غابريل ألموند ، كبعدٍ من أبعاد تحليل النظام السياسي .
فعند ألموند كلّ نظامٍ سياسي يترسّخ حول أنماط محددة من التوجيهات التي تضبط التفاعلات التي يتضمّنها النظام الاجتماعي .
بكلِ تأكيد إن الموقف السياسي قد يتغيّر بين لحظةٍ وأخرى ، وذلك مرتبط بالمعطيات الآنية التي قد تتغيّر أو تتجدّد بين لحظةٍ وأخرى .
ونستطيع أن نقول أن الثقافة السياسية تُعتبر مدخلاً مهماً لفهم ميول الأفراد ومعتقداتهم السياسية ، وعلى وجه الخصوص عند ذوي الإختصاص والباحثين في العلوم السياسية .
الثقافة السياسية لا بدّ منها في أي بناءٍ سياسي ، ديمقراطي ، يحترم حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ، علماً أن الإهتمام بمفهوم الثقافة السياسية يرجع إلى منتصف القرن الماضي ، حيث بدأ التمرّد أو الخروج من الطريقة التقليدية في المؤسسات السياسية ، بهدف محاولة إدراك البعد الثقافي في السياسة ، حيث أن كل منظومة سياسية مرتبطة أصلاً بمنظومةٍ من القيم والتصورات بثقافة المجتمع والسلوكيات المُنتهجة .
فالثقافة السياسية توفّر الدليل لمراقبة السلوك السياسي الفعّال ، والثقافة السياسية ككتلة أو جماعة تُعطي إطاراً منتظماً من القيم والاعتبارات التي تضمن الانسجام في تأدية مؤسسات الحكم لمهامها .
نستطيع أن نقول أن الثقافة السياسية تُعتبر مجموعة قيم مستقرة تتعلق بنظرة المواطن إلأى السلطة ، وهذه النظرة تُعدّ مسؤولة إلى درجةٍ كبيرة عن درجة شرعيّة النظام القائم .
فالثقافة السياسية كما قلنا هي باباُ نسبياً للحديث عن أو في علم السياسة ، وهي جزء من الثقافة العامة للمجتمع . وهناك من يصفها بأنها منظومة القيم والأفكار والمعتقدات المرتبطة بظاهرة السلطة في المجتمع .
هذا إطار عام ، ولكن نستطيع أن نتعمّق أكثر ونقول أن الثقافة السياسية تُعتبر محصّلة تفاعل الخبرة التاريخية والوضع الجغرافي والمعتقدات الدينية ، إضافة إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية ، وهذه الثقافة تتأثّر بالرأي العام ، طبعاً آخذين بعين الاعتبار أن الثقافة السياسية تختلف عن الايديولوجيا ، حيث أن الثقافة السياسية غير ممنهجة ، وتتضمن الصالح والطالح ، الغث والثمين ، ويُعتبر التراث الشعبي من أبرز عناصرها ، وتشتمل على مجموعة من القيم قد يتكامل بعضها ، وقد يتناقص بعضها الآخر ، في حين أن الإيديولوجيا ممنهجة وتتميّز بشكلٍ كبير إلى حدٍ ما من الانتقائية ، وتتمتع بقدرٍ أكبر من التجانس القيمي .
فالثقافة السياسية تُمثّل فرعاً من الثقافة العامة للمجتمع ، وبنفس الوقت تتضمن عدداً من الثقافات السياسية الفرعية التي تختلف بإختلاف الأجيال والبيئآت والمهن .
ويمكننا القول أن الثقافة السياسية للشباب تختلف عن نظيرتها عند كبار السن ، كما أن الثقافة السياسية للصفوة أو النخبة تختلف عن مثيلتها عند الجماهير . والثقافة السياسية عند الحَضَرْ تختلف عن مثيلتها لدى سكان القرى أو البدو .
بل أكثر من ذلك ، حيث بالإمكان أن تكون لكل شريحةٍ من تلك الشرائح ثقافة سياسية مختلفة عن الأخرى .
وفي مجالٍ آخر نقول أن النخبة العسكرية تؤمن بقيم النظام والوحدة ، في حين تكون الصفوة المدنية أكثر انفتاحاً على تنوّع المجتمع وتباينات ذلك التنوّع .
وهذه الاختلافات هي طبيعية وتعبّر عن حيوية الثقافة السياسية ، ما لم تصل إلى حدّ القطيعة .
وأحياناً كثيرة جهل الأهالي يُعبّر عن حاجتهم لسلطةٍ قويةٍ قد تكون إستبدادية لتنظيم أمورهم .
وعلى العكس فإن معظم الحركات الاجتماعية ذات طابع شعبي نشأت في البيئآت الزراعية ، حيث أن الفلاحون يثورون على حكّامهم المستبدين ، من خلال انتفاضاتٍ أو بالامتناع عن الزراعة ، أو الامتناع عن دفع الضرائب ، وقد يلجأؤون إلى هجرة الريف .
فالثقافة السياسية ترتبط بتوجهات الأفراد ووعيهم ، والمُراقب لأداء الحكومة ، فالنشاط السياسي للمواطنين مثل الترشّح والانتخاب ، هو بوّابة ، والنشاط الحكومي مثل تقديم المساعدات الاقتصادية وتنظيم شؤون الأفراد ورعاية مصالحهم هو بوّابة أخرى .
ومن خلال البوابة الأولى والثانية يرسم المواطن تصوّره عن ذاته كمشارك في العملية السياسية .
وإذا قمنا بدمج ما سبق ، بإمكاننا أن نرصد أشكال مختلفة من الثقافات السياسية ، منها :
*ثقافة سياسية ضيّقة ، إذا كان أفراد المجتمع لا يملكون حد أدنى من المعرفة ، أو الرغبة في إصدار أحكامٍ ما ، والاكتفاء بتلقي رغبة النظام والامتثال لها ، وهو صاغر ، حيث أنه يجهل البدائل ، وإذا كان يعرفها فإنه غير راغب بالتحرك لطرحها ، وهذا ينتشر في المجتمعات النامية أو المتخلّفة .
*ثقافة سياسية تابعة ، وتتجسّد هذه الثقافة في المجتمعات التي تُعاني من تواضع إسهام المواطنين في المداخل السياسية ، لكنهم يملكون معرفة تامّة بالنظام السياسي ومخرجات ذلك النظام ، وبقواعد اللعبة السياسية أيضاً ، لكنهم يرفضون المشاركة السياسية لادراكهم عدم جدواها ، وغالباً هذه المجتمعات هي تسلطية تفتقد هامش الحريات .
*الثقافة السياسية المشاركة ، وهذا النمط مرتبط بمعرفة الجماهير ، ووعيها بالنظام السياسي ، وقواعده ، ومؤسّساته ، ويسود هذا النمط من الثقافة السياسية في المجتمعات الديمقراطية التي يكون فيها دور مؤثّر للرأي العام ، سواء من خلال المؤسسات أو الأحزاب ، أو من خلال عمليات التصويت ، والترشّح ، واستطلاعات الرأي العام ، والندوات .
ولكن أيّاً كانت الأمور ، فإن الثقافات السياسية التي تحدّثنا عنها تبتعد قليلاً عن الواقع ، حيث أن الواقع الميداني لا يعرف صورةً نقية لأي منها ، لكنه عادة يتضمن مزيجاً مختلطاً بشكلٍ نسبي من هذه الثقافة أو تلك .
في منطقتنا وحينما نبحث عن الثابت والمتغيّر في الثقافة السياسية لدينا ، وفي علاقة الدولة بالمجتمع في المنطقة العربية نراها أنها لا تختلف إلاّ من حيث الشكل ، عن الدولة العربية الاسلامية منذ عهد معاوية ، وأنها لا تزال تحتفظ بدواخلها بالعناصر التأسيسية المكوّنة للدولة ، من حيث أنها أو كونها مؤسسة قهرية تضع نفسها فوق المجتمع ، وتحكمه تارةً باسم الدين ، وتارة أخرى باسم المصلحة العامة ، أو بغير ذلك من الشعارات .
حيث أن الجوانب المرتبطة بالموروثات قد لا تتغير ، وقد يُعاد تفسيرها أو صياغتها من جديد ، حيث أن هذه الجوانب تحظى عادةً بقدرٍ من الثبات والاستمرارية .
ولكن عملية الاصلاح السياسي هي ضرورة ملحّة لدى كل النظم السياسية المعاصرة .
فالثقافة السياسية هي جزء جوهري من النظام السياسي ، وهي الشق المعنوي لهذا النظام السياسي ومن كل جوانبه .
فالثقافة السياسية أساس التعايش والتعاون وقبول الآخر ، بدلاً عن السلبية والانغلاق على الذات والعدوانية وكراهية ورفض الآخر .
الثقافة السياسية هي أساس قيم التسامح والسلام والحوار ، بدلاً من العنف والاقصاء وفرض الرأي الواحد وبالقوة .