دراسات …..
بقلم : أنور ساطع أصفري . امريكا .. …
إن الإنهيار القاسي الذي أصاب الحركة السياسية العربية وشلّ حركتها ، فرض التفكير بإعادة بنائها بشكل بنيوي سليم ، حيث بات واضحاً أنها عاجزة عن مواجهة أخطار قائمة سواء الخطر الإقليمي أو الخطر الخارجي ، كما أنها عاجزة عن تحقيق التغيير الداخلي الضروري لتحقيق التطوّر ، وأيضاً لمواجهة الهجوم الإستغلالي للمنطقة العربية والحفاظ على الإستقلال والحرية والسيادة .
لقد حاولت الأمة العربية تحقيق الأهداف التحررية في القرن الماضي كما حققت بعض التطور ، لكنها لم تستطع الإستمرار في ذلك النهج ، نظراً لتشبث العديد في مراكز السلطة ، وتحوّل البعض منهم إلى قوى فاعلة ومعيقة لحركة التطور والحرية ، وأسهم البعض أيضاً في تدمير طاقات مجتمعية هامّة ، إضافة إلى سلب المال العام ، وتهميش المواطن ، وفكّكت القوى الجماهيرية بعضها الآخر وهمّشتها ، وبات دون فاعلية أو مقدرة على لعب أي دور من إحدى هذه القوى .
لهذا فإن الطموح لتأسيس حركة تحررية عربية مسألة تحظى بأولوية ، وتستحق أن تصبح هي الهاجس الأساسي لكل المثقفين والمفكرين والكتّاب الجادين ، وكل المعنيين بالشأن العام أو السياسي ، ونحن ندرك أن المعطيات الواقعية قد إختلفت نتيجة تحوّلات الواقع ، كما أن البنى القديمة لم تعد قادرة على تحمّل أعباء الواقع الجديد، لهذا فهي تعيش في أزمة عميقة عقيمة وتبدو عاجزة عن الفعل ، إنها تحاول أن تمارس بعض رد الفعل ، الأمر الذي يُظهر هزالها وضعفها وفشلها ، وبالتالي فإن إعادة صياغة الأفكار والبنى باتت من أولويات الفعل السياسي ، والحاجة التي يتوقف على تحقيقها تحقيق التطور في الفعل القومي والنهج القومي ، من أجل تحقيق المشروع القومي الديمقراطي العربي .
لكن ، ولكي يثمر النقاش ويتحدد بشكل دقيق ما هو مؤسّس لتجديد حقيقي ، من الهام جداً تحديد المهمة الممكنة ، خصوصاً وأن المسألة تخصّ تيّارات سياسية وفكرية مختلفة تتفق في مسائل وتتعارض في أخرى ، بل وربما تتناقض ، كما تمتلك طموحات مختلفة وعلى المدى الأبعد . وتمتلك أيضاً رؤى مختلفة لتحقيق ما هو راهن على الساحة العربية .
الأمر الذي يجعل الإتفاق في قضايا يُغرق البعض في بحر من الإختلافات ، ويفرض العمل المشترك وسط تناقضات وإختلافات وصراعات .
إن الضرورة هنا تفرض التوافق في المسائل الجوهرية التي هي ضرورة في اللحظة الراهنة ، لكنها لا تلغي كل التناقضات الأخرى التي ستبقى مجال حوار وتصارع وربما تناقض أيضاً .
لذلك حينما ننطلق لنثبت وجودنا على الساحة العربية ، إنما ننطلق من خلال مفهوم المرونة والإعتدال والتسامح ، ومن خلال المزيد من الإنتماء الوطني والولاء القومي بعيداً كل البعد عن كل الحساسيات التي قد تُخلق عند البعض .
إن إنتقاد كل مذهب سياسي أو تيّار لذاته وإنتقاد كلّ للآخرين ، ومن ثم السعي لإعادة بناء المفاهيم والأفكار والتصوّرات ، وبالتالي الأهداف وآليات العمل والممارسة الفعلية في الشارع السياسي العربي ، هي مهمة راهنة وهي مهمة قد تكون طويلة المدى كذلك من أجل خلق جيل جديد قومي موحّد ، ولكن تجاهل كل ذلك والتركيز على المكسب السياسي السريع فقط ، والتسرّع في التأكيد على حصول التجديد ، سوف لن يفعل سوى إعادة إنتاج البنى القديمة التي هي في حالة (( موت سريري )) منذ زمن بعيد ، وإعلانها كبنى جديدة وتأسيس أوهام سرعان ما تنهار في لحظة زمنية عابرة وتفشل ، لأن \ الجديد \ المعلن لن يستطيع الفعل أكثر مما تستطيع البنى القائمة .
إن ورشة فكرية قومية المنبت تبدو وكأنها لا مناص منها ، ترتبط ب ( ورشة) الواقع الذي بعتمل في أعماق الشارع العربي ويتخذ شكلاً فاضحاً لكل أساليب القهر والقمع التي تمارسها بعض الأنظمة ، ففضح هذه الأساليب مهمة قومية أيضاً .
إن النضج الفكري العام الذي نتج عن توسّع الوعي وقسوة التجربة ذاتها ، وكذلك توضّح طبيعة الصراع ، ربما يكون ذلك مدخلاً فاعلاً لحركة متسارعة في إعادة صياغة الرؤية وتشكيل الوعي القومي الجديد ، وبالتالي تشكيل العقل الجديد الملتزم والقادر على وعي الواقع بكل جديّة ووعي آليات تغييره .
إننا بحاجة ماسّة إلى \ نقد العقل \ بل النقد القاسي للعقل من أجل أن لا نكرر أو نجترّ ما كانت الحركة السياسية تقوله ، وبالتالي نقع في متاهات تكرار الخطاب السياسي فقط بالظاهر ، دون تحليل معمّق للواقع بشكل عام ولواقع الحدث بشكل خاص ، وبمعنى آخر أن نكرر إعتبار \ التقارير الصحفية \ دراسات فكرية ، وأن نقف عند السطح ظانين أنفسنا أننا في العمق .
فيجب على الجميع أن ينتقلوا من \ السطح السياسي \ أي الحدث ، إلى العمق ، أي إلى كل مكوّنات الواقع التي تنتج هذا الحدث أو ذاك ، الأمر الذي سيسمح لنا بتحديد رؤيتنا بكل وضوح وبشكل جلي ، وبالتالي دورنا في صنع الحدث وليس في التعليق عليه وحسب ، إن وعي الواقع السياسي ، الوعي العميق لذلك الواقع ، هو الذي سيسمح لنا بتجديد آليات الفعل وبالتالي وضع خطوط العمل من أجل الغيير .
هنا يجب على الجميع نقد كل التجارب بمجملها ، وخصوصاً تجربة القوى التي لعبت دوراً ومن ثم أدّت بها المشكلات إلى الإنهيار من خلال قصر الرؤيا وإنتهت إلى \ الموت السريري \ الأمر الذي يفرض دراسة جديدة لحركة القومية العربية التي أثّرت وبشكل فاعل في الشارع السياسي العربي وخلال مرحلة كاملة .
إن تجديد النهج القومي يفرض علينا نقد الحركة القومية القديمة لكي لا نكرر مشكلات الماضي وندخل في متاهاته ومآزقه .
وهنا نستطيع أن نلاحظ أن أساس الإشكالية التي حكمت هذه الحركة تمثّل في التباس وعيها لتكوين العالم ، أي للنمط الرأسمالي الذي فرض ذاته عالمياً وأصبح هو المقررليس في المراكز فقط بل وفي كل الأطراف والمحاور أيضاً .
إن طبيعة الفئآت الاجتماعية التي قادت حركة التحرر القومي العربية هي التي أسست لهذا الخيار ، حيث أن الفئآت الوسطى المدنية وخصوصاً الريفية تطرح الرؤى التي تحقق مصالحها ، حتّى وهي تطرحه بغموض أو بتشويش لم يكونا مقصودين .
وإذا كانت هذه الفئآت قد حملت المشروع النهضوي العربي بعد أن كانت البرجوازية العربية ( الواقعية ) قد خانته تاركة مثقفيها الذين صاغوه لمصيرها المأساوي سنة 1916 ، وبدا أنها تسعى من أجل تحقيقه ، أو تحقيق الجوهري فيه ، خصوصاً الوحدة القومية والاستقلال القومي ، فقد تركته جانباً حالما وصلت إلى السلطة وأصبح بإمكانها أن تتطوّر هي فقط ، حيث أن وصولها إلى السلطة قد حررها من الهم القومي العام لمصلحة التركيز على همّها الخاص ، محوّلة المشروع القومي إلى غطاء لتلك المصالح ليس إلاّ ! .
أن النهج الفكري القومي الذي ينتشر في كل مكان في العالم العربي هو يهدف بالأساس إلى بناء أمة وليس إلى بناء سلطة ، هذا هو النهج النقي المتحرر من القيود ومن المصالح الشخصية ، فإن هدفنا في الأساس هو بناء أمة وتحرير شعب ومنحه كرامته وحرياته وليس الوصول إلى السلطة .
وفي ذلك الواقع أو الوضع نلحظ إشكالية الوعي \ الفكر ، الذي إتّسم بالاختلال وبسيادة المثالية المفرطة والقدرية الفظّة والشكلية البادية ، وبالتالي طغيان العمومية في طرح الأهداف والرؤية المشوّشة القاصرة .
فهذا ما يحتاج إلى بحث جاد ، ونقد جدي وفهم حقيقي .
إن مجمل خبرة التجربة التي قادتها الحركة القومية العربية توضّح كما أرى أن \ فك الإرتباط \ مع الرأسمالية وتأسيس نمط إقتصادي \ إجتماعي بديل ، هو المدخل الأساسي لتحقيق المشروع التحرري النهضوي العربي ، مشروع الوحدة القومية والاستقلال والتطوّر المجتمعي الديمقراطي .
وبالتالي هو في جوهر الثورة القومية الديمقراطية التي أنظر إليها ، لأن التطور والتوحّد القومي والحداثة ليست متطابقة مع مصالح الدول الكبرى ،وهذا ما يفرض علينا صياغة الرؤية والتصورات التي تعبّر عن أغلبية الشعب والمعنية بتأسيس نمط بديل .لأن دورها الفاعل والأساسي هو الذي يفتح الأفق لتحقيق الثورة القومية الديمقراطية .
الجميع معنيّون بإعادة تحديد الأهداف ، وتحديد ترابطها والأهداف أو الأولويات التي تحكمها ، وكذلك الرؤية التي تنظّمها ، ومعنيّون أيضاً بتحديد ما هيّة الشعب وفئآته القادرة على تحقيقها ، لكي تلعب دوراً هاماً أو لكي تلعب الدور المحور ، حيث أن هناك علاقة وثيقة بين المصالح الخاصّة والشأن العام .وهذه العلاقة هي التي تحدد مدى عمق التطور وحدود تحقيق الأهداف .
على ضوء هذا التحديد وإنطلاقاً من تلك المصالح علينا نعمل على صياغة الأهداف العامة ، أهداف المشروع القومي الديمقراطي ، حيث لا بد من العمل الجاد للتعبير عن حالة الإحتقان التي تؤثّر في الشارع العربي ، والناتجة عن الأزمات الاجتماعية العميقة ، ونهب المال العام ، وأزمة الفقر والبطالة ، وتهميش المواطن ، وحالة القمع السياسي التي تعيشها بعض البلدان التي إمتلأت فيها السجون وأقبية مخابراتها من عامة الشعب ومنذ سنوات طوال ، إضافة إلى قمع روح التعبير في المقاومة للقمع وقهر المواطن والتي ستكون في أساس النضال القومي العربي .
إننا معنيّون بالمواجهة ، ومعنيّون بتحقيق الأهداف ونحن نواجه كل مراكز القوى العدوّة ، معنيّون بتحقيق التطور الاقتصادي الاجتماعي القائم على أساس بناء فعّال للقوى المنتجة ، وتحقيق العدالة واليمقراطية ، وتحقيق الحلم العربي بالوحدة ، في معركة متشابكة معقّدة ومتداخلة ، تتغير فيها الأولويات حسب الظرف الموضوعي القائم ، دون أن يعني ذلك التخلي عن أي من الأهداف أو النظر الأحادي إليها .
من هذا الوضع تنفرض إعادة صياغة المشروع ، إعادة صياغة الأهداف وإعادة صياغة أو تحديد أولوياتها العامّة ، وأولوياتها الخاصّة ، وبالتالي إعادة صياغة الرؤية الشاملة التي تسمح بتحويل الأهداف العامة إلى إهداف عملية عبر وضعها في سياق الصيرورة الواقعية التي – هي وحدها – تحدد أولوياتها .
كيف نتخلص من تشوّهات الماضي ؟ ومن خطل الوعي والسياسة ؟ من العجز عن وعي الواقع والصيرورة الواقعية ؟
نعم كيف نحدد الأهداف ، ولكن أيضاً كيف نسعى إلى تحقيقها ؟
كيف نتحالف ؟ وكذلك كيف نختلف ؟ وبالأساس كيف ننمي الحركة المجتمعية ؟ حيث أن نمو هذه الحركة هو الذي يسمح بتغيير ميزان القوى الداخلي .
نحن بحاجة ماسّة إلى تحديد الأهداف وبلورة المشروع القومي ، لكننا أيضاً في مسيس الحاجة إلى بلورة الرؤية ، وكذلك تحديد آليات التغيير ، والناظم لتحديد العلاقة بين القوى المتعارضة وهي تتوافق على أي من الأهداف ، ومن ثم تحديد التكتيك ووعي موقعه في إطار الرؤية الشاملة .
ولا بد لي في الختام إلاّ أن أُناشد كل الكتّاب والمفكرين والمثقفين الملتزمين بذل كل الجهود من أجل نشر الفكر القومي وبناء جيل نهضوي يرتكز على الوعي القومي ونشر مبادئه في ظل العدل والسلام والحرية ، بهدفِ إنقاذ الإنسان والأوطان والأمّة .