أمراض عربية: لا نعرف كيف نختلف؟!

دراسات (:::÷)
د. فايز رشيد – فلسطين المحتلة (:::)
من الطبيعي ان يختلف البشرفي وجهات نظرهم, ذلك كان منذ بدء الخليفة ، وهو موجود  وسيظّل  ما بقيت حياة ، ومادام هناك ناس يعيشون على وجه البسيطة . غير ان من اللامعقول ، ان يصل الاختلاف إلى حد الإسفاف في كيل الاتهامات والاخرى المضادة بين شخصين يحملان وجهتي نظر ومختلفتين ، وان يجري شخصنة هذا التعارض للهجوم على ذات الآخر ، في محاولة تسفيهه وتحطيمه ، والنيل منه ومن شخصه ومن معلوماته .. إلى غير ذلك من اشكال بعيدة كل البعد عن احترام الرأي والرأي الآخر ومقولة (الاستعداد للتضحية بـ “الانا” في سبيل “االأنت”!) ، بما يعمل على تحريف ثقافة الاختلاف ، وضياع المعلومات (هذا ان وجدت) ، وبقاء الصراخ كظاهرة ، والشتم كحقيقة ، والتشنج كمشهد ميلودرامي مقيت وكريه ، بعيد عن العقل والمنطق والحضارة ، واصول الإختلاف ، بل يقع خارج اطار المنطق والمكان والزمان ايضا.
تترافق هذه المسألة ، مع قضية أخرى ، وهي تقييم الآخر ، فاذا كنا نحب انسانا ، نراه في صورة نقية ناصعة البياض  بعيدة عن اي خلل ، واذا كنا نكرهه لموقف شخصي (على سبيل المثال) ، نراه اسودا بعيدا عن أية صفة إيجابية في ذاته أو في آرائه فإما ابيض واما اسود  بعيدا عن التقييم الصحيح ، الذي يقّر بالايجابيات والسلبيات ، وهي الموجودة بالطبع في مطلق انسان . أي أننا ننفي وجود اللون الرمادي!. الغريب  هو انقلاب مواقف البعض منّا مائة وثمانين درجة بالنسبة لتقييم ذات الشخص نتيجة لخلاف صغير في الرأي معه فتنقلب صورته في ذات كل منّا من صديق حميم إلى عدو غشيم وإلى شيطان رجيم!.
مناسبة القول : ما نقرأه في بعض الصحف من لغة حوار شوارعية بذيئة ، وما نشاهده في بعض برامج الفضائيات من أساليب اختلاف  ممجوجة ومبتذلة  لا يستفيد منه المشاهد شيئا ، بل هي أقرب إلى مصارعة الثيران  منها إلى لغة الحوار البشري العَقلاني ، وبخاصة بعد (حقن) طرفيها بعناصر الاثارة واستعداء كل طرف على الاخر!.مؤخرّا زاد استعمال حتى الأحذية بين المتحاورين على الفضائيات, أحدهم لم يكتفِ برميِ زميله ( المُفترض أنه كذلك!) بالحذاء بل سحَبَ عليه المسدس، ولولا (فزعة) مقدّم البرنامج لربما أطلقَ عليه الرصاص وقتله…لماذا؟لأنه يختلف مع رأيه! ثقافة ما بعدها ثقافة ! تصوّر أنك إذا دُعيت لحوار على إحدى الفضائيات العربية, فمن الضروري لك ارتداء سترة واقية من الرصاص وخوذة للرأس،وسدّادة للأذنين من أجل حماية السمع لديك ربما من احتمال  تفجير قنبلة أو استعمال قذيفة مدفع أو ر
بما صاروخ! تصوّر أنك بحاجة إلى البحث عن أحذية مستعملة لاستعمالها في الحوار( فالأحذية البالية بمعانيها أكثرُ وقعا من حيث التأثير)!، فلربما يقوم محاورك برمي حذائه في وجهك، ومن أجل أن لا تجعله ينتصر(وهذا عيب في حقّك) عليك أن ترميه بحذائين وذلك (حتى تردّ الصاع صاعين) و( ما فيش حدا أحسن من حدا)!.
ندرك أن عامل (الإثارة) هو وحده ، الذي يتحكّم في نشرأو مشاهدة مثل تلك الحوارات والتي لا تعود بفائدة لا على المشاهد (الذي أصبح يترقّب الطوشة ليتفرّج عليها فقط دون أي  انتباه للحوار فهو أصبح لا يعنيه وغير مهتم بالمعلومة!) ولا حتى على مقدّمي هذه البرامج إلا إذا كانوا يعتقدون بأنهم (يؤسسون لمدرسةً في لإسفاف؟ وإلا إذا كانوا يعملون على ترسيخ قواعد هذه المدرسة! وشخصيا لا أعتقد أن هناك مثل هؤلاء البشر موجودون! ) وإلا إذا كانوا يعيشون الهاجس الشخصي وحب الاشارة إليهم بالبنان ، بعيدا عما يدّعونه من اهداف . تلك المقالات وهذه البرامج لن تعود بأية فائدة لا على فضائياتها االأم ولا على المشاهدين بالطبع .. وهي (ان استطاعت خداع كل الناس ، بعض الوقت ، او بعض الناس كل الوقت ، فلن تستطيع خداع كل الناس ، كل الوقت) والأجدر بالقائمين على تلك الصحف وهذه الفضائيات مراجعة النفس في مدى فائدة استمرار هذا النمط الاسفافي في الحوار ، الذي استنفد اغراضه (الثانوية) منذ زمن طويل واصبح عبئا ليس على الفضائيات فحسب ، وإنما على المشاهدين ايضا!.
الاختلاف هو ثقافة ، والاسفاف هو ايضا ثقافة (للأسف) والاخير هو حجة من لا يملك المعلومات ، وهو دليل ضعف اكثر منه عنصر قوّة ، وإلا كان الردّاحون في التاريخ هم اكثر من يملك المعلومات ! وهذه المسألة مجافية للحقيقة.
المصابون بعقدة النقص هم الاكثر علوّا في أصواتهم ، وهم الاكثر ادّعاء بـ “امتلاك الحكمة والحقيقة المطلقة” وهم ليسوا كذلك, والمُطلق  بالطبع هو خارج القدرة الانسانية ، فـ “جلّ الذي لا يسهو ولا يخطئ” . هؤلاء هم المثقفين الدكتاتورين وقال عنهم المفكر العربي : محمد عابد الجابري (يحتوون في أوساطهم من هم اكثر قمعا إن تولوا المسؤولية من اكثر الدكتاتوريين تطرفا) ، ولذلك تراهم يضيقون ذرعا بالنقد الذي يوجّه اليهم … مع العلم ان واحدا من اعظم رجالات التاريخ العربي ـ الاسلامي ، وهو الخليفة العادل (الفاروق) : عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ، كان وهو خليفة المسلمين يفتح صدره للنقد من اي كان  من عظماء القوم ومن أبسطهم ، وهو لم يصغر بذلك ، بل ازداد علوّا وعظمة, ألم يئن الاوان لبتر عملية الترويج لثقافة الاسفاف في الاختلاف؟.