فن وثقافة . آراء حرة . دراسات
ينبغي وضعه في اطاره التأريخي
أجراه في تموز 2000 أيام كان مراسلاً لجريدة القدس العربي في باريس وقد برر مدير تحريرها “أمجد ناصر” عدم نشره آنذاك بصدور مجموعتنا الشعرية “محمود درويش بن بني القينقاع”ـ
*******************************
ـ ناجي الحازب،كنت قد أجريت حواراً معك قبل أعوام،خلالها تغيرت الأحوال السياسية كثيراً وبالأتجاه المستتب عالمياً ، بينما لاتزال أنت مصراً على مواقفك السابقة. ويبدو فيما يتعلق ببعض القضايا أكثر إصراراً على التمسك بها فما هو رأيك في هذا القول؟
ـ حبذا لو ذهبت محدداً ؟
ـ أنت على سبيل المثال ضد العملية السلمية أما الديمقراطية …
ـ “مقاطعاً” فلابد أن أكون ضد ها أيضاً ولاأخفيك موقفاً كهذا…
ـ لتستمر..
ـ ولِمَ أخفيه إذا كنت قد كشفت محتفزاته مراراً وتكراراً. وسأجدني مضطراً بالتأكيد على عرضها مرةً أخرى خلال حديثنا هذا.وذرني أضع الأفكار في نصابها الفعلي والفاعل،وفي ذات السياق تفاعلها في ذاتها ومعها وبحدها،حيث يغدو من الضروري بمكان تعاطي الكلمات بجوارحها ومجترحاتها.وبهذا المعنى كيف سيكون بوسع المرء القبول بوجود حالة دون وجودها في العيان ؟ وكيف سيكون بوسعه إذا ارتكب شيئاً من هذا القبيل استساغة نفسه في هذه الحالة. أنا شخصياً لاأستطيع التطاول على نفسي .أن القبول بعملية كهذه التي بمجرد تفرسك إياها ستستثبتها كعملية بل عمليات حربية من التعنقد بحيث لم تترك مساحة دون تقصيفها إما عسكرياً أو إقتصادياً أو سياسياً،بمشترط العلاقة الأرتجاعية بين هذه الحالات،أو بأستخدامها جميعاً دفعةً واحدة.ولتأخذ نموذج العراق مثلاً على ذلك ومن الممكن تطبيقه على أوضاع متشابة..
ـ يبدو ان شخصية الفنان أخذت تطغي على شخصية المحلل.ألم تخلط إسرائيل بالولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا تواصلاً بالحلف ألأطلسي كما تفعل مع الألوان ؟..
ـ ومتى كانت منفصلة عن بعضها البعض بحيث يكون بوسعك أخذي على هذا المحمل.كأنك تقولني إذا لم تقتنع بتدامجها كلها جبلوياً،أن بلفور لم يك بريطانياً وهذا ينطبق على وعده المشئوم أيضاً . وقبل ذلك كان ينبغي على هرتزل أن لايكون هنغارياً،وعلى أكثر قيادات الحركة الصهيونية فاشيةً أن يبحثوا عن مساقط أخرى غير أوربا،غربية أو شرقية سيان،بمعتبرها المؤسسة الفعلية لدولة إسرائيل الأصطناعية بادئ ذي بدء في رؤوسهم ثم عبر احتلال فلسطين..
ـ ولكن الظروف كما تعرف قد تغيرت ومع تغيرها تغيرت علاقاتها..
ـ ولاريب ، غير انني شخصياً لم ألحظ ولا ملمحاً صغيراً يشير بأتجاه يجعل الباحث يضع في ذهنه فكرة الشخصية المستقلة لهذه الدولة المفتعلة حتى من قبيل الأفتراض .أنت إذا كنت تتصور ان يهوديتها خالصة الى حد التميز فسترتكب غلطة سوف لن تكون صغيرة: أنها يهودية من طراز أوربي وتتحكم بها جملة من الأديولوجيات الفاشية…
ـ ولكن كيف يمكنك تفسير عمليات التجسس التي قامت بها ضد أمريكا..
ـ هذا يمكن حدوثه بين الولايات ألأمريكية نفسها،أو بين ألدول ألأوربية وأمريكا وبين الدول الأوربية،وحتى بين مقاطعاتها إرتجاعياً كما يحدث بين الشركات التجارية الكبرى والصغرى على حد سواء. ثمة قانون المنافسة الذي يحكم كما تعرف جميع علاقاتها ولكن هذا القانون نفسه يوحدها ضد أعداءها التقليدين وحتى المحتملين.على هذا المحمل يصبح بالأمكان فهمهمها في إطار نسيجها التأريخي الذي سيبقى يتحكم بمصيرها على نحو حاسم بأعتبارها بؤرة سرطانية في بلاد العرب والمسلمين وستبقى بهذه الماهية .
ـ أنك لاتزال تفكر بطريقة كلاسيكية:تكرر ماتعلمناه في المدرسة الأبتدائية ..
ـ ” يضحك” لنخفض من روعنا قليلاً ياأخا العرب ! فهذا هو بالضبط فحواها المقومها والمستمدة منه وجودها بهذه الهيئة بوصفها كما تعلمنا دولة إستيطانية توسعية .. أخبرني جعلت فداك هل ثمة تغير قد حدث على جبلتها الأساسية هذه بحيث نضطر عملياً لتغيير طريقة تحليلها وإعتلاجها ثم التعامل معها بالكيفية المتبعة من قبلك.بالنسبة لي،وهذه قضية محسومة يستحيل التراجع عنها بأي حال من الأحوال،انني سوف أعمل على إعادة النظر في سيرورات الأحداث المتعلقة بهذه الدولة المفتعلة عندما تكف هي عن تعاطي نفسها كما تتخيلها هي إصطناعياً وكما يجسدها التأريخ كوجود عدواني، أي أن تكف عن الوجود تماماً .
ـ ألا تعتقد أن العملية السلمية هي ظاهرة جديدة في سياستها؟
ـ أن الفصل بين المشروع ألأستعماري الغربي والكيان المسخ ” إسرائيل ” يؤول بالضرورة الى هذا الرأي.أن الموجة لم تجعلني اركب إسلوباً بالياً كهذا وكأنه جديداً ، ولاأدري مالذي يجعل المرء يغض الطرف عن هذا الخبرات بوصفها خامات معرفية لكشف مايحدث وماسيحدث على مدى أبعد. ودعني بهذا الصدد أذكرك بالتقنيات التي مكنت الأستعمار البريطاني من فرض سيطرته على بلاد العرب: ألم تك عملية تحريرها من الأستبداد العثماني شعاره ؟ ثم هل يمكن التغاضي عن قهر التأريخ وإذلاله بفرض هذه الثنائية الخبيثة فيما بعد على أكثر تقاسيمه وضوحاً يجلوها بهية وجه فلسطين عبر إحتلاله والتعامل مع هذا الأحتلال بصفته تحريراً ككذبة أرض الميعاد.والحال هذا فأن الشعارات مهما بلغ تزوقها ونزقها لاتغريني.فاللوحة بالنسبة لي ليس ظاهرها، انها جبلاتها الصانعتها بالرمة باطناً وظاهراً .وحسب ذلك فأن عملية تلقيها تقتضي رؤيتها في المحيط الأرتجاعي لهذه العلاقة جبلوياً. والأمر إذا تعلق بدولة كأسرائيل الضاربة الفاشية في أعطافها من كل الأتجاهات ومؤسسة خلبياً،أي على أكاذيب فسيكون علينا أن نشحذ أفكارنا وأبصارنا ومشاعرنا لجلو سياساتها بما يتفق ومضامينها الفعلية والفاعلة.بمعنى آخر ، انها من حيث الوجود كذبة قائمة في ذاتها ولذاتها وعبرها ومن المستحيل تقيضها لشروط أخرى غير تلك التي قامت بسببها وعليها ومن أجلها: كحالة حرب دائمة ضد بلاد العرب كحرب بصيغة السلام،كأمتداد لأكثر حروبها وحشية وأكثر أعمالها الماكرة نذالة في علاقة تساوقية بحروب مركزها هذا أو ذاك حسب المجرى التأريخي .أنك لاتستطيع أن تقولني بهذا الصدد معنى آخر للحرب الثلاثية الفرنسية ألبريطانية ألأسرائيلية ضد مصر 1956 ، وحرب التقصيف الثلاثينية ضد العراق خارج نطاق المشاريع الأمبريالية الأكثر شمولاً.ألم يستثبت ذلك مرة أخرى تدامجها مصيرياً ؟ وإذا لم يقيض لك الأقتناع بذلك ذرني أسألك جعلتُ فداكَ عن الأسباب الموجبة لسياسات التذبيح المتبعة من قبل هذه الدولة ضد أبناء جلدتنا في لبنان وفي فلسطين،وينبغي أن لاننسى في هذا السياق إعلاء شأن القتل من قبلها في العراق والسودان وليبيا يكشفه تعاون الأستخبارات الألمانية “بي .أن.دي ” كما كشف عن الغطاء هنا من قبل برنامج “لـمومنتور” التلفزي مع الآلة الحربية الروسية والمساهمة بتنفيذها،إذا كانت حسب وجهة نظر البعض وإسمح لي بوضعك ضمنهم تجنح للسلم؟ ..ثم ألا ترى بنفسك الثنائية هذه الجامعة القتل وتوسيع نطاقات الأحتلال والسلام إسرائلياً متناسلة من مركزها الذي يجمع القتل بحقوق الأنسان أنجلوسكسونياً ؟هل ستقولني أنها الصدفة هي التي فعلت ذلك أم أنها العلاقة المدامجة هذه القوى الخبيثة جميعها ببعضها وقد مخضت هذه الثنائية كأسلوب من أساليب الحرب لأضفاء جماليات خاصة لأعمالها الوحشية..
ـ وماصلة الديمقراطية بهذا الشأن حتى تتحامل عليها ؟
ـ وهل تتصور عدم وجود علاقة بين الموضوعين ؟
ـ أنا ألذي أسألك عن ذلك ..
ـ إذا كنت تريد جواباً من لدني فسوف لن أكون جحداً. فالديمقراطية كنظام سياسي كما هو مطبق في الغرب الأستعماري ومتنمذج كمشروع من قبل قوى وأفراد هو ذاته الصانع سياسات هذا الغرب.وفي هذه الحالة أن كل مايترتب على هذه السياسات من إحتلالات وحروب وأعمال إجرامية هو المضمون الفعلي لهذا النظام وصورته في أوضح تقاسيمها، أليس كذلك؟
ـ ولكنك تعيش في كنفه منذ أكثر من عشرين عاماً وكما نرى منعماً دون أن تتعرض لما ينغص عليك راحتك..
ـ منعماً بروح الله وذكره ومكرماً بعزيمته.ولاأحد ينغص عليّ راحتي إذا نظرت لمجرى الأحوال مظهريا.أن كل شئ يبدو من الخارج على مايرام ولكن بمجرد دخولك في التضاعيف ستتغير مناطق الرؤيا وعبرها علاقاتها..
ـ هل تريد القول أنك مضطهد؟ .. ايستدعي السؤال الصمت؟
ــ انني أمعن في التفكير قليلاً ..والتفكير بمعاني الأضطهاد ومستوياته يقسو وينبغي عليه عمل ذلك . ولأنك لم تتمكن من الأطلاع على ” كتاب الأحزان والمقاومة ” الذي صدر لي باللغة ألألمانية عام 1985في كولونيا فأن سؤالاً كهذا يصبح مبرراً.أما إذا توفرت على قراءته فستكتشف أن القمع هنا لايقل خطورة مما هو عليه في أماكن أخرى من العالم وهو بصنوفه الكثيرة،وهي في الأغلب ناعمة أشد إيجاعاً منه هناك..أن الجلاد هنا يختلف عن ذلك:انه يرتدى ملابساً حريرية ماركتها “بوس” أو “أرماني” وهو ليس بحاجة لأستعمال الأساليب المتبعة من قبل نظيره هناك. انه لايلجأ الى سجنك إلا في حالات الضرورة القصوى ، وهو أصلاً لايحتاج لأجراء كهذا إذا كان الأمر يتعلق بنشاطات ثقافية ، فثمة السجن تهميشاً !
ـ ولكنك كما نعرف لم تتعرض لمثل هذا العمل ، أنك تكتب وتنشر وترسم وقد أقمت أكثر من عشرين معرضاً في بلدان أوربية مختلفة..
ـ ومع ذلك تستطيع القول أنني انعم بالحرية التي تجعل تكريس المركزية الأوربية امراً لابد منه. انني والحق لايرى إلا بالحق سأظل تحت وطأتها حالة هامشية وفي أحسن الأحوال التعامل معي بمنصب ألـ “الغريب الأطوار” حيث يتم الأجهاز على مضاميني الجوهرية . أن الحرية تشترط أول ماتشترط حسب هذه الديمقراطيات شكلاً من أشكال العبودية تتمثل بأجترار علاقاتها الذهنية التي تحدد لك بدورها المدى الذي يمكنك التحرك فيه،والويل لك إذا خرجت عليه حتى وإن لم تك أجنبياً ، بل وحتى إذا كنت شخصية سياسية أو فكرية مرموموقة ، فثمة من يتربص بك، ثمة من سيكون قادراً على تنحيتك، وعلى هذا المنوال ثمة الأنقلاب ديمقراطياً ، وإذا شئت الأغتيال ديمقراطياً ، بدفعك للأنتحار، وإذا لم تفعل ذلك فستنحر وسيوقف التحقيق في النقطة التي ستؤدي الى عدم كشف الجريمة والأمثلة جمة ياأخا العرب… كأنك لاتريد التصديق !!
ـ لا أبداً،هذا ممكن جداً …
ـ ألم يعملوا على وضع رئيس الحزب الأشتراكي الديمقراطي السابق ” أوسكار لافونتين” في زاوية لم يعد بمقدوره فيها سوى الأستقالة لأنه لم يقتنع بجدوى الحرب ومعاقبته على وقوفه ضد حرب التقصيف الثلاثينية ضد العراق . أننا لانحتاج هنا لدبابات ومصفحات وجيوش مدججة بالسلاح لكي نسمي إجراءً تعسفياً كهذا إنقلاباً ؟ كما لانحتاج العودة بعيداً في الماضي لنرى ” ينيكر ” رئيس البرلمان الألماني ( البوندس تاك ) الأسبق يتلوى من الألم بعد جندلته بعيداً عن منصبه بسبب توصيفات فضفاضة تضمنتها خطبة له توحي فقط بالتطاول على شخصية اليهودي ” المقدسة !!!” .وثمة مثال أقرب من هذا وذاك على هذا الأسلوب ـ الأنقلاب ديمقراطياً ، ولابد أن تكون أنت قد تابعت مشاهده الأكثرأهمية كما تجلوها فضيحة ” الأرقام المصرفية السرية للحزب الديمقراطي المسيحي ألألماني كما أدارها المستشار السابق هيلموت كول.أن عملية كشف هذه الفضيحة بدت وكأنه عملاً بطولياً. ولكنك بمجرد وضعك إياها في محيطها وتقصي أسبابها عبر العلاقات السياسية ألمانياً وعالمياً فستستثبت بنفسك أهدافها الدنيئة، ولعل نهوض هذا الحزب وإستحواذه على تعاطف أغلبية الألمان من جديد بعد خسارته الأنتخابات الأتحادية التي جاءت بالأشتراكية الديمقراطية متحالفة مع حزب الخضر الى دفة الحكم كان بقياسي سبباً جوهرياً لأجراء كهذا ، وقد كان من شأنه احباط هذا النهوض وتحجيم هذا الحزب بما يتوافق وسياسات القوى الدولية التي لها مصلحة بذلك في هذه المرحلة وحسب الشروط القائمة.ماينبغي إستثباته هنا أنها قد تجد مصلحتها في مرحلة أخرى وفي ظل شروط أخرى بمساندة الديمقراطية المسيحية. وحيث لاأستطيع سوى إفتراض شخصيتها الأنجلوسكسوصهيونية فأنني لاأنفي تدخل قوى أخرى محلية تعمل بأتجاهها ذيلياً. وعلى أي حال يمكنني القول أن نهوض الديمقراطية المسيحية مهما كانت الأسباب التي آلت اليه كان موجهاً ضد حكومة حرب كهذه ، حكومة إنتهكت بمساهمتها في الحرب القانون الدولي ، وقوانين دولتها نفسها،وهي بحكم هذا التطور مهيأة للأشتراك بحروب أخرى في مناطق أخرى من العالم .وبهذا السياق يصبح بالأمكان إعتبار عملية إفشال هذا النهوض بمثابة إضفاء شرعية لحكومة الحرب ، وللحرب ذاتها وأصحابها… بصيغة أخرى للحفاظ على ماء وجه الحرب.
ـ وهل الأفتراض يسمح لك بالوصول إلى نتائج كهذه ؟
ـ انني لم أتناول الحدث بعيداً عن العلاقات المحيطة والمتصلة مباشرة به أو المحركته بأعتبارها قرائناً.
ـ حسناً ، مادمنا بصدد الأفتراض لنفترض أن ماتقوله صحيحاً، ومادمت أنت مقتنعاً به لماذا كل هذه السنوات الطويلة في ألمانيا؟
ـ كأنك تقولني ضرورة الخروج منها!
ـ بالضبط ..
ـ ومتى كانت أرض الله ضيقة الى هذا الحد الذي تصبح عنده الرؤيا محكومة بشروط الأعتساف؟ وحيث سأبقى أنا مجترحاً خاماتها: الأحداث حيثني ، والألوان حيثها ، والقصيدة هذه هي تلك لايحمد عقباها،ولاتزال ألأرض كما أرادها الله واسعة .وثمة قضية أود إستثباتها هنا ، وإذا شئت هناك ،سيان:لو لم يقيض لي الأقامة حيث تبصرني ربع قرن بالتمام لما قدر لي البتة معرفة أوربا بحقيقتها وعليها،وهل هناك أكثر نفعاً من ضر كـهذا !!؟
ـ ألا تعتقد ، وأنت تحارب وحيداً على كل الجبهات دون أي أعتبار لما يترتب على ذلك من نتائج ، أنك دونكوشوتياً؟
ـ معاذ الله من مواصفات كهذه ! أن الحديث الشريف”من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فأن لم يستطع فبلسانه ، فأن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الأيمان ” يضعنا على أرض الأسلام الخصبة في سماواته تنويرياً حيث يستغرقني الحق وأذوب في رحابه منتشياً حيث المساحات مفتوحة للمبادرات وليكن الله معي .
ـ ظهرت في الآونة ألأخيرة دعوات تقول بوجود ثقافتين عراقيتين ، والغريب في الأمر أنك لم تدلو بدلوك في هذا الموضوع ..
ـ لقد فعلت ذلك وستطلع على وجهة نظري بها قريباً .
ـوهل تفضلت بقولنا شيئاً منها.
ـ أن هذه الدعوات ذات أبعاد سياسية فجة ستكون كفيلة بفشلها وسترى بنفسك كيف ستتفجر كفقاعات سرعان ماتتلاشى.
ـ هذا كل ماتريد قوله حولها؟
ـ ذرني أسأل : إذا كانت الثقافة كتلة مقتطعة،كتلة بالمعنى الفيزياكيمائي فبأمكان المرء العمل على شطرها أو تفتيتها أو كسرها كصخرة أو أي وجود مماثل قابل لمثل هذا التعاطي ، وهي ليست وجوداً ذرياً أيضاً بحيث يمكن تجزئته وتصريفه فرادى حسب الحاجة. أنها بقياسي وجوداً كونياً من الأتساع بمكان،ومن التنوع بمكان،ومن الشمول بمكان ، ولعلك تستطيع تخيل التعقيد المترتب على ذلك ومايجترحه هو بدوره من معطيات سببية تتدامج في ذاتها نحو الخارج دخولاً في كيمياءات الوجود ، ونحو الداخل خروجاً من ذاتها فيها عبر وحدة الوجود ذاته وتساوقه في العلاقات المجتمعية برمتها.وبهذا المعنى أن ثقافة أمة من الأمم لاتصنعها حالة أو مجموعة حالات أو إتجاه معين ، أو ظاهرة دون سواها ،ولاحتى سياق دون غيره أو أفكار مشرذمة أو منسقة ، رديئة أو أقل رداءةً، وهي أيضاً ليست بالضرورة أفكاراً جيدة : انها بأختصار المراكم التأريخي مجترحاً بهيئات تنوعها لانهايات له،ظاهراً وباطناً، مسموعاً ومحسوساً ، مكتوباً ومرسوماً وإيمائياً ، وماتحتمله التعابير جميعها من دلالات وإستدلالات تمكن هذا المرتكم من تميزه تماماً عن علاقات ثقافية أخرى.
ـ نفهم من ذلك أنك تسخف هذه الدعوات..
ـ أنها ضحلة أو هي الضحالة نفسها .لأنه لايمكن وبأي حال من ألأحوال تصور وجود ثقافات مختلفة بسبب أفكار مختلفة أو إتجاهات مختلفة حتى وإن ناصبت نفسها إرتجاعياً العداء حد الفتك.
ـ بهذا الأتجاه ثمة من يمضي أبعد من ذلك ليحكم على الثقافة الوطنية العراقية بالأنهيار فما قولك في هذه النظرية؟..
ـ أتسمي إسهالاً ذهنياً كهذا نظريةً ؟ ياللعجب !!!
ـ لنقل تصوراً
ـ لتقل ماتشاء غير انه يبقى بالنسبة لي بالصورة التي أراها أنا.
ـ كيف .. هذا مانريد معرفته
ـ أن عدد نا نحن العراقيين تجاوز العشرين مليون إناماً بقليل ، غير أن عدد شعراءنا تجاوز الثلاثين مليون أو أكثر بكثير، تستطيع أيضاً أن تحصي بنفسك عدد النخيل حيث سترى تحت كل نخلة شاعراً ربما إثنين أو ثلاثة .أن العراق قديماً وحديثاً يجترح هذه الصورة لتجترحه بدورها بعيداً عن الضمور والأنحلال بعيداً عن الكسل ، وأبعد بكثير عن الأنكسار ، ودع الأنهيار لأصحابه المتقولينه.هذا إذا كان ألأمر يتعلق بالشعر الصرف وحده أما إذا ذهبنا الى فضاءاته الأكثر إتساعاً حيث تعمر المخيلات بالقصص والروايات والموسيقى والأغاني والفنون التشكيلية وقد عجنت بالمجاعات والموت وأزيز الطائرات المغيرة وبي. وفي هذا المقام لابد من إستثبات ظواهر تحاتات في مجمل العلاقات الأجتماعية تكشف عن إنحطاط حالات مقابل تنامي ونهوض أخرى وهذه سنة الحياة وقوانينها الموضوعية ، ولعل أسطع مثال على هذا الأنحطاط في المجال الثقافي هذه الدعوات المضعرطة نفسها.
ـ وبعد ..
ـ مايمكن إستثباته في هذا المجرى أن هذه اللمة من المتثاقفين ، فيما يتقولونه يسقطون فشلهم الشخصي على هذا الوطن المهيب برمته ، كأنهم يثأرون أنفسهم عبر طلب دمه بالأستعاضة، ولابأس أن يتروحوا بذلك ولكنهم بمجرد ألأنتهاء من طقوس الضغينة هذه سيجدون أنفسهم في المستنقع الذهني ذاته مستقرين. ألم يهولك ذلك ؟ ثم ألا يكفينا كل هذا الضيم وهذا السبي وهذا الموات لنعمل بأنفسنا تفكيراً ونبذل في تضاعيفها تنقيباً بعيداً عن كل هذا الضجيج : أخبرني جعلت فداك ، لو كان ثمة إنهيار ثقافي في العراق كما يتخيله هؤلاء أو أولئك، إنهيار بما تحتمله الكلمة من معنى ، فهل سيكون بوسعنا أن نتعاطى كل هذا الشعر، كل هذا الباه ، وكل هذا الفن تشكيلياً وموسيقياً ومسرحياً ، كل هذا العذاب .. العذاب عذباً، أو هو معذباً ؟ ومرة أخرى لو كان ثمة إنهيار ثقافي في العراق ، هل كان بوسع العراق نفسه كدولة وليس سواه إدراك مخاطر العلاقات الصفوية ونفاساتها الخبيثة على شخصيته الوطنية ودفع ضرها عنه ، وثالثة : لو كان ثمة إنهيار ثقافي في العراق هل كان بوسعه حمل نفسه بهذه الهيئة وفي سياقها خروجاً على ألمشاريع الأنجلسكسوصهيونية المعاصرة ؟
ـ لكنه لم ينجح بعد في تحقيق الخروج عملياً ..
ـ أن فكرة الخروج وحدها شاحذة ألخروج بالعيان والتحقيق ، وهي فكرة مريئة لو لم يعمل العراق على التزامها وطلب نوالها لما حدث ماحدث : حرب التقصيف وإمتدادها الأكثر وحشية الحصار..
ـ وقد أتيت على ذكره ثمة من يعتبره ، أقصد الحصار، ضرورياً لأجراء تغيير سياسي من شأنه إرساء نظام ديمقراطي في العراق ..
ـ ذلك هذريان أنجلوسكسوني يفرط في إجتراره الفاشلون سياسياً وثقافياً وأكثر من هذا وذاك إنسانياً. وإذ يضع هؤلاء الديمقراطية شرطا لأنهاءه فأنهم يقفون ضد أنفسهم وأنت قد زرت العراق مراراً وتكراراً ، وتعرفت على الأوضاع هناك عن كثب: هل التقيت عراقياً واحداً أو ظلاً له يتضور جوعاً تحت وطأة الحصار ؟ هل التقيت عراقياً واحداً أنهكه المرض وأحوج مايكون لبلسم يطيبه تحت وطأته، أو عراقياً يريد أن يبقى على قيد الحياة ، إذا لم يك ضد الحصار؟ والحال هذا كيف يكون بوسع المرء انساناً إذا كان ضديداً للعراقيين كوجود قيافي بحلهم وترحالهم ؟ أخبرني بالله عليك ماذا سيجنيه أصحاب الهلوسات الديمقراطية هؤلاء سوى وضع العراقيين أنفسهم،بلحمهم ودمهم بمنصب الرهينة وتسهيل عمليات تذبيحهم.
ـ لدينا سؤال، ربما سيثير حفيظتك ..
ـ وهل عليَّ أن أذهب مهرِباً ؟
ـ لنـرى مالذي سيحدث ، والسؤال : كنت أكثر المناهضين للحكم في العراق منذ 1968 تطرفاً وكانوا حفنة صغيرة وقد فاجئت الأصدقاء والأعداء بعودتك للعراق بعد حرب الخليج الثانية وفي الآونة ألأخيرة بدأت تعود الى إستعمال لغتك النقدية السابقة حياله بشكل أقل حدة ..لماذا عدت ؟ ولماذا هذا التغير بعد العودة ؟ البعض يقول عنك ، انك إنتهازي ، وهناك من يستعمل أوصاف مجرحة أخرى كتابع أو مطبل للنظام ..
ـ ” يضحك ثم يعود للضحك مرة أخرى ” وحتى يبقى الخليج خليجاً بهذه الكينونة ولها وحسبها فأنه لم يشعل حرباً ولم يساهم فيها أو يقف معها. فالحرب التي أشعلت ضد العراق1991 كانت أنجلوسكسونية بمشاركة دول تتجاوز الثلاثين وهي في الأطار الجغرافي والبيئي ضد الخليج نفسه أيضاً . وبهذا المعنى أنه كان أحد ضحاياها وفي المقياس السياسي ضد شبه الجزيرة العربية وبلاد العرب ثم العالم. لهذا فأن الصاق اسمه بها هو شكل من أشكال الأنتهاك لأزرقاقه ، هكذا في اللوحة ، وفي اللوحة في مقطع آخر يسحب الذاكرة بعيداً عن أصحابها وأهدافها تغييباً لهوية الجاني ، وأما الضحية فماعليه دراسة التأريخ بصورة ممسوخة على النحو المصورة فيه الحرب الثلاثية البريطانية الفرنسية الأسرائيلية ضد مصر تحت اسم “حرب السويس”. على سبيل مثال آخر.والمناهضة للحكم لم تك وظيفة بالنسبة لي ، انها كانت موقفاً إذا وضعناه في اطاره التأريخي فسيحتمل الغلط والصواب كسواه من الخبرات وينبغي عدم التعامل معه وكأنه وجوداً مقدساً. أما تهمة التطرف أو الأكثر تطرفاً فأنها لاتزال تتقفاني فيما أكتبه وأرسمه وحتى فيما أكبته أو أتفرسه أو أتشهاه ، وهي تهمة أنا لست بريئاً منها ، ولاأراني بحاجة لدفعها عني. أنني كما تراني وتسمعني هكذا بمجرد تفكيري أعاف التفكير ، هكذا على سليقتي. وحيث أقطع الطريق نحوي أراني بعيداً ولم أصلني . وحالي على حالي كيف سيكون بوسعي أن أكون إنتهازياً؟ آنذاك حيث كانت الخيارات من الحدة بمكان ، ومن القسوة بمكان ، ومن القدرة على الفتك من أمكنة كثيرة ، كان عليّ الأحتماء بالعراق في القصيدة وفي اللوحة حيث تراني، ولابد أنهم يأخذوني بجريرة العودة اليه مضاداً لذبحه تقصيفاً وتجويعاً وإسقاماً.وهل ثمة مايشير الى نشاط غير سوي في مجرى الصراع أو يوحي به على الأقل؟
ـأنهم يأخذون عليك القطيعة مع ماضيك ..
ـ” أيها الماضي ياابن المراغة ” وهو بالفعل كما في قصيدة ” ناجي الحازب الذي يناصبني العداء ” . ذرني أستثبت أمراً مهماً في هذا المجرى : أن تعويلي على الحكم في العراق هو الآخر ليس وظيفة بالنسبة لي، أنت تعرف عدم توفري على وظيفة أخرى غير هذا الشعر ولم أك في يوم من الأيام سياسياً وسوف لن أكونه : ” النشبُ ذو جمعتُ ديوني ، وجاهي لغتي ، إن لم تقتلني ، فسيقتلني الباهُ ولم أقطع الرجاء من يأسي “. وحتى نضع الأمور في نصابها الحقيقي أنني لم أتمنى لنفسي عملاً سواه وهو بلواي وكيف سيقيض لي الأنقطاع عن نفسي؟ الماضي حسناً أم سيئاً هو مالايمكن التخلي عنه فبمجرد أن أفعل ذلك سأخرج عن سياقي وبذلك سوف لن أكون أنا نفسي وأنا لاأريد إلا أن أكونني وصولاً لمنابعي ، هكذا وهكذا دواليك.
ـ أتريد أن تنكر تغييرك لموقفك السياسي؟
ـ معاذ الله مرةً أخرى وقد قلتك أن مناهضة ألحكم لم تك وظيفة بالنسبة لي بحيث كان عليّ أن ألتزم بها على علاتها ، كما كان حال تعويلي عليه انه الآخر ليس وظيفة. ثمة عوامل في صناعة الأحداث والقوى ، وبهذا المعنى أن إنتقالها من حال الى حال يشترط بالضرورة تساوقات فكرية تتوافق وهذه السيرورة. أن الحكم حسب العلاقات الأجتماعية هو جزء في كلية أوسع بكثير ، وأعقد بكثير ، وأهم بكثير بحيث يصبح التفريط بها تفريطاً بكل شئ بما يماثل التدمير ألذاتي. بمعنى آخر أن الحكم مهما كان موقفنا منه سلباً أو إيجاباً ، الحكم أي حكم بحكم كينونته، بحكم وظيفته لايمكن إلا أن يكون عرضاً بينما يبقى الوطن بمعتبره وعاء ًشاملاً جوهراً ، هكذا من وجهة النظر الفلسفية.ولكن الحكم بصفته هذه عندما يستحيل عاملاً حاسماً للدفاع عن ألوطن لايكف عن كينونته الأولى حياله بل يتدامج فيها على نحو أكثر ضرورةً وأكثر تفاعلاً معها ليأخذ صفة الجوهر تجاه ضرورات أخرى إذا كانت سبباً من أسباب خرابه وذلك ينطبق تماماً على العراق قبل سواه ، ولأذهب مستتثبتاً “على العراق ” ضمن الشروط الأستثنائية الواقع هو تحت وطأتها على مدى العقدين الماضيين. وبهذه الحالة ينبغي التعامل مع الضرورات في محيط علاقاتها الجدلية كيميائياً وقياس مؤثراتها بدقة مختبرية بحيث يكون بوسع المرء استشفاف عناصرها وتقصي مزاجياتها في سيرورة التفاعل مع العناصر الأخرى. هذا ماعملت عليه ولم أجد بداً في ضوء المستنتج عملياً من إجتراح لون آخر في لوحة العلاقة مع الذات الفكرية وعبرها مع الحكم بوصفه عاملاً حاسماً ـ حالياً ـ في صناعة مقومات تثبيت العراق ، هذه هي الضرورة القصوى بالنسبة لي ، الضرورة المطلقة التي تستحق يقيناً كل التضحيات ، وهي في نهاية التحليل وجهة نظر إجترحها تفكير حر. في المستقبل من الممكن ان يكون سبباً في خرابه بعد تخريبه على مدى عقود من قبله
ـ والتنازلات ..
ـ ماذا تقصد ؟
ـ ألم تقدم تنازلات بعودتك للعراق ؟
ـ حتى لو قدمتها والله يشهد انني عدت بالأتجاهين الى مسقطي بغداد ومنها طليقاً، بهياً وصافياً في روحي ولها ، فأنها مهما أستكُبرت تلفيقياً ستكون صغيرة جداً مقايسة بمصير العراق.
ـفي قصيدتك ” الحرب والحرب يظهر التنازل بشكل واضح
-بديعياً ! ” يضحك ” وهنا يجب أن لاتنسى أن التنازل للعراق بصفته عاملاً ، ولي العود بصفته عاملاً يبقى مشرفاً ، إذا وضعته حيال التواطؤ مع الأعـداء ، هؤلاء وأولئك ، وهو بهذه الفحوى ليس تنازلاً له إنما انزاله في القصيدة بمنزلة شغاف الأحداث ، وهو منزل حسن ولاريب ، حيث هو أصلاً مموضعاً وموضوعياً ، وفي اللوحة حيث هي ، ثم في خارجها دخولاً في تضاعيف علاقات مترامية الأطراف معاقدها شديدة وهي ألأكثر عنفاً ، الأكثر تدميراً ، وبذلك ألأكثر خطورة ، في تضاعيفها : القوى المضادة ، هذه والأخرى ، وهذه وسواها، عبر مساحة يندبها الشاعر بـ ماأكثر الأحباب حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل ، حيث يظهر العراق حاسرأً بأعتباره عاملاً حاسماً في منازلتها عسكرياً وسياسياً ونفسانياً.أن القصيدة في اتونها وأنا في سويداءها ، لم تضطرب في طلاء سياسات مخادعة، في طلاء ديمقراطيات مفشتسة لترفض ، وأنا نياطها ، القبول بنزع سلاح ماضٍ مثله منها، سلاح لايقل فعالية عن الأسلحة الأخرى.
ـ ولكن الأسلحة المهمة كما تعرف دمرت كلها..
ـ إذا كانت قد دمرت فبدنياً ، لكنها من حيث فعاليتها وتفاعلاتها لاتزال تضطرم في روع هذه الدولة الأسرائيلية المفتعلة جثوثاً ، ولايبدو أن هائعها قابل للكتم أو الكبت.ألم تشهد بنفسك تلفزياً وهي تستنهض نفسها على هيئة نفاسات ذات تلاوين مختلفة ” تكتسح شخصية هذه الدولة الزائفة ، هذه الدولة المضعضعة ، الرعديدة حيث يختطفها الهراع الى إستخدام الأقنعة المضادة للأسلحة الكيمياوية بمجرد نشوب أزمة لتتداخل في القصيدة منصعقة من ألق يقذف بغضب الأمة المرتكم على مدى عذاباتها وقد قطبته الصواريخ وفجرته كرامات ليس في الأفق مايشير الى منقطعها ، وذا هو مدها المبين كرامات ستستوعب أخرى ، هي عصارتنا جميعاً.
ـ هل تود قول شيئاً آخرَ؟
ـ بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وأهلي وإن شحوا على كرام
ـ شكراً جزيلاً
ـ أيدك الله بفيض من لدنه.
تموز 2000