ابتسام : قصة بقلم : راوية وادي – كندا

القصة …..
راويه وادي – فنانة فلسطينية تقيم في كندا ..
وجههُ مستبشرٌ كشمسِ الصبحِ حينَ البزوغِ، و ناصيتهُ بيضاءَ كشراعِ السفينةِ المرفوع- و إن كانَ عددُ السنينِ عليها مطبوعُ- و عيناهُ اللوزيتان المغمستانِ بالعسلِ المنقوعِ، و رأسهُ المرفوعِ الى الأفقِ الأزرقِ يراقبُ الغيمَ المسافرِ الذي ضنَ على الأرضِ بالوصلِ، و ابتسامتهُ الغامضةِ التي استعصت على الترجمةِ … أثارت حفيظةِ صاحبه علي الذي أقدمَ عليه … فسأله مازحاً: ماذا تعني هذه الإبتسامة؟
التفتَ إليه صالحٌ كأنما أفاقَ من نومٍ، أو كمن هبط َمن كوكبٍ لكوكب، و قالَ لصاحبهِ أتدري أن هناكَ مثلاً صينياً يقولُ:”كلُ ابتسامةٍ .. تجعلك أصغر بيومٍ.” علقَ عليٌ قائلاً: حسناً لا تريدُ أن تقول … فهمت. سارا جنباً الى جنب ٍ في صمتٍ لدقيقةٍ ثم التقت عيناهما معاً و في نطقا معاً: أتدري!! و بدأ يدعو أحدهما الآخرَ للحديثِ أولاً .. ضحكا من القلبِ كطفليين صغيرين. مرَ عليهما رجلٌ في الطريقِ … لحظةٍ فعلقَ على حوارهما الباسمِ، و قالَ لهما:”عسى الله أن يسعدُ أوقاتكم بالسعادةِ فكم نشتهي من ينشرُ الابتسامَ و الفرحَ بيننا، و أكمل: نشتاقُ لرؤيةِ شخصٍ يضحكُ، و قد أعتمتُ الوجوهُ كما القلوب.” مضى الرجلُ في طريقهِ و قد لاحت على وجههِ ملامحُ الاستبشار.
كانَ البحرُ هو الفضاءُ الوحيدُ الحرُ … الذي يستطيعُ قلبُ كلُ منهما السباحةَ فيه بحريةٍ … ليغسلُ كل منهما همومهُ و يستعيدُ ثقتهُ بنفسهِ و يستحثُ همتهُ للتعايشِ مع أزماتهما اليومية. كانا يلتقيان هنا منذ طفولتهما، و حتى أصبحا في أواخرِ الستينياتِ من العمر. هي المرة الأولى التي يحسان بها بملوحةٍ ماءِ البحرِ تنكأ الجراحَ، و أحسا بالحرقة التي الهبت صدريهما. في هذه الزاوية من شاطيء غزة الصامدِ، حيث يستعيدان الذكريات ويرددان قائمةِ أحلامهما التي لم تتحقق،ِ و صعوبات العيشِ التي لم تتغير. و لكن الجديدَ الذي يؤلمهما كثيراً ولا يستطيعان تقبله ُ …أن يرث َ أبناؤهم نفسَ الصعابِ و الهموم. بدأ صالحُ قائلاً: تعلمُ أن أبي كان حداداً، و حين كتبَ وصيتهُ … جمعنا أنا و اخوتي، و أخبرنا بما كتبَ لنا فيها، و قد فوجئتُ أنا دونَ إخوتي بالوصيةِ، فقدْ تركَ ليَّ دكانَ الحدادةِ الصغير، و تركَ لإخوتي البيتَ و الحاكورةَ(حديقةٌ كبيرةٌ تابعةٌ للمنزلِ بها شجرٌ مثمر). لمْ أستطعْ تقبلْ الأمرَ .. و أنا خريجُ كليةِ التجارةِ، و قد كنتُ أنتظرُ وظيفةً تتلائمُ مع مؤهلاتي العلمية. أذكرُ أن أبي قالَ لي يومها: لا تستعجلْ الحكمَ يا ولدي، فأنا لمْ أتركْ لكَ الدكانَ .. إلا لأنكَ تحبُ الناسَ و لا تفارقُ شفتيكَ الإبتسامة. و لم أفهمْ حينها. تعلمُ أننا .. أنا و إخوتي كنا نمضي جلَ الوقتِ- الذي لم نكنْ ندرسُ فيه- مع أبي في الدكانِ، و كانَ أبي يبذلُ جهداً كبيراً في العملِ ليضمنَ لنا مستقبلاً مشرقاً رغمَ اعتلالِ صحتهِ، و كنتُ أشفقُ عليهِ من العملِ، و كنتُ أحرصُ أن أداعبهُ و أمازحهُ، و أحاولُ الترفيهَ عنه. أذكرُ أنه قالَ لي مرةً: أتدري يا صالحُ أني أحبُ أن تكونَ معي و أنا أعملُ .. فأنت تفرحُ قلبي و تعطيني قوةً و طاقةَ كبيرة. فسألتهُ ذلك اليومَ: لماذا؟ قالَ باسماً يأتي اخوتكَ مرغمين عابسيين … فأحملُ همهم فوقَ همي، و يتحينون الفرصةَ لمغادرةِ الدكانِ رغم أنهم يحسنونَ الصنعةَ مثلكَ .. و ربما أكثر، و لكنك يا بني حفظكَ الله تنشرُ الفرحَ والأملَ لكلِ من يزورُ الدكانَ و يتعاملُ معه، فو الله أحسُ أن بعضَ الزبائنِ يأتون لأجلِ ابتسامتكَ و روحكَ الطيبة.
بعد لحظة صمت غمرتهما، قال صالحٌ: لقد كنتُ أقرأُ مقالاً هذا الصباحَ عن الإبتسامِ، و قدْ أسهبَ الكاتبُ في تفسيرِو تحليلِ تأثيرهُ على النفسِ البشريةِ، و دلالاتهِ على الرضا و طمأنينةِ النفسِ، و حثَ الكاتبُ الشبابَ على التفاؤلِ، و استشهدَ على ارتباطِ الإبتسامِ بالنجاحِ في العملِ بمثلٍ صيني يقولُ:”إذا كنتَ لا تستطيعُ الابتسامَ …. فلا تفتحْ دكاناً.” تذكرتُ أبي و ترحمتُ عليهِ … فقدْ كان َحكيماً بفطرتهِ، فأنا لا زلتْ أملكُ الدكانَ و قدْ اتسعَ لي و لأولادي . تمنيتُ أن أورَّثَ أولادي ابتسامتي التي حرصتُ عليها، و لكني لمْ أحسُ بإيمانهمِ بها. سألتُ نفسي هذا الصباح -و أنا أسمعُ شكواهم ليلاً و نهاراً .. عن شهاداتهمِ المعلقةِ على الجدرانِ بلا وظيفةٍ و لا عملٍ… سوى مساعدتي في الدكانِ أو أسمع أمانيهم ورغبتهم في السفرِ أو الزواجِ أو الإستقلالِ. يظنون أن تبسمي الدائمَ من ضعفٍ و قلةِ استيعابٍ لما يعانون، و لا يدرون أن ما يمرون بهِ الآن … هو نفس ما عاناه جيلنا بلا تغييرٍ أو تبديل. يظن أولادي أن بقلبي جبالٌ من ثلجٍ من البلادةِ لا يذوب، و لا يدرونَ أنَ الحديدَ الذي أصهرهُ بالنارِ أسرعُ احتراقاً من القلقِ و الخوفِ عليهم و الذي لا يطفؤهٌ لا ماءٌ و لا ثلجُ. نظر الى صاحبهِ متسائلاً: ترى أكان خطئي أني لم أبدي لهم معاناتي و تعبي و اعتلال صحتي و عمري الذي يذوي و أنا أكابدُ صعوباتِ الحياةِ، و تكاليفِ العيش، و حرصي الدائمَ أن لا يحملوا همي….. لقد كنتُ أبتسمُ و أضحكُ و أمازحُ أبي حباً به و خوفاً عليه و اشفاقاً على صحتهِ و هو يكدُ من أجلنا … أهو خطئي؟
رد عليٌ مواسياً صديقَ عمرهِ: لا عذرَ لأحدٍ في تجاهل أو انكارِ الحق في ردِ الإبتسامة و السلام كائناً من كان . زفر صالح أنفاسه التي كانت عالقةً في حلقه من الألم و قال لصاحبه: لقدْ أتيتُ هذا الصباحُ هنا بانتظاركَ و قدْ ملأني اليأسَ، و أحسسْت أن ابتسامتي قد ضاعت، و روحي البشوشةَ قد غرقتْ في البحرِ بعدَ عاصفةٍ هوجاءَ من تكالبِ غيمِ الهمومِ و حلكتها. و لكنك يا صديقي أتيتَ …فتهادى القلبُ يلتقطُ أنفاسهُ مرتاحاً .. فأنت تملأُ قلبي باليقينِ .. أن الدنيا ما زالت بخيرٍ و بها ما يستحقُ الابتسام. ضحكا معاً .. كما فعلا دائما.