فن وثقافة ….
بقلم : د . سمير ايوب – الاردن …
تبدأ القصة عند ولادتي . كنت حينها الإبن الوحيد ، لإسرة شديدة الفقر . لم يكن لدينا من الطعام ما يكفينا .
وإن وجدنا بعضا من الطعام ، كانت أمي تعطيني نصيبها منه . وهي تقول : يا إبني تناول هذا الأكل . فأنا لست جائعة . وتلك كانت (كذبتها ) الأولى .
وعندما كَبُرْتُ قليلا ، اصطادت ذات يوم عصفورين . طبختهما وقدمتهما لي . وضعت واحدا منها امامها لتأكله . فأعادته لي فورا ، وهي تقول : تناول العصفور الثاني يا ولدي . ألا تعرف أني لا احب لحم العصافير ؟ وكانت تلك ( كذبتها ) الثانية .
وعندما صرت في سن الدخول للمدرسة ، لم يكن معنا ما يكفي من المال لمصاريف الدراسة . اتفقت مع احد محلات بيع الملابس المستعملة على بيعها لربات البيوت ، مقابل اجر زهيد . وفي ليلة شتاء ممطرة شديدة البرودة ، رجوتها ان لا تخرج للبيع لترتاح . ابتسمت أمي ، وقالت : يا ولدي انا لست مرهقة . وكانت تلك ( كذبتها الثالثة ) .
ويوم امتحان آخر السنة ، كان يوما من ايام تموز شديدة الحرارة ، أصرت امي على ان تنتظرني على باب المدرسة . احتضنتني عند خروجي من الامتحان . وناولتني كاسة من شراب بارد لأطفئ بها لظى الحر . نظرت الى وجهها ، فوجدت العرق يتصبب منه . فناولتها على الفور كاسة الشراب . وقلت لها : اشربيها يا أمي أنت الأولى بها . فردت وهي تداعب شعري : إشربها أنت يا ولدي ، أنا لست عطشانه . وهذه كانت ( كذبتها ) الرابعة .
وبعد وفاة أبي يرحمه الله ، باتت ألحياة أكثر تعقيدا ، وصرنا نعاني من الجوع . عندما رأى الجيران تدهور حالنا من سئ إلى أسوأ ، نصحوا أمي ، وكانت في حينها ما تزال شابة جميلة ، بأن تتزوج رجلا ينفق علينا . ولكنها رفضت الزواج قائلة : أنا لست بحاجة للحب . ( وتلك كانت ( كذبتها ) الخامسة .
حصلت بعد التخرج على وظيفة جيدة . وقررت ان الوقت قد حان لتستريح امي وتترك لي مسؤولية الانفاق على المنزل . رفضت أن تترك العمل في بيع الخضار المجهزة في السوق . فخصصت لها جزءا كبيرا من راتبي . رفضت أن تأخذه ، قائلة : احتفظ بمالك يا ولدي . معي من المال ما يكفيني . وكانت هذه هي ( كذبتها ) السادسة .
وفقني ربي لأرتقي سريعا في عملي ، بفضل تواصل رضى أمي ودعواتها وإجتهادي . وإنتدبت للعمل في مدينة اخرى بعيدة عن مدينتنا . وسرعان ما هيأت الظروف السكنية والمعيشية . وإتصلت بأمي أدعوها لي تقيم معي . ولكنها قالت : يا ولدي ، لست معتادة على المعيشة المترفة . هنيئا لك . وكانت هذه هي ( كذبتها ) السابعة .
كبرت أمي . صارت في سن الشيخوخة . واصيبت بمرض السرطان اللعين . تركت كل شئ . وعدت لزيارتها في منزلنا . وجدتها طريحة الفراش بعد إجراء العملية لها . حاولت أن تبتسم لي عندما رأتني مقبلا عليها . كان كل ما فيَّ يئن . كانت هزيلة جدا وضعيفة . ليست أمي الجبارة التي أعرفها . إنهمرت دموعي . ولكن أمي حالت أن تواسيني . فقالت : لا تبك يا ولدي . فأنا لا أشعر بالألم . وكانت هذه هي ( كذبتها ) الثامنة .
وبعدما قالت لي ذلك ، أغلقت عينيها . ولم تفتحهما بعدها أبدا .
أحبك يا أمي . اسأل الرحمن الرحيم لك رحمة ومغفرة واسعة وجنات المتقين .