شقٌ لن يُهزم . قصة : أنور ساطع أصفري – امريكا

 قصة : أنور ساطع أصفري
بقلم : : أنور ساطع أصفري .- الولايات المتحدة الامريكية
أرخت النجومُ أهدابها ، أسدلَ الليل ستائرهُ ، غفا كالجديلةِ ، جلستْ
تحاورهُ ، تسأله بنظراتها ، يجيبها بشرود ، إستيقظت في رأسها المتعبِ
نتفاً من الذكريات ، تُخاطبُ الأشياءَ ، ترسمُ سنواتٍ تائهةٍ على مداراتٍ
غامضة ، تجعلها تحلمُ بممراتٍ آمنةٍ منحدرةٍ من صبابةِ الأزقةِ الولهى .
عناكبُ ، بخورُ ، طلاسمُ ، وجوهٌ بلا أعينٍ تتراءى لها في وحدتها .
بطقوسٍ من الحزنِ تسافرُ بنظراتها إلى كل الزوايا ، تتوسدُ قلقها المسكون
في صدرها ، تتأملُ جدرانَ الغرفةِ الضيّقةِ التي تهدرُ بهذيانٍ مرعب .
توقّفت بإصغاءٍ أمامَ الجرائدِ والمجلات ، الكتبِ والمراسلات ، هزّتْ
رأسها بألأمٍ ، أرسلت زفرةً مصحوبةً بآهٍ مشحونةٍ بغصّةٍ عالقةٍ في الحلق
” كم كان الليلُ مُعتماً بدونك ” .
وقفت أمامَ المرآةِ ، تحسسّت وجهها راحةِ كفّها ، بصماتُ الزمنِ تنتشرُ
كأخاديدَ في كلِ مكان . إلتفتت إلى صورةِ الزفافِ المركونةِ في زاويةٍ
مُختارةٍ على رفٍ من رفوفِ المكتبة ، تراجعت قليلاً ، إستدارتْ ببطءٍ ،
واجهتها غرفة النومِ ، جلست على طرفِ السرير ، تأمّلت وجه الصغير ِ ،
إبتسمت ، مسحتْ بحنانٍ على شعرهِ ، شردت بعيداً ، إسترخت يدها اليمنى
خلفَ رأسِ الصغير ، إخترعت إبتسامةً دامعة ، تحسست جسدها المتعب ، تمتمت
: كان يوماً قاسياً ، فلقد أتعبني الطلابُ حتّى إستوعبوا الدرس .
تسللت من غرفةِ النومِ ، إتجهت إلى المطبخِ ، عادت بدلّةِ القهوةِ ، جلست
قربَ المدفأةِ ، تناولت لُفافةَ تبغٍ ، أشعلتها ، شعرت بجوٍ لطيفٍ مخيفٍ
وحزين .
نظرتُ إليها من وراء نظّاراتي وأنا منهمكٌ في أوراقي :
– أنا مسافرٌ في الصباحِ الباكر .
* ستتأخر أيضاً ؟ .
– يومانِ أو ثلاثة .
نفثتْ الدخانَ عالياً ، إستلقت على أريكةٍ مجاورة ، أغمضت عينيها ، أدارت
وجهها إلى النافذةِ التي تطلُّ على غرفةِ النوم ، رفعت رأسها قليلاً
تسترقُ نظرةً خاطفةً إلى وجهِ الصغير .
– ألم تفكر بولدٍ آخر . ؟ .
نهضتُ على عجلٍ ، إرتديتُ معطفي ، إستدرتُ خارجاً ، أغلقتُ البابَ ورائي
، فكان المقهى وجهتي .
أوشكَ الندمُ أن يتسللَ إلى أعماقها ، إلاّ أنها سارعت :
– لا ، لست نادمةً على شيء ، ولكن من حقي أن أشعرَ به بجانبي ، فأنا
أشتاقُ إليهِ حتّى عندما يكون معي .
تنكّرتْ لكلِ الأفكارِ المجنونةِ ، تذكّرته وهو يلتقطُ دموعها عن خديها
بشفتيه ، تسللّ الدفءُ إلى أعماقها ، إنتشرت رائحةُ الزيزفون ، إبتسمت ،
كادتْ تضحك ، نظرت حولها ، إنسلخت عن ذاتها ، وضعت رأسها بينَ كفّيها ،
أشباحٌ تطاردها ، هذيانٌ يقتحمها بأفكارٍ مشتتة ، صكّتْ على أسنانها :
– لن أُهزم .
* هل تحبينهُ . ؟
– ومن لا يحبُ نفسهُ ، فعندما سمعتهُ إكتشفتُ صوتي ، فعشقتهُ دونَ خوف .
* لكنهُ مشغولٌ عنكِ .
صرختْ بقوةٍ أيقظتْ الصغير :
– كفى ، لا بُدَّ سيعود ، وكما عرفته ، سأضمّهُ إلى صدري ، سنركضُ معاً
من جديد ونحن نرمي أكداسِ العتمة ، سأهربُ به بعيداً عن وسطٍ مشوّهٍ
يتّكىءُ على عاهاته .
* أنتِ واهمة ! .
– بل متيقّنة ، فلقد كان يكتبُ لي بالدم ، وسيبقى يعشقني …..و ..
* تابعي ، لا تصمتي .
– الصمتُ يبوحُ بما لم يَقلهُ لساني ، ليتكَ تسمعُ الصمت ! .
إستفاقت عندما علا صراخُ الصغير وهو يبكي بحرقةٍ ، ضمّتْ طفلها ، إلتفّت
ببطّانيّةٍ حينما إنتابتها رعشةٌ خجولة .
إنطوت حولَ نفسها ، أغمضتْ عينيها ، داهمتها كلماتي :
” أسافرُ في عينيكِ ، باحثاً عنكِ في كلِ شرايينِ الوجودِ وأوردته ” .
تمتمت : ” كُلُّ عشقٍ لسواكَ باطل ” .
تستعرُ ناراً ، تتوسد خاصرة البوحِ ، ترتعش ، تدخل ملكوت الروح ، تعشق
بلا إثمٍ ، تغتسل بروحِ العشقِ ، تختلج فرحاً ، ترقص ، فتتسع دوائر
اللهفة .
ضحكتْ لأفكارها ، تنهّدت ، أخفتْ إبتسامةً مهاجرة ، تنمّ عن الإطمئنانِ ،
حلمتْ بصباحٍ جديدٍ يلوّن حدقتيها بالأملِ المسافر كالنسيم ، بقيثارةٍ
تعزفُ لحناً أقوى من العشق .