دراسات …..
بقلم الكاتب الإعلامي : أنور ساطع أصفري . …
ثمّة مخاطر عديدة داخلية وخارجية تهدد المشروع العربي ، وخاصّة بعد إنهيار المنظومة الاشتراكية وما تبعه من تحديات جدّية فرضتها سياسات تدعيم وتوسيع هيمنة المراكز الكبرى في العالم .
ومن هذه السياسات ما تجلّى في حرب الخليج الأخيرة وتطويع كافة الأنظمة العربية لمصالح تلك القوى أساسا ، وما شهدته الساحة العربية من تداعيات على هامش أحداث ” الربيع العبري ” ، فضلا عن إشاعة متسارعة لمناخ التسوية العربية – الاسرائيلية بالشروط الاسرائيلية والامريكية ، في الوقت الذي تصاب فيه الهوية العربية بالتشويه لتكريس هوّيات قطرية ، طائفية وعشائرية تروي أنظمة الاستبداد والتبعية السياسية والاقتصادية ، من هنا نرى أن مسألة إعادة النظر في منطلقات المشروع القومي العربي وإعادة تحديد معالمه ذو أهمية بالغة ، ذلك أن مواجهة المخاطر المذكورة لم تعد ناجعة بالوسائل السياسية والعسكرية المباشرة والتقليدية في غياب التضامن العربي الفعلي للمجتمع والقوى والطاقات الفاعلة .
إذ لا يتوقف التضامن على مجرد مشاعر وردّات فعل سلبية ضد الأجنبي ، وضدّ التبعية العمياء ، بل أيضا وأساسا على إشاعة حياة سياسية عربية داخلية مبنيّة على المواطنة ، فإننا نقدم هنا مساهمة في النقاش حول إعادة بناء المرتكزات الفكرية الضرورية لمثل هذه الحياة التي نعتقد أنها تتمثّل بمفهوم المجتمع المدني .
أمّا فيما يخصّ اللانظام العربي فثمّة بنى إعتبارية وشعورية خاصة ومتداخلة منحدرة عبر عصور التاريخ تحكم مشاعر كل أمة على وجه المعمورة نحو تحقيق معتبر لحضورها السياسي المعبّر بشكل واضح عن إرادتها وحريتها .
وكل مزيج سياسي لا يراعي هذه القواعد واصولها وهذه البنى الشعورية مرشّح لأن يكون شكلا كرتونيا تعصف به الرياح في يوم من الأيام .
ولأننا نأخذ كل الامور في الحسبان وبشكل فكري واضح وجلي فإننا لا نماري في أهمية المصالح الاقتصادية ولا في أهمية الشعور بالخطر الخارجي ولا في ثقل التحالفات المفروضة أحياناً إن لم نقل غالبا ، ولكن الأهم من ذلك كله والأعمق تأثيرا هو هذه البنى الشعورية التي تحدثّنا عنها والتي تجعل تجعل كل مواطن يتجاوز مصالحه الماديّة ، ومخاوفه الذاتية ، ويرفض إغراءات التحالفات الخارجية ويضحي بالنفس والمال والولد في سبيل أن يرى راية أمته خفّاقة فوق ربوعها ، وأن يكون حراً عزيزاً في وطنه الكبير الممتد من المحيط إلى الخليج ، بل الممتد بامتداد لغة الضاد العربية ، وإلى كل مكان يذكر فيه اسم اللّه ويقرأ فيه كتابه العظيم .
إن الحديث عن نظام عربي واحد في الأزمنة الراهنة هو مطلب ملحّ كما هو لون من المغالطة ، فلا يمكن أن يصمد لأي نظر ناقد أو تحليل دقيق ، فما بالك عندما نتحدث عن مشروع قومي عربي ، فنحن بأمسّ الحاجة إلى بلورة كل الخيوط الملتحمة مع المشروع كالاقتصاد والسياسة والثقافة والحس الجماهيري وتربية الشباب وإعتبارات المواطن والأخذ بعين الاعتبار الأمور الخارجية وعدم إهمالها لأنها مؤثرة سياسية واضحة على سياستنا الداخلية والخارجية ونهجها .
ولا بدّ لنا الاّ أن نقول إن تجربة جامعة الدول العربية بما فيها من ألوان الطيف ومن ألوان الهبوط ، ومن شكليات أخرى ومن ظروف نشأتها ولغاية تاريخه . فكان من المفروض علينا نحن كعرب أن نهتم بمصالحنا وقضايانا وإنتمائنا ، وأن نتدارس وبعمق جامعة الدول العربية ونعيد صياغتها ونعيد لها إعتبارها وشعورها القومي العربي ، من خلال تخليصها من القيود المفروضة عليها وحولها ، لتأخذ الجامعة نهجاً جديداً يعبّر عن طموحات الشعب العربي وعن مكانتها الفعلية ، ويعيد الاعتبار أيضا للجمهور العربي كله المصاب بالاحباط القسري .
فنحن نطمح لبذل كل جهد مستطاع لقيام نظام عربي حقيقي يحمل أُسس وقواعد وأركان منتصبة لا تهزّها لا الرياح ولا الأعاصير ، مع كل إدراكنا أن نظامنا العربي يعاني من ليل ثقيل وكوابيس مخيفة تنتابه أثناء نومه . لكننا عازمون على المضي .
من أجل بناء المجتمع المدني والفكر القومي العربي ، ونقصد بالمجتمع المدني ، مجتمع الامة المندمج في بوتقة المواطنية التي هي حاصل العلاقة المتبادلة بين الديمقراطية والعلمانية ، ولعل أحداهما تشترط الاخرى ، فالديمقراطية معرّفة بأنها حكم الشعب وسيادته على نفسه ، ونجاح حكم الأكثرية في المجال التطبيقي ، بحيث يستحيل الاستئثار بالحكم وفقا لمبادىء فصل السلطات ، والانتخابات ، والرقابة على الحكّام ، وخضوع الحاكم والمحكوم للقانون ، واطلاق الحريات وما تفترضه من تعددية الخيارات —-الخ .
أمّا العلمانية فالشائع لدى البعض أنها حالة أو وضع يتعارض أو ” يتقابل ويتناقض ” مع الدين ، مع أن العلمانية ليست ديناً أنزل لمخالفة الأديان ، بل إنها تشتق من ” العالم ” – الزمن – الدهر ، ذلك الاتجاه الذي يركّز النظر على شؤون الانسان البنيوية خارجاً عن هيمنة أحادية وشمولية لمؤسسة دينية أو شبه دينية “، أو حتى الحادية ، حين يتحول الالحا د إلى دين ذي مؤسسات تنتج منظومة معرفية مقدسة باسم الوحي – الزمني ” فإذا كانت العلمنة قد أرست قواعدها في اوروبا ضمن سياق الصراع ضد الهيمنة الشاملة للكنيسة ، بما هي مؤسسات دينية ادّعت حكم اللّه على الأرض ، الذي تحوّل فعليا إلى حكم ” رجال اللّه”(( وكل البشر رجاله )) ، الاّ انها – العلمنة – لا تنسب بالضرورة إلى خصوصية مسيحية تسمح بها ، فالمسيحية مابعد السيد المسيح تيارات ومذاهب وانشقاقات ، منها من أيّد العلمنة أو شقّ الطريق لها ” اللوثرية مثلا ” ومنها من عارضها كالمؤسسات الدينية الشرقية مثلا ، الأمر الذي يعيد النظر إلى العلمانية بوصفها مفهوما مجردا يتضمن تلك العملية التي تؤسس حقلاً اجتماعياً – سياسياً متعدد الميول والاتجاهات ومستقلاً عن أهمية أي هيئة تنتدب نفسها سلطة مفروضة بأي صفة كانت ، حيث يقف الفرد وسط خيارات يفترض به أن يحدد موقعه منها ، علماً أن العلمنة ليست حكما في الروحانيات والعقائد ولاتعبّر عن ” وحدة وطنية ” على هذا الصعيد ، وإن تأثرت سياساتها ببرامج ومصالح القوى التي تسيطر عليها في هذه المرحلة أو تلك .
إن مجال اهتمام الدولة العلمانية هو الشأن الانساني الدنيوي ، حيث تفرض احترام حرية ميول وانتماءات وسلوك الفرد ، شرط أن لا تكون هذه الحرية امتيازاً على غيره ، والاّ تستفز مشاعر الآخرين أو تضر بالمصلحة العامة ، وبذلك وبفضل حياد الدولة ينتقل الدين إلى مجال روحي شخصي ، حيث يستطيع أن يتحرر من ” الصراعات المذهبية ” التي ما يصفها رجال الدين غالبا بالانحرافات عن الدين الأصلي الأصيل .
وهكذا لا تنفصل العلمانية عن الديمقراطية في اقامة المجتمع المدني ، فالشعب الذي يعني الديمقراطية هو مجموع المواطنين ، والمواطن هو عضو في مجتمع – امة – دولة – سياسي ، سيّد ، وسيادة المواطن لا تتحقق من دون حريته في نطاق التعددية التي تفرضها العلمنة ، وبالتالي فإن المواطنية تبقى مبتورة في بناء سياسي مؤسس على ” ديمقراطية طائفة ” بمعنى حكم الاكثرية العددية الطائفية والمذهبية ، حيث أن الشعب ليس مجموع المواطنين ، بل مجموع طوائف تملك الأكبر منها الحق في الحكم وممارسته ، الأمر الذي يساعد على إثارة مشاكل طائفية ومذهبية تتعارض مع أهداف وحدة الفكر القومي والمشروع القومي العربي والمجتمع المدني .
أمّا حينما نطرح المشروع القومي العربي سنطرح أيضا الشارع السياسي والقرار الاقتصادي ، فهنا لنا حديث آخر ، حيث هناك شرخ واضح وجلي بين الاقتصادي الذي يعمل بذكاء وتخطيط ” خطط خمسيّة مثلا ” سيقطف ثمارها بعد ذلك ، وبين السياسي العجول الذي يريد أن يقطف ثمار مصالحه كل يوم ، وهنا يقع النهج الاقتصادي في مطبات السياسي ، وقد تكون أحيانا مطبات قاتلة أو محبطة للاقتصاد الوطني وللاقتصاديين أنفسهم .
لذلك يجب أن تنطلق السياسة أو السياسات الاقتصادية الموضوعة من فرضيات مدروسة بعمق وتعني :
*تحديد الاهداف بما يؤمّن رفع مستوى رفاهية السكان .
*إدراك القيادات السياسية للأفضليات الجماعية التي يرغب بها الشعب .
*قرارات القيادة السياسية يجب أن تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة فقط .
*توفر رغبة القيادة السياسية إلى تطبيق نتائج التحليل الاقتصادي العلمي على النحو الأفضل .
فإذا تحققت كل هذه الشروط يكون إعتماد السياسة ” السياسات الاقتصادية ” القائمة فقط على المناقشات الاقتصادية الغنية مثل إختيار النظم الاقتصادية العلمية على النحو المنشود وغالباً هو الأفضل ، واعتماد الأدوات الأكثر فعالية لبلوغ الأهداف الأربعة للنشاط الاقتصادي على نحو متميّز .
إن أفكار السياسيين الذين يصلون إلى السلطة تهدف إلى تأمين مصالحهم الشخصيّة والخاصّة والمحافظة على مكاسبهم الفردية والمصالح الفئوية ، كل هذه المطبّات تقف في خندق يواجه الاقتصاديين الذين يعملون بنزاهة وعطاء ، بينما السياسي يحبط كل مشاريعهم ومخططاتهم المدروسة لبناء وتطور الوطن أو الامة .
فالمشروع القومي العربي من أهدافه العميقة والضرورية والتي تعتمد على أهداف السياسة الاقتصادية :
* التشغيل الكامل لقوى العمل الوطني .
*التشغيل الكامل لرصيد رأس المال .
*تحقيق النمو في الناتج المحلي الاجمالي .
*تحقيق التوازن مع العالم الخارجي .
* استقرار الاسعار .
*حماية سعر صرف العملة الوطنية .
إذا تحققت هذه الامور والتحمت السياسات الاقتصادية مع سياسة الامة نكون قد خطونا خطوة أساسية نحو البناء السليم للوطن ، ونحو بناء مشروع عربي قومي متكامل .
إن استغلال النظريات أو السياسات الاقتصادية لمصالح فردية فئوية أو حتى طبقية من شأنه أن يهلك الامة ويضعها على طريق الفشل الاقتصادي ويحبط كل اهداف النمو الاقتصادية والاجتماعية المنشودة .
نحن ندرك أن السياسيين يسعون لزيادة نصيبهم في الشارع السياسي وزيادة عدد مقاعدهم في المجالس التمثيلية والسعي للاحتفاظ بالمناصب وبالسلطة حتى ولو كان هذا السعي على حساب تطور الامة واستقرار البلاد ، لذا فإن تسارع نمو الانتماء الوطني والقومي وانتشار مساحته من شأنه أن يسهم بشكل قطعي إلى بناء سياسي سليم وبالتالي إلى بناء سياسات إقتصادية سليمة ضرورية لتحقيق التوازن الاجتماعي بين مختلف شرائح المجتمع ويسهم في تسريع النمو الاقتصادي للبلاد ويلجم أطماع ومكاسب السياسيين القمعيين والذين يمارسون كل سياسات القهر في البلاد من أجل الاحتفاظ بمصالحهم ومكاسبهم .
ألا ترون معي ونحن الآن في وطننا العربي بأننا غرباء كلنا ، المفكرون ، الفنانون ، الشعراء ، والشحاذون والفقراء ، والعشّاق ، كلنا غرباء ومضهدون في هذا الوطن العربي ! .
نحن ندرك أن هناك إنحطاطاً في العمل السياسي العربي ، وسقفٍ متدن للحريات في عالمنا العربي ، فالثقافة العربية هي من العناصر الاساسية إن لم يكن العنصر الوحيد الذي يجمع الشارع العربي والتي تعتبر ركنا هاما من أركان بناء المشروع القومي العربي ، فالأنظمة لم تعد تجمعها السياسة ولا الاقتصاد ، ولكن الثقافة العربية نتيجة لطبيعتها ولاشتراك الجميع في اصولها ، هي الرافد الرئيسي الذي يجمع العرب الآن .
إن المجهود الثقافي ينشط في إطار سقف عالٍ للحريات ، وفي إطار مجتمع منتج ، حينها تزدهر الثقافة بجميع أشكالها وصورها من فنون وآداب وثقافة .
كما أنه ونتيجة للانحطاط أيضا تزدهر الثقافة ، ففي العصر العباسي هناك أسماء عديدة إبتعدت عن ملذات الحكم وإبتدأت تكتب بتأصيل كبير وأبو حيان التوحيدي واحد من هؤلاء .
وعندما نسقط هذا المشهد على الشارع الثقافي العربي الحالي نجد أن هناك إنحطاطا في العمل السياسي بكل معنى الكلمة وسقفاً متدنياً من الحريات .
إذاً هناك تناقضان : تناقض الانحطاط السياسي من جهة ، وهناك الاشعاع الثقافي من جهة أخرى .
ولكن وبكل تأكيد ليس هذا هو المنشود ، فالمطلوب أن تكون الثقافة منتشرة وواسعة ومغذّية لكل النشاطات الاجتماعية والسياسية وغيرها ، وهذا غير موجود على الساحة العربية .
في الانتاج الثقافي العربي نجد لمحات جميلة أحيانا ، بل ملفتة للانتباه .
إن الثقافة العربية كان يعتنى بها في منتصف القرن الماضي في معظم البلدان العربية من خلال النشاطات الحكومية ، وقد كنا بشكل عام تحت سيطرة الفكر التوزيعي ، ومن ثم ابتلينا بظاهرتين في المجتمعات العربية ، وقد أدّت هاتان الظاهرتان إلى النتيجة نفسها تقريبا . ظاهرة الثورة في المجتمعات التي تبنّت الاشتراكية ، وهي أن الدولة تقوم بالتوزيع وبالتالي تحتكر من ضمن ماتحتكره النشاط الثقافي ، وظاهرة الوفرة التي أدّت الى النتيجة نفسها تقريبا من حيث التوزيع والعناية ، فأصبحت علاقة معظم النشطاء في أكثر البلدان العربية علاقة الأجير بصاحب العمل ، وأصبح النشاط الثقافي عبارة عن انتاج مدفوع من الدولة وتتحكم فيه الدولة .
ولكن هذا لم ينتج انتاجا ثقافيا حقيقيا ، حتى في الاتحاد السوفياتي سابقاً حيث كانت التجربة الأقوى ، فعندما نتذكر الكتاب والفنانين الذين كانوا على مشارف الثورة الروسية مثل تولستوي وغوركي ، فلم نعد نسمع بشدة المساهمات التي نسميها بالأدب الملتزم أو الثقافة الملتزمة وذلك نتيجة لظروف سياسية ، إن الانتاج الثقافي الصادق الانساني يظهر بعفوية ، وحتى من كان تحت نشاط الاتحاد السوفياتي الثقافي لم يستطع أن يلمع بجد الاّ عندما خرج من هذا الجناح وبدأ يكتب بحرية في الغرب .
وهذا ينطبق إلى حد كبير على البلدان العربية ، فالأديب والكاتب والمثقف العربي يبدع وبالحاح خارج حدود وطنه . ولذلك فإن الكلمة والجملة الموسيقية والنص المسرحي والنص الأدبي وقصيدة الشعر محاصرة في البلدان العربية .
نحن نعلم أن هناك إختلافات في مساحات الحريات في البلدان العربية ولكن ليس هناك إختلافات جوهرية من حيث المبدأ . أي الفكر الحر . حيث لا تنتعش الثقافة إلاّ بهذا الفكر الحر . وأنا هنا لا ألوم الأنظمة العربية فقط ، حيث أن هناك تيارات إجتماعية ضاغطة ، وبالتالي أصبح الضغط على حرية الابداع ضاغطاً معاكساً ، ضغطاً جماهيرياً أو شبه جماهيري ،مثل هذه الضغوطات الاجتماعية معوّقة للإبداع تحت شعارات مختلفة .
فأنا أرى إذا كان هناك تدخل للدولة في هذا المجال ، أن يكون هناك دور كبير للمؤسسات الخاصة ، أي أن يقوم أهل الثراء في المجتمع بتمويل الأنشطة الثقافية دون شروط ، الاّ شروط الجودة والسمو الثقافي والابداع الحقيقي .
والهدف هنا هو تخفيف يد الدولة عن النشاط الثقافي لأن يد الدولة في حقيقة الأمر تفوّض ناساً ليسوا بالضرورة ممن يعي الثقافة ودورها حق الوعي ، وقد يأتي من الموظفين من لا يعرف على وجه اليقين أهمية هذا الدور (( فاقد الشيء لا يعطيه ))، وفلان إذا لم لم يعترف بأهمية الكلمة وبعدها وتأثيرها ، وإذا لم يفهم دورها لا يستطيع أن يقدّم شيئا .
والخوف هنا هو أن يقع الأمر والنهي في أيدي غير واعية لهذه الرسالة ، لهذا نرى أنه مع تغيّر الأشخاص يتغيّر أيضا الواقع الثقافي سلباً أم إيجاباً .
وبصريح العبارة إن النشاط الثقافي كما أتصوّره جزءاً مهماً جداً في حركة وتطوّر المجتمع ، وعلى ضوء ذلك فإنه على الدولة أن ترعاه دون ضغط أو إكراه أو توجيه أو قمع .
نحن لا نستطيع أن نقول بأن السياسي والثقافي والاجتماعي وحتى الاقتصادي عوالم منفصلة ، بل إنها متداخله تداخل أدوار الإنسان في مجتمعه ، فالعلاقة بين الثقافي والسياسي هي علاقة متداخلة ومؤثّرة في بعضها الآخر .
وكلنا يعلم بأن من المقولات المشهورة بأن السياسة هي تغيير رأي الآخرين بالكلمة – أي بالاقناع – فأنت لاتستطيع أن تغيّر بالقوة ، نعم بالقوة قد يذعن الآخرون لرأيك ، لكنهم لا يغيّرون رأيهم ، ولذلك فإن الأداة الحقيقية لتغيير رأي الآخرين هو العمل الثقافي ، هنا نرى التلاحم المباشر بين الثقافي والسياسي .
بالتأكيد ينسب إلى السياسي تقصير كبير ، وأيضا ينسب إلى المثقف مثل هذا التقصير ، ولكن الفرق بين التقصيرين هو أن السياسي في موقع القرار بينما المثقف في موقع المشورة والرأي والنقد .
وبشكل عام فإن المثقف هو الذي يغيّر السياسي ، فإذا أخذنا مثالاً بارزاً في دور المثقف لن نذهب بعيداً بالتأكيد إلى جان جاك روسو ، إنما لنتطلع فقط إلى الأربعين سنة الماضية لما حدث في إيران ، فالايرانيون الآن على وجهاتهم المختلفة يعتقدون بأن جذوة التغيير التي بدأت في إيران كانت ناتجة أساسا عن كتابات علي شريعتي ، وبالتالي فإن المثقف هنا لعب دور التحريض ، إنما المصاعب والمشكلات التي حدثت وتحدث بعد ذلك فهي من صنع السياسي وطريقة نهجه وتفكيره .
لقد دفع السياسي العربي الشريف أثمانا باهظة وكبيرة ، والمثقف العربي كذلك ، ومعظم تاريخنا الثقافي هو تاريخ تضحيات من العصور الاسلامية المتقدمة إلى العصور الأخيرة ، مثلاً عبد الرحمن الكواكبي مات مسموماً في القاهرة ، وكثيرون آخرون دفعوا الكثير من الثمن من أجل دفع مسيرة التقدم إلى الأمام ، ولم يقصّر بعضهم أيضاً في دفع مسيرة التقدم إلى الأمام ، ولم يقصّر بعضهم أيضا في إضافة أفكار جديدة .
طه حسين مثلاً عندما كتب عن الشعر الجاهلي قدّم فكراً ونهجاً متميّزاً للثقافة العربية ، ولكن بعد ذلك تنعكس الامور وهذا من طبيعة الأشياء .
نعم كثيرون هم الذين ضحّوا ودفعوا مصيرهم وحياتهم من أجل موقف أو فكرة ، واستبسلوا بالكلمة من أجل مجتمعهم ومن أجل النهج السليم المتميّز .
نؤكد ونقول إن المشروع القومي العربي لا يستورد من الخارج ، وهو ليس زيّاً نرتديه ، ولا حذاءً ننتعله ، بل هو قوّة تنبع من داخلنا ، قوّة تريد أن تستشرف الكون ، لكن لا بُدّ لها من أساس متين واقعي ، والإنسان الواقعي هو الانسان وهمومه ومشكلاته وقضاياه ، هو الأرض وتاريخها وحضارتها ، وما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا ، لا أريد أن أتكلم كمتمرد ، لكني أتحدث عن التاريخ كركيزة تدفعنا نحو الأمام ، لا أن نقاطعه كما يفعل الآخرون ، لأن هذا التقاطع هو نوع من التسلق الطفولي الذي لن يؤدي بصاحبه إلاّ إلى الهلاك والإنطفاء والزوال ، ونحن أمة يجب أن تعيش وتبقى وتنتصر على الرغم من كل ما تتمخض فيه الآن من آلام الواقع الإنساني .
أمّا الأحزاب والتواصل الشعبي في المشروع القومي العربي ، فلا بدّ أن ننوّه أولاً أنه تقاس حالة تقدم المجتمعات المتقدمة عادة بمقدار حالة الأمن والاستقرار والحرية والديمقراطية التي تتمتع بها شعوبها ، ويبقى الهامش المعمول به يظهر مقدار وحجم المشاركة الجماهيرية في صناعة القرار سواء القرار الاقتصادي أو السياسي ، لأن الاستقرار شئنا أم أبينا يحافظ على أمن وسياسة الوطن واستمرارية تراكم العطاء والانجازات ، وكذلك فإن الحرية والديمقراطية هما عاملان يهيئان المناخات المناسبة لدعم المسارات الانتاجية في الحياة الاقتصادية ، ويعملان على توظيف مختلف العوامل للإرتقاء بحالة المناخات السياسية لدى المجتمع من خلال إشاعة الأجواء الإيجابية والتفاؤل .
ونؤكّد على أهمية التنمية السياسية ، وتوسيع قاعدتها الفكرية القومية بين صفوف الشعب والجماهير لتأخذ هذه القاعدة دورها في صناعة القرار السياسي في البلاد ، حيث يتطلب من الجهات المعنية القيام بواجبها الطليعي الفكري القومي حيال ذلك سيما أن الجهات التي تتحمل نشر الفكر القومي العربي هي المنوط بها ترجمة هذه الرؤية وتأطير الطاقات الوطنية ضمن منهجيات فكرية وتحقق التنمية والنماء للوطن وتوفّر العيش الكريم للمواطنين كهدف رئيسي .
فالأحزاب وجدت من أجل نصرة المواطن وتبني قضاياه ، وهي تعمل بكل السبل المشروعة والمساحات التنموية المتاحة لتجسيد ذلك الالتزام الراسخ الأصيل الذي انطلقت من أجله .
فالمؤسسات الوطنية الحزبية هي غراس ديمقراطي ونوعي وصالح ، والرسالة التي تحملها هي رسالة بنائيّة لإنسان الفكر القومي العربي يجسّد تطلعات الشعب من خلاله ، ويجسّد تطلعات الشعب في صيانة الانسان والأرض والهوية والانتماء في ظل القانون ، وفي إطار من الديمقراطية والتعددية الهادفة إلى تفعيل المواطنة المستندة إلى المشاركة بولاء وإنتماء وعلم وعمل كركائز أساسية غير قابلة للنقض .
وعلينا أن ندرك أيضا ضرورة نشر فكر المشروع القومي العربي بين أوساط الشباب والتركيز على مفهوم الوعي ومشروع النهضة القومية في كل نشاطات الشباب الذين ننظر اليهم على أنهم الرصيد الأساسي لإستمرار النهج السليم في المستقبل .
إن المجتمع المدني والمشروع القومي العربي ليس هندسة وراثية ، بل جملة مواقف واضحة وصادقة ، وجهد كبير لمجموعة أقسمت أن تخلص للّإنسان وللوطن وللأُمّة .