مدن عربية في أسفل القائمة والغيتو ينطق والمخيم ينتحب – بقلم : شوقيه عروق منصور

فلسطين ….
شوقية عروق منصور – فلسطين المحتلة ….
مدن تعيش على حافة البكاء والندب ، مدن لها عيون ترمق التاريخ بوجع وحنين ، مدن قررت أن تتنازل عن وجودها وتلتحق بالخرائب والخراب ، ليس خراب بناياتها وشوارعها وطرقاتها ومؤسساتها ، بل خراب انسانها وشهوته للتألق والابداع والحياة.
من المؤسف ان ينكرنا التاريخ والحاضر ، ونتكوم في المستقبل كطيور مذعورة ، تواجه الرياح بأجنحة مقصوصة ، تضطر لبذل جهدها لكي تحاول الطيران ، لكن الفضاء يهدينا القنابل والصواريخ عابرة  القارات ، كي نعبر الى الواقع الأليم .
عرف أن الابحاث والدراسات غالباً ما تكون مبنية على أهداف وارقام تريد أن تؤكد للعالم ، قفزات الانسان نحو التطور والحضارة ، والثرثرة التي تصب لصالح المجتمع الانساني الحديث  ، واعلان الحكم على مدى الرفاهية و العجز والفقر والغنى والصحة والمرض والقوة والضعف ، لكن هناك بعض الدراسات والابحاث تكون مرايا نرى بها قيمتنا ، وجودنا ، عيوبنا ، امراضنا ، هشاشتنا ، ضعفنا الذي وصل الى حد التراخي والذوبان والخجل من الواقع المهين الذي نعيشه ونحياه ، نتنفس هواءه بحسرة وذل .
بعد أن وضعت الدراسات والابحاث الجامعات العربية في الدول العربية – كمؤسسات ثقافية تخرج أجيال المستقبل – في أسفل القوائم العلمية ، حيث صعقتنا الدراسات والابحاث ، التي كشفت أنه لا يوجد جامعة عربية ضمن الجامعات العالمية التي ترصد الميزانيات للبحث العلمي ، أو تملك المعنى الحقيقي للنبض الجامعي ، ليس بالمكان فقط ، انما بجدية العلماء والأساتذة والأجواء التي تكون متوفرة لطالب البحث والدراسة ، واكتشفنا أن العالم العربي لكي ينجح عليه أن يلجأ لدولة غربية حتى يبدع ويتألق ، وانه لا يوجد مختبرات ومراكز تستطيع احتواء أي عبقري ، وقد أعلنها العالم المصري الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء ” احمد زويل ” الذي قال : لو بقيت في مصر  لكنت ضمن المحاضرين الذين ينتظرون الراتب الشهري فقط ، فهناك غياب كامل للمختبرات الحديثة التي يجب أن توفر للأبحاث .
نحن نقرأ خارطة الانهيار العربي يومياً ، لكن حين تخرج الدراسات تفقأ عينيك ، لتقول لك أن الأنظمة العربية ، سرقت من المواطن  كل شيء ، حتى مدنه العريقة ، التاريخية ، تم سرقتها ، ليس الاثار والهدوء والأمن والأمان ، بل سرقوا منها الوجود ، اليومي ، الحياتي ، ومنحوها لقب مدن تعيسة ، مدن حزينة ، مدن غرقت في الهموم والأوجاع .
دراسة قامت بها مؤسسة في فينا عاصمة النمسا ، بعد استقصاء ودراسات شملت المدن العالمية  التي تتميز بالنشاطات والفعاليات والثقافة والصحة والأمن ، وجودة الحياة ومستوى التعليم ، وحرية وسائل الاعلام والترفيه ، المدن التي تقدم أفضل الخدمات ومستوى الحياة للمواطن ، تزنر المواطن بأضواء العيش ، وتجعله قيمة وقيمة في الحياة .
خرجت الدراسة  بقائمة تشمل 230 مدينة في العالم  ، هل نصدق أن مدينة دبي حصلت على  الدرجة الأولى عربياً وجاءت في المركز 75 ، أما المدينة الثانية أبو ظبي احتلت المركز 81 مدن الصحراء والقمع والمظاهر المزيفة ،  و مدينة القاهرة ، قاهرة المعز المدينة الثالثة عشر عربياً ولكن 171 عالمياً ،بيروت عاصمة الثقافة والكتاب والحروف الأبجدية الأولى التي نقرها الفينقيون على سطح العالم  ، باريس الشرق حصلت على المركز الرابعة عشر عربياً عالمياً 180 ،   ودمشق عاصمة الخلافة الأموية واقدم مدن العالم في المرتبة السابعة عشر وعالمياً 224 ، أما بغداد التاريخ وعاصمة الرشيد و العباسيين فقد نالت المرتبة الأخيرة 230 . أي أسوأ مدن العالم ، الا تجعلنا هذه الدراسة ننتحب ونلطم الخدود .
حين نقرأ مثل هذه الدراسات ، نشعر أن حلمنا العربي تحول من ناطحة سحاب الى كوخ يلتصق الأرض ، من المارد العربي الذي غنينا له في الستينات الى قزم أشبه بعقلة الأصبع الذي يحاول التلصص على الوجود ، والوجود يدفعه للوراء .
حين نقف امام هذه المعطيات نركض الى الخوف والحسرة ، نشعر أن دورتنا الدموية ، التاريخية ، قد أصيبت بالعطب ، وأن اللون الأحمر القاني هو اللون البارز في أعلامنا ، وحين نعصرها كي نغتسل بالكرامة ، تسيل الدماء لتملأ الأمكنة .
وما دامت مدننا قد وصلت الى أسفل القوائم في المدن المتواجدة على الكرة الأرضية ، يحتفلون هذه الايام  في مدينة البندقية في ايطاليا في ذكرى مرور 500 عام على افتتاح أول غيتو لحي يهودي ، وهو الحي الذي اجبر على الاقامة فيه اليهود أثناء العصور الوسطى .
وتكمن أهمية هذا الحي بأنه الأول الذي خصص لإقامة اليهود لعزلهم عن باقي مكونات المجتمع ، وأول مكان اطلق عليه ” غيتو ” وهي الكلمة المستخدمة في يومنا لوصف الأحياء الفقيرة أو الشعبية .
من أجل هذه الذكرى قام العديد من الصحفيين بزيارة الحي المهجور في البندقية ، والتقطت الصور التي بينت طريقة البناء التي أن دلت على شيء ، تدل ان الغيتو كان عبارة عن بيوت من عدة طوابق مع ساحات واسعة ، طوابق ضيقة ولكن مرتبة ، قد تكون عانت من غياب الحرية والراحة ، قد نتخيل أن بين حجارة الغيتو سكن الخوف والذعر ، ولكن المكان لم يكن بصورة الذل القاسي لدرجة أن نحسد سكان القبور على فسحات السعة التي تفصل بين القبر والقبر مثل المخيمات التي يعيش بها الفلسطينيون في الدول العربية وفي الضفة الغربية وقطاع  غزة . ان المخيمات الفلسطينية  تعاني من سوء الحياة أكثر من الغيتوات، تعاني من فقدان الأمن والخوف والضيق والفقر والطفولة البائسة ومستويات الحياة المزرية ،  أن الغيتوات التي  رأيناها وقرأنا عنها  في الأدبيات الصهيونية بكافة اشكالها لا تشكل نصف المخيم الذي يعيش به الفلسطيني منذ نكبته التي بعثرته في جميع انحاء العالم .
ان صور المخيمات الفلسطينية من الداخل تؤرخ لمعاناة انسانية رسمتها الانظمة الغربية والعربية بأقلامها التي صنعوها من خشب الاستخفاف ومن حبر التواطؤ العربي ، والفلسطيني عاش عبر السنوات في تحد لكي يحظى بعيش أفضل ، وكل فلسطيني وراءه قصة وحكاية أظافر نحت بواسطتها صخر وجوده ، وليس هناك أي فضل لأحد سوى لأظافره وعقيدة الاصرار .  يحتفلون بغيتو البندقية ، يتألمون ، ويصورون ويكتبون عن المعاناة .. واذا كان التاريخ يكتبه المنتصرون ، لأنهم المنتصرون جعلوا الغيتو اليوم يتكلم وينطق ويشعل  في ضمير العالم صفحات الندم ،   السؤال هل سيأتي اليوم الذي تصبح مخيماتنا الفلسطينية صورة للبكاء والندم العالمي ، أم سنبقى نبكي لوحدنا ؟؟