فلسطين ….
بقلم : فؤاد عبد النور – المانيا ….
وصلنا بجولتنا في وادي الملك إلى إبطن ومزرعة الحاج طاهر قرمان، من أكبر الشخصيات التجارية والصناعية في فلسطين. برز في فلسطين بقوة من نشأة متواضعة، وأصبح نائب لرئيس بلدية حيفا، وحاول جهده لمنع الاضرابات عنها وفشل. تفاصيل وافية عن ذلك مذكورة في موضوع حيفا.
إبطن
تابعة لمجلس إقليمي زبولون. تقوم على موقع ” باطن ” الكنعانية. كان عدد سكانها سنة 1945 لا يزيد عن 260 نسمة. الآن عددهم يقارب الثلاثة آلاف نسمة، من كثرة ما جُلب أليها من لاجئي ” حاضر – غايب”، وهم المهجرون والمدمرة قراهم. اعترفت بها الحكومة كقريةٍ تقدم لها الخدمات في السنة 1958. مُدت إليها المياه الجارية في السنة 1967، وعُبدت شوارعها سنة 1970، وسنة 1977 الكهرباء وصلت، و سنة 1985 مدت خطوط الهواتف.
فيها مدرسة ابتدائية. روضتان. عيادة طبية. صيدلية جديدة. وفرع بريد.
ترك الحاج طاهر قرمان أفضل ذكرى لاسمه، المسجد الذي تكفل ببنائه في إبطن.
يقترن اسمها باسم الحاج طاهر قرمان، إذ أن الأهالي في إبطن يعترفون أنه لولا وجود قرمان لما بقي أحدٌ في إبطن، فمزرعته هي التي جمعت العمال للعمل فيها. تبعد أبطن عن المزرعة حوالي الكيلومتر، وترى من بعيد الجامع الجميل لإبطن، الذي حاولت منظمةٌ صهيونيةٌ حرقه انتقاماً، عندما أُعلن عن اكتشاف خليةٍ سياسيةٍ مقاومةٍ، ينتمي لها بعض شبابٍ من إبطن.
لم يكن المختار في القرية عند وصولنا، فتوجهت إلى إمام الجامع آنذاك ” علي عبيد العمري “، وهو من عائلةٍ تشكل حوالي 70% من إبطن. وله في هذا المنصب حوالي 11 سنة ( حسب السنة 1988 ) ، وقال إن أجداده قد توطنوا القرية منذ حوالي المئتي سنة، وفي أواخر الانتداب اشتروا البراكيات المهجورة من الجيش البريطاني.
قال الإمام أن إبطن وما حولها كانت تابعة للدروز من شفا عمرو، وتوطّن فيها البدو، واستولوا عليها عملياً. ولما حاول الدروز طردهم، وقعت حربٌ بين الطرفين، وثبت عليها البدو. فطلبت الحكومة العثمانية من البدو تطويب الأرض، حتى يدفعوا ضريبتها، فرفضوا قائلين: ” وين بنحط عيوننا هي أرضنا.. ننصب خيامنا!”
ولما سقطت حيفا وبلد الشيخ، هرب السكان من إبطن، لجأوا إلى شفا عمرو وصفورية. ولما سقطت بقية البلاد رجعوا، فوجدوا الجيش الإسرائيلي قد حرق جميع براكساتهم. منعهم من إعادة تركيب أخرى، ومنعهم من البناء الحجري أو الإسمنتي، سمح فقط بسكنى خيامٍ تأويهم. ورفض قرمان إعادتهم إلى العمل، وهو غير ضامنٍ لعودة الحياة الطبيعية لمزرعته، أو إعادة تشغيل مصانعه. وبقيت الحال هكذا في صراعٍ للوجود والبقاء بأي ثمن، إلى أن اعترفت الحكومة بهم في السنة 1958، بعد أن أخذت تجلب إلى القرية من تطردهم من قراهم وتدمرها. وأكملت خرائطها الهيكلية سنة 1964، وأعطيت كل عائلة الفرصة أن تمتلك من 500 إلى 600 متر مربع بسعرٍ تشجيعي، لتبني بيتاً. الإمام نفسه دفع 1600 ليرة لقطعة أرضه، ولمدة 49 سنة فقط. ” بعدها بفرجها الله “.
يعمل أغلب القادرين على العمل في حيفا، والمستوطنات المجاورة.
——————————————-
مزرعة قرمان
أثناء العمل على كتابي هذا في طبعته الأولى، كنت مهتماً بالتعرف على عائلة قرمان، والتي كانت المسيطرة على منطقة إبطن، وتهيئ عملا ً لعشرات من العمال، الذين شكلوا في الواقع نواة قرية إبطن. وقد كانت لي علاقة سطحية بِ ” عزت قرمان “، رئيس الغرفة التجارية في رام الله، عندما قدمت إليها من نابلس، وحصلت منه على مقابلةٍ صحفيةٍ مطولةٍ لصحيفة ” الأنباء” الحكومية، التي عملت فيها مراسلاً أول سكناي في رام الله. كنت وقت ذاك مهتماً بشكلٍ قوي بملاحقة كل من كان يدعو إلى قيام دولةٍ فلسطينية ويرفض رجوع الحكم الأردني للضفة.
كتبت عن مجد العائلة السابق، أيام عز الحاج طاهر قرمان، هذا الشخص الطموح، والإداري، والذي أصبح من أبرز شخصيات حيفا التجارية والصناعية. أطلال عزّه السابق لا تزال شامخةً في محطة القمح الحديثة والضخمة، والتي استورد الحاج قرمان لها آلات حديثةً، ولم تعمل سوى سنةٍ واحدةٍ قبل النكبة. وعملت لفترةٍ قليلةٍ بعد قيام الدولة، ثم توقفت لأن الدولة كانت هي المشرفة على تزويد المطاحن بالقمح المستورد، والطحين نفسه كان يوزع بالبطاقة على السكان، مثله مثل الكثير من المواد الحيوية الأساسية. فلما انتظم عمل المطاحن اليهودية، لم تعد هناك حاجةٌ لخدمات الحاج طاهر. فبقيت المطحنة هيكلاً ضخماً، وشاهداً بشعاً على انحسار شمس العرب الفلسطينيين في الدولة الجديدة. و ذهبت المطحنة نفسها أتعاباً للمحامي اليهودي الذي توكّل بملاحقة قضايا العائلة في المحاكم، واستطاع إنقاذ ما يمكن إنقاذه.. برز اسم قرمان ثانيةً، عندما ألقي القبض على ابن الحاج قرمان، عبد الرحيم، متهماً في قضية تجسسٍ لمصر. وقد بُني على قصة عبد الرحيم هذا مسلسلٌ سوري، عرض في التلفزيونات، مع الكثير من الإضافات الرومانسية والخيال إليها. وقد أحيت هذه القضية اسم قرمان ثانيةً في البلاد و الوطن العربي. ولم يمض عبد الرحيم الكثير من حكمه الثقيل، إذ أُفرج عنه مع زميله في قضية التجسس، في صفقة تبادلٍ مع جاسوسٍ إسرائيلي في مصر.
الحاج طاهر كان شخصيةً كبيرةً في فلسطين، خاصة حيفا. وسترد أخبارٌ أكثر عنه في موضوع حيفا. أشغل منصب نائب رئيس بلدية حيفا اليهودي، وكان شريكاً رئيساً في شركة ” ابن فسيد ” التابعة للهستدروت، وشريكاً رئيساً في شركة الدخان ” قرمانديك وسلطي” ، أبرز شركة دخانٍ في فلسطين آنذاك، وصاحب مطحنة القمح الحديثة التي ذكرنا عنها قبل قليل. وقد أدخل الكهرباء لإبطن، وحفر بئراً ارتوتازيا لبيارته، واستورد بقراً هولندياً، وأنشأ محلبةً حديثة، هذا غير صناعة الجبن واللبنة. وأنشأ معصرةٍ للزيت، ومصنع للحلاوة الطحينية، وحاصلٍ لبيع لوازم العمال، والمواد التموينية، وكان المزود الرئيس للأهالي في تلك الأيام المضطربة، وفوق هذا كان مزوداً للمادة الحيوية – البنزين.
ولكن حياته لم تكن كلها أيام هناءً واطمئنان. فقد أصابه الرعب من متابعة اغتيال المعارضين للمفتي، والذين كانوا يَـدعون لـتـقبّـل الوجود اليهودي الصهيوني في البلاد. إذ نقل ” هليل كوهن ” عنه قوله:
” كان الإرهاب في كامل عنفوانه، إذا لم يكن بعدد الضحايا الذين أسقطهم، فبالقدرة على إشاعة الرعب على نطاقٍ واسع في دوائر الأهالي العرب. لم يجرؤ رجل عربي على رفع رأسه ليقاتـل. إن قوة العصابات الإرهابية السرية ليست في رسائلها، بل في وجودها نفسه. لم يعد الإنسان ينتظر الرسالة، أو يجوب الشوارع بحثا ً عن أعضاء العصابة كي يدفع لهم الجباية سلفاً، ليتأكد أنه سيبقى على قيد الحياة. فقد أصبحت المنظمة ( الهيئة العربية العليا ) متعصبة بالأيديولوجية وليس سعيا إلى المال فحسب. يعيش الأهالي في نشوة المثالية المتطرفة. وقد نجا رئيس البلدية (حسن شكري) حتى الآن بفضل الحارسين البريطانيين، الذين يحرسانه ليل نهار. ومع ذلك ليس له أمل سوى بمعجزة من السماء. ”
ووصف ” هليل كوهن ” حال قرمان بالتالي:
” كان لا ينام في الليل في فراش واحد. يبدل سيارته كل يوم. لم يعد لديه أيام أو ساعات محددة لعمله اليومي. يحتفظ في بيته بأولاد الشيخ نمر السعدي الثلاثة، شقيق الشيخ فرحان السعدي، أحد زعماء القساميين، ويدعم مالياً عائلة الشيخ عطية من بلد الشيخ، ويقوم بزيارات متواترة إلى الحاج أمين، ويساهم في صندوقه المالي، ويصلي إلى جانبه في المسجد، ولا يرفض له طلباً مالياً، ورغم كل ذلك فهو يخشى كل يومٍ على حياته، ويعمل بكل طاقته لتصفية أعماله والفرار من البلاد. ”
وهذا ما حصل في الواقع، إذ أخذ عائلته وهرب إلى بيروت، واستمر على علاقة بالحاج أمين، إذ زاره وقدم له الاحترام في بيروت. وتحدث الحاج طاهر عن علاقته بالحاج أمين:
” كنت في احد السنين في لبنان، وكان يقيم في ذلك الوقت في بيروت سماحة الحاج أمين الحسيني، وإليه ترجع الأمور السياسية في فلسطين. وكان لي مع المفتي سابقة وعلاقات قديمة في فلسطين، فوددت زيارته للتعرف على ظروفه وأموره المعيشية. وكان ينزل في أحد فنادق بيروت الفخمة، وكان له في الفندق جناح خاص تحت تصرفه، مؤلف من مطبخ وغرف نوم، وقاعة واسعة مفروشة للمقابلات. فلما قدمت عليه مع موعد سابق، وبعد السلام والمجاملة، وفي أثناء الحديث ، لفت نظري أحد العمال يدخل المطبخ، ومعه كمية من اللحوم. وحسب ما أعرفه، فإن وفوداً عديدة تزور المفتي في الفندق، ومنهم من يتناول الطعام ضيافة من المفتي. فوددت من ضميري أن أتعرف على الجزار في دكانه لأدفع له نفقات اللحم للمفتي في ذلك الشهر.
” وسألت أحد العمال عن اسم الجزار، والشارع، ورقم الدكان. ولما وصلت إلى الدكان المذكور، التقيت برجل هناك، فبادرته بالسلام ، وقلت أريد صاحب الدكان. فقال : أنا هو. قدمت نفسي إليه، وطلبت منه أن أجري مقابلة . فاستقبلني ببشاشة وترحاب. فسألت: هل أنت الجزار الذي يزود الحاج أمين باللحم ؟ فقال نعم. فقلت: أتسمح لي بسؤال آخر، أنا خجلان منه، لأنه ثقيل المنطق، فأرجو المعذرة . فقال: تفضل اسأل، ولك مني الجواب. فقلت: من أي طائفة أنت، وأنت في لبنان المعروف بكثرة طوائفه ؟ فأجاب: أنا مواطن لبناني، أباً عن جد، وأنا أحد أبناء الطائفة الدرزية. فأنهيت الحديث معه بعد أن قدم لي الضيافة، وشكرته على حديثه الشيق، الذي إن دل على شيء فإنما يدل على أدبه.”
راجع الحاج طاهر المفتي، معترضاً على أكل المسلم من ذبيحة الدرزي، فاحتد المفتي، وقال: ” هذا غير صحيح. فهم مسلمون، يذبحون حسب الشريعة.”
————-
لايزال يعيش في المزرعة القريبة من المطحنة ثلاث عائلات من قرمان، ولدان، وأخيه. وقد زرت بيت ابنه درويش وزوجته الأديبة سعاد، ولا يزالان يعيشان في بيت واسعٍ لا يمكن لزمنٍ قصير أن يزيل عزه. ولا أوافق على قول الشاعرة سعاد قرمان أنه ينطبق على عائلتها القول: ” جعلوا أعزة أهلها أذلة !” إذ لا يزالون في عزٍ صعبٌ محوه. ولكن قد ينطبق عليهم القول” لكل زمانٍ دولةٌ ورجال “.
مزرعة قرمان، والسهل الخصب الذي تمتلكه العائلة يعتبران أطراف الجليل الأدنى. وكانت العائلة تمتلك حوالي ال 3000 دونمٍ من السهل والوعر، وخسرت 550 دونم حصة غائبٍ، رغم أن حصة الغائب الفعلية كانت أقل من ذلك. مباني المزرعة، والإسطبلات، ومساكن نومٍ لأربعين عائلةٍ من ترشيحا لا تزال قائمة. كانوا يشتغلون في مختلف الأعمال، فطموحات الحاج طاهر كبيرة، وحقق في حياته ما لم يحققه غيره. فمن بائع هريسةٍ وجمّال في خدمة الجيش العثماني، إلى مقاول نقلٍ، استفاد من الفترة الانتقالية بين نهاية الحكم العثماني واحتلال فلسطين من الجيش البريطاني، وتحول فلسطين إلى معسكر ضخمٍ للجنود، وأصبح من كبار رجال التموين في حيفا، وأسس أكبر شركة دخانٍ مع شركاء ” قرمان – ديك – سلطي ” ، وتاجر في الأراضي التي أخذت قيمتها ترتفع بشكلٍ هائلٍ مع توسع النشاط الاستيطاني الصهيوني، ومعصرةً للسمسم، ومصنعاً للحلاوة، ومعصرةً للخروب، وطوّر مزرعةً نموذجية، فكان أول من أدخل زراعة البوملي والأفوكادو، وربى أبقاراً حلوبة، فكان يورد ألف لترٍ من الحليب الطازج يومياً إلى حيفا، وهي كميةٌ لا يستهان بها في ذلك الوقت، ومدد خطوط كهرباء وهاتف للمزرعة، وباختصار أقام مشروعاً صناعياً تجارياً لم يكن له مثيلٌ في فلسطين العربية. ولكن كل هذا انهار مع انتهاء الانتداب البريطاني لفلسطين، ولم تكن لدى الحاج طاهر الإمكانية، او الطاقة اللازمة لإعادة عجلة الحياة لهذه الإمبراطورية.
أمضى الحاج طاهر أواخر أيامه في المزرعة، ينتظر وعود عزام باشا والحكومات العربية، بالانتصار العربي المظفّر. وانطبق على العائلة ما عبرت عنه سعاد قرمان: ” طلعنا لا مع سيدي بخير، ولا مع ستي بخير!”.