اصدارات ونقد …..
بقلم رشيد لمهوي …
عندما تشرع في قراءة كتاب هذا ما تبدو عليه أمريكا: رحلتي من لاجئة إلى عضو في الكونغرس لمؤلفته إلهان عمر لا يمكنك أن تغلقه للوهلة الأولى، لأن أحداثه ستشدك ولن تقدر على الإفلات منها؛ هي أحداث ستسلب نفسك ولبَ عقلك وتجعلك تستمر في متابعتها إلى النهاية. لأنها أحداث مليئة بالتشويق مصاغة بلغة سلسة وانسيابية.
يقع الكتاب في 275 صفحة من القطع المتوسط. وقد صدر في العام الجاري للناشرHarper Collins Publishers
تبدأ إلهان عمر سيرتها الذاتية في الحديث عن تلك الرسائل اللامتناهية التي عٌلقت على حائط Capitol Building عندما نجحت في الوصول إلى الكونغرس كنائبة برلمانية لولاية منيسوتا. وهي رسائل تعبر بعمق شديد عن الثناء والمديح والتشجيع الذي لاقته من طرف مناصريها من كافة البقاع، من دولوت إلى دلهي. ومن مضامين ما جاء في هذه الرسائل أنها تعتبر عمر هي الصوت الذي سوف يعبر عن مطالب الناس المشروعة. وأنها الجندي الذي سيدافع عن السلم والعدالة للجميع؛ فالكل سواسية بغض النظر عن الاعتقاد، اللون، اللغة والعرق. دائما ما كانت الكاتبة تتساءل في قرارة نفسها عن المكان الذي سيليق بها خلال تلك الأيام السوداء في الصومال التي عاشتها تحت القصف المستمر. لذلك فهي تقول إن أهم عبارة التقطتها من ركام العبارات المنحوتة على الجدار عبارة” أنت تنتمين إلى هذا المكان”.
إن المتأمل في ثنايا هذه السيرة الذاتية سيكشف لا محالة توظيفا متكررا لمفهوم الصراع. وهو صراع من أجل البقاء، من أجل عالم أفضل، إن لم نقل عالم يوتوبي. وعندما نعود إلى كنف المتن السردي للكاتبة سنتوقف في فصل معنون الصراع؛ فمنذ نعومة أظافرها وإلهان عمر تمقت الظلم واللامساواة، والافراط في التعالي وفرض السلطة بالقوة والشطط في استعمالها. في هذا السياق، تعود بنا عمر بذاكرتها التي لم يتسلل إليها مرض النسيان، وبالضبط إلى تلك اللحظات الزمنية من طفولتها، وعلى وجه الخصوص إلى سنوات الدراسة. وتحكي بمرارة وبتفصيل دقيق عن أشكال التنمر التي واجهتها في شخصها وبعض من زملائها في حجرات الدرس. بحيث تروي كيف أنها كانت تقف أمامها بالمرصاد وبروح لا انهزامية، وتتصدى لها بشجاعة وحزم. تروي عمر قصتها عن ذلك الزميل ذو القامة الطويلة والطبع الحاد والمتسلط، وكيف أنه شتم أم أحد زملائه شتيمة يندى لها الجبين. لم تستسغ عمر هذه الوقاحة وخصوصا أن الشتيمة مست الأم بوصفها جوهر الوجود، وأن الجنة تحت أقدام الأمهات. إذن، يجب تقديم الاحترام لها عوض الحط من قدسيتها. فلقنته درسا لا ينسى. علما أن إلهان عمر قد افتقدت لحنان الأم، فهي لم تتذكرها لأنها فارقت الحياة وهي في عمر صغير. لكن عماتها حاولن بقدر المستطاع أن يعوضوها هذا الافتقاد الامومي
اندلعت الحرب الأهلية في الصومال وكانت عمر حينها تبلغ من العمر ثمانية سنوات. تصف لنا بعيون طفل بريء مدى هول الحرب وما تخلفه من ورائها من دمار وشتات. تصف تلك السلسلة من الصواريخ التي تسقط من السماء ليس فقط على المباني بل على رؤوس الأرواح التي تسكنها؛ أرواح لا تعرف السكينة، بل هي دائما تترقب ماذا سيحدث بحيث تترقب غالبا الأسوأ. ومن أجل البقاء على قيد الحياة، قررت عائلة إلهان عمر أن تفلت بجلدها إلى بيت الجدة العظيم. وهي في طريقها تصف بعيونها البريئتين الجثث المتراكمة مثل القش في الشوارع حتى أنهم باتوا يتخطوها وأحيانا تطأها أقدامهم.
ما يحرك الذات الإنسانية هو التوق الشديد إلى الحياة. وهو الأمر نفسه الذي تختبره عائلة عمرفي بحثها عن حياة سعيدة وآمنة. فقد قررت الرحيل إلى كينيا وبالضبط في مخيم للاجئين The Utange. يبعد بخمسة كيلومترات غرب ميناء Mombasa. في المخيم لا وجود لبنية تحتية، في أفقه يبدو الخلاء، أرض قاحلة. تسرد لنا عمر ما عاشه الناس النازحين من هول الحرب حيث تقول” هربنا من الرصاص الذي يحلق فوق رؤوسنا، ومن المجاعة. لكن اكتشفت مع مرور الوقت أن مخيم Utange يخفي بداخله أخطار أخرى منها الملاريا، الاسهال الحاد، وأمراض الجهاز التنفسي، وهي أمراض كانت متفشية في المكان. كما يفتقد المخيم إلى شروط النظافة والعناية الصحية. واللاجئون الذين يقطنونه يعانون من سوء التغذية ومن ضغط نفسي هائل”.
هي سلسلة قرارات لامتناهية من الرحيل. لكن هذه المرة كانت الوجهة إلى الضفة الأخرى وبالضبط في الولايات المتحدة الأمريكية حيث استقرت في البداية في أرلينغتون، فرجينيا قبل أن يعدوا عدة الرحيل مرة أخرى إلى منيابوليس ولاية منيسوتا. التحقت خلالها بالثانوية Edison High School حيث عملت على تطوير العلاقات بين الطلاب وجعلهم كيان موحد تنصهر فيه الاثنيات والخلفيات الثقافية من خلال العمل الجماعي المشترك على أساس أن عمر كانت فاعلة ومتمرسة في هذا المجال. كما التحقت بجامعة نورث داكوتا لتنال درجة البكالوريوس في العلوم السياسية والدراسات الدولية. وفي عام 2016 انتخبت عضوا في مجلس نواب منيسوتا عن الحزب الديمقراطي. بالنسبة إلى العمل السياسي كما عاشته عمر فيه من المكابدة والعناء قد يقصم الظهر، لكن كذلك فيه من النجاحات تنسيك تلك التعثرات السابقة. وقد عاشت عمر كما جاء في الكتاب مجموعة من المؤامرات الدنيئة التي حاولت أن تحط من شأنها. لكن عمر من طينة أخرى، فهي شبيهة بالمرأة الحديدية مارغريت تاتشر، وهي بالمناسبة قدوتها في الحياة كما روت ذلك في كتابها. وهي لا تهاب الصراع والمواجهة البثة، حيث أكدت على أن الصراع ليس خيارا بالنسبة إليها، بل هو جزء لا يتجزأ من كينونتها.
ونختم بالكلام الذي وجهته إلهان عمر أثناء فوزها حيث قالت: ” هذا فوز لكل شخص يٌقال له أن هناك حد لأحلامه. أريد مساعدة أولئك الذين يستصغرون أنفسهم على أنهم ذو شأن، أن أمنح القوة لأولئك الذين يعتقدون أنهم ضعاف الهمة. لأجعل أولئك غير القادرين على إسماع أصواتهم أن يكونوا قادرين على أن ينتفضوا ويتكلمون بصوت عال. بالنسبة لي هذا هو الحلم الأمريكي”.