هل تضيع قداسة القدس بين متاهات مفاهيم القضية!!؟: بقلم د . عبد الوهاب القرش

دراسات …..
بقلم د . عبد الوهاب القرش – باحث في الشئون الاسلامية …
لقد سبق تقديس الأماكن المقدسة كل تأملات الإنسان في طبيعة العالم، وقد كانت قداسة المكان قاسماً مشتركاً بين شتى الثقافات، ويعد الإيمان بها من أساسيات العقائد الدينية الأولى في حياة الإنسان، وأن ما يعرف بـ” الجغرافيا المقدسة” قد أثر ولا تزال تؤثر في تاريخ القدس، فإن ما تتميز به قداسة هذه المدينة لا يعود إلى الأسباب التي تكسب الأماكن قدسيتها كذكريات الطفولة، أو الخبرات الذاتية، أو العلاقات بشخوص ما في تلك الأماكن، بل إن قداسة هذه المدينة وفي مركزها بيت المقدس، تعود إلى ماورد بشأنها في الكتب السماوية المقدسة، وما شهدته أرضها من أحداث كان رسل الله و أنبياؤه شخوصها الرئيسية.
وبالرغم من أن ضمير الأمة ما زال حياً قابضاً على قداسة مدينة القدس، إلا أن البعض قد أصيب بما يشبه اليأس من إماكنية استمرار القبض على قداسة هذه المدينة، تلك القداسة التي تنزوي وتخبو و تتساقط عن مدينة القدس، نتيجة لتعدد المستويات التحليلية لمفاهيم مشكلة القدس، حيث يعتبرها البعض (صراعاً بين الشرق والغرب) يجري على أرض فلسطين، في حين يعتبرها بعض أخر (صراعاً فلسطينياً -إسرائيلياً) ، ويعتبرها آخرون بأنها (صراعاً عربياً – إسرائيلياً) ،أو (صراعاً عربياً – يهودياً) ، أو (صراعاً إسلامياً – يهودياً ) ،أو (صراعاً عربياً – صهيونياً ).
الحق أقول: يشوب كل هذه المفاهيم الخلل والقصور ، و لا نرى في أي منها المفهوم الأنسب أو الأمثل لتحليل القضية الفلسطينية، وفي القلب منها قضية القدس، لما يترتب على هذا أو ذاك – من أوجه الخلل أو القصور – من نتائج سيئة تضعف الموقف (الفلسطيني/العربي/الإسلامي)، في قضية القدس، أو تفقد هذا الموقف بعض عناصر قوته..وفي الوقت نفسه لا تعبر عن كل مكونات أو عناصر الطرف الآخر في الصراع (الحركة الصهيونية)..وبيان ذلك في التالي:
إن مفهوم(صراع الشرق والغرب) فيه من العمومية والتركيب والتعقيد ما يكفي لاستبعاده ، درءاً للتشتيت المترتب على استخدامه في تحليل المشكلة.
أما مفهوم (الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي) فهو يختزل أبعاداً وأعماقاً أخرى – في الصراع إزاء فلسطين والقدس – تُعد من المكونات الأساسية لموقفي طرفي هذا المفهوم أي (الموقف الفلسطيني- والموقف الإسرائيلي) ؛ إذ ليس الفلسطينيون وحدهم المسئولين تجاه القدس ، أو تجاه فلسطين ، بل يشاركهم هذه المسئولية العرب والمسلمون ، كذلك يغفل هذا المفهوم أن وراء إسرائيل تحالفاً ضخماً ممثلاً في حركة الصهيونية العالمية والحركة الاستعمارية الغربية ، يشاركها مشاركة تامة موقفها في الصراع.. بل إن هناك من يذهب أبعد من ذلك فلا يكتفي بأن يسقط عن الفلسطينيين الحزامين أو الجدارين أو البعدين أو العمقين (العربي والإسلامي) بل يجعل الفلسطينيين وحدهم – طرفاً في مواجهة الحركة الصهيونية على إطلاقها- وليس إسرائيل فحسب.منشئاً بذلك مستوى تحليلياً جديداً.
ويقف مفهوم (الصراع العربي- الإسرائيلي) بالطرف الأول في هذا الصراع عند بعده القومي فحسب، مسقطاً عنه أهم مرجعية عقائدية يستند إليها، وتكفل له دعم العالم الإسلامي، إضافة إلى أن موقف العالم الإسلامي في صراع لا تمليه العقيدة فحسب، بل أصبح صراعاً مصوغاً في التزام قانوني على دول هذا العالم، كما تقرر في ميثاق المؤتمر الإسلامي، كذلك فإن هناك معايير أخرى تتعلق بالأمن القومي للنظام الإقليمي الإسلامي، تؤكد موقف هذا العالم الإسلامي إزاء فلسطين والقدس؛مركز هذا العالم.
ويأتي مفهوم (الصراع العربي-اليهودي) مرادفاً للمفهوم السابق، باعتبار المعني القومي لليهودية، أي استناداً إلى ما يزعمه اليهود من نقاء جنسهم، أو أنه لم يعتنق اليهودية غير بني إسرائيل (من طريقي النسب أماً وأباً).
أي إن المفهوم يقف عند حد الصراع القومي بين بني إسماعيل وبني إسرائيل. غافلاً عن القومية العربية أو الشعب العربي أصبح جزءاً من أمة أكبر، هي الأمة الإسلامية أو العالم الإسلامي الذي يدعم، بل يتبنى الموقف العربي تجاه (قضية فلسطين والقدس)تحديداً.
كذلك يغفل هذا المفهوم عن أن القطاع الكبير من القومية اليهودية أو الشعب اليهودي – وهم الصهاينة ، الذين ينازعون الشعب العربي، في فلسطين والقدس، ليسوا وحدهم ، بل إنهم تحالفوا واستنصروا في هذا الصراع أو النزاع بالحركة الاستعمارية الغربية؛ لما لها من أهداف في الأرض ذاتها.
إن مفهوم (الصراع الإسلامي-اليهودي) يوحي – لما يتضمنه من المقابلة بين الإسلام واليهودية – بل الصراع (بشأن مشكلة فلسطين والقدس) هو صراع أديان ، وهذا أمر مستبعد في الواقع ، وإن استند كل من طرفيه في جملة ما يستند إليه – إلى حجج دينية.
الحق أقول: ليس الصراع بشأن فلسطين والقدس دينياً ، لسببن:
أولهما: يتعلق بطبيعة موضوع هذا الصراع؛ إذ أنه ينصب على قضايا (عينية) وليست قضايا (غيبية). فالقضايا الغيبية هي السمة الغالبة في صراعات الأديان.
ثانيهما: يتعلق بطبيعة طرفي الصراع ، فإذا كان طرفه الأول هم المسلمين جميعاً الذين يعتقدون بحقهم – ممثلين في الشعب الفلسطيني – في أرض فلسطين والقدس، والسيادة عليها (شعباً وأرضاً ومقدسات)، فإن الطرف الثاني لا يشمل اليهود جميعاً ، بل الصهاينة فحسب ، الذين اغتصبوا هذه الأرض واستنصروا في اغتصابها بآخرين غير اليهود.
فالمسلمون لا يتصارعون – بشأن فلسطين والقدس – مع اليهود ، وإنما يتصارعون مع من اغتصبوا أرضهم ، أي الصهاينة وحلفائهم.
يقف مفهوم(الصراع العربي- الغربي”الامبريالي-الصهيوني”) بالطرف الاول في الصراع عند بعده القومي فحسب ، كما سبقت الإشارة في تحليل مفهوم (الصراع العربي- الإسرائيلي)، بينما يذهب بطرفه الثاني ، إلى دائرة (الغرب) كافة، في حين أن الغرب كله ، ليس طرفاً في هذا لصراع، وعند التزام هذا لمفهوم للدقة فيما يقصد بالغرب- كطرف في الصراع – يكون بحاجة إلى صفة لازمة ملحقة ، توضح أن الغرب المعني هنا هو (الامبريالي-الصهيوني).
ويأتي مفهوم (الصراع العربي الإسلامي-اليهودي) مقبولاً في شقه الأول فحسب (العربي الإسلامي)؛ باعتبار أن الموقف الإسلامي يستوعب الموقف العربي، أو هما متفقان بصدد قضية فلسطين والقدس.
أما شقه الثاني (اليهودي) فهو غير صحيح؛ لما سبق بيانه على المعنى الديني لـ(اليهودي) ، إذ ليس (العرب والمسلمون) في صراع مع (اليهودية)، أم على المعنى القومي لـ(اليهودي)، إذ ليس (العرب والمسلمون) في صراع مع (اليهود)، بل مع الصهاينة من اليهود فحسب.
ويقترب مفهوم (الصراع العربي- الصهيوني) من درجة الصحة المناسبة لطبيعة هذا الصراع- مشكلة فلسطين والقدس -، والمأخذ الوحيد عليه ، هو وقوفه عند البعد القومي (العربي)، للطرف الأول في الصراع . أما بالنسبة للطرف الثاني ، فإن أدق ما يُعبر به ، هو لفظ (الصهيوني).
لكن المفهوم الأنسب والأدق- الذي نتبناه في هذا المقال- هو (صراع إسلامي-صهيوني). باعتبار أن هناك جهوداً فلسطينية ، تعد اللبنة الأولى لجملة الطرف(العالم) الإسلامي؛ باعتبار الفلسطينيين طليعة العالم الإسلامي(في موقع المواجهة) ، مع الحركة الصهيونية العالمية ، وعليهم – شرعاً – عبء المواجهة بداية ، و عليهم الجهاد فرض عين ، وعلى أشقائهم بقية شعوب العالم الإسلامي يكون الجهاد فرض كفاية، وباتساع دائرة المواجهة، تنتقل فرضية الجهاد(فرض عين) تباعاً، فتلزم أولاً من هم على (مسافة القصر) من الفلسطينيين، أي (دول الطوق)، فبقية الدول العربية، فتتصاعد بذلك جهودها أو التزاماتها، وتظل تتسع دائرة فرضية الجهاد فرض عين، على ما بقى من شعوب العالم الإسلامي، باتساع دائرة خطر الحركة الصهيونية العالمية، حتى تشمل- يوماً- كل دول العالم الإسلامي ، شعوباً وحكومات.
د/عبدالوهاب القرش
باحث في العلوم الإسلامية