فضاءات عربية (::)
بقلم : بكر السباتين (:)
لزهرة النور غروبها الأبدي؛ ولكن للشعر طعم البقاء..
فجعت الأمة العربية برحيل أحد عمالقتها الشاعر العراقي الكبير عبد الرازق عبد الواحد.. في العاصمة الفرنسية باريس صباح هذا اليوم الأحد الثامن من نوفمبر 2015 عن عمر يناهز 85 عاماً.. وقد أغربت برحيله عن المشهد الثقافي العربي، زهرة النور، التي طوت معها إلى سكون الأبدية روحَ شاعرٍ متمرد أحب نخيل العراق، ونهضة بغداد.. وأم المعارك التي قادها الراحل صدام حسين حتى سمي بشاعرها.. لذلك ظل الشاعر متواصلاً مع تفاصيل تلك المعركة ثقافياً حتى بعد انهيار العراق، فبات يحلم باسترداده من الذين تبوءوا سدته بحماية أمريكية، أولئك الذين شرذموه، قاتلين بذلك الشخصية العراقية التنموية التي بذل صدام من أجل بنائها الغالي والنفيس..
ولد الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، عام 1930م في قلعة صالح في محافظة العمارة بجنوب العراق، وهو شاعر معروف من أهل بغداد، لُقب بشاعر أم المعارك أو شاعر القادسية ولد في بغداد عام 1930 تخرج من دار المعلمين (كلية التربية) عام 1952م، وعمل مدرساً للغة العربية في المدارس الثانوية. وشارك في معظم جلسات المربد الشعري العراقي.
عمل عبد الرزاق عبد الواحد مديرا لتحرير مجلة صروح السورية، وبما أن مجلة صروح السورية تتعمد النخب الممتازة، كان هذا ما حدا به على الموافقة على استلام منصب مدير التحرير ابتداء من عددها الثالث والذي حوى في طياته ((دويتو)) الفن مع الشعر، إذ قدم فيه توليفة رائعة ما بين حروف قصائدهِ التي انسكبت على ألوان ريشة الفنان العراقي فؤاد حمدي.
الشاعر عبد الرزاق يعتنق الديانة الصابئية وكان عضواً في لجنة تعريب كتابها المقدس (كنز ربا). وكتب في العدد الرابع من مجلة صروح السورية بحثاً مطولاً عن هذه الديانة إذ شرح فيهِ أصولها والجواهر اللاهوتية التي تعتبر أساسيات هذه الديانة، وتاريخها.
ويذكر أن عبد الرزاق عبد الواحد كان زميلاً لرواد الشعر الحر: بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة عندما كانوا طلاباً في دار المعلمين (كلية التربية) نهاية الأربعينات، من القرن الماضي، فهو كتب الشعر الحر أيضاً ولكنه يميل إلى كتابة القصيدة العمودية العربية بضوابطها.
وكنا قد احتفينا بالشاعر عبد الرازق عبد الواحد في صالون الشاعرة مريم الصيفي مع نخبة من كبار الكتاب العرب بعمان، مساء العاشر من سبتمبر ٢٠١٥ .. وأذكر حينها كيف أن دمعته كانت تسبقه كلما ذكرناه ببغداد أو فلسطين.. حتى أنه أوصانا بهما خيرا إذا ما وافاته المنية.. وكان يرى بأن العراق يشكل جوهر القومية العربية لذلك استهدفه المغرضون.. أما فلسطين فهي درة تاج العروبة وهي قضيتنا الأولى التي لا يمكن التجاوز عنها.. وكأن مشاعره الجياشة أخذت تحرض روحه كي تنثال مع شلال الشعر من قلبه الشفوق، وعقله اليقظ؛ ليقدم لنا مزيجاً من الشعر والنثر، فثملنا ببوحه الأخير، مستحلبين سلافته، كأنه بدا مدنفاً يتنبأ بموته القريب.. فلمسنا في شعره ملامح الوداع والأفول.. هذا الفقيد الذي أورث المشهد الثقافي العربي، نخلة عراقية دالية القطوف، ذات مذاق تحلى بأصالة شعره الذي يمثل ضمير الأمة وهمومها..
ويمتاز شعره بالخيال المجنح والخصب.. والعاطفة الصادقة الجياشة التي جمعت ما بين التحسر على الماضي والغضب من الحاضر.. وكانت تضج في طياتها طاقة إيجابية للانبعاث.. ويمتليء شعره بالموسيقا التعبيرية، والمنبعثة من المعنى المتغلغل في الصور الفنية، التي أخذت تتفجر فيها كل مكونات رؤية الشاعر، بما احتوته من مفردات العزة والرفعة وتفاصيل الحياة العراقية والبيئية.. وقد أضاف إليها الشاعر بريقاً من وهج حبه للعراق الذي استقر في قلبه وضميره فلم يقدم على خيانته حتى وهو في أحلك ظروفه..
وأذكر في هذا السياق ما قرأه علينا الراحل الكبير ونحن نحتفي به مع نخبة من الأدباء في صالون مريم الصيفي بعمان :
” يا عراق هنيئاً لمن لا يخونك..
هنيئاً لمن إذ تكون بعيداً يكونك..
هنئاً لمن، وهو يلفظ آخر أنفاسه، تقلق عليه جفونك”..
وقد شارك الفقيد في قادسية صدام من خلال شعره الذي أضاف للمعركة بعداً إنسانياً في إطار ثقافي بعيد الأفق.. فقال في إحدى حماسياته:
وهؤلاء الذين استنفروا دمهم
كأنما هم إلى أعراسهم نفروا
السابقون هبوب النار ما عصفت
والراكضون إليها حيثُ تنفجرُ
الواقفون عماليقا تحيط بهم
خيل المنايا ولا ورد ولا صدرُ
وكان صدام يسعى بينهم اسداً
عن عارضيه مهب النار ينحسرُ
هذا هو العراق المفقود الذي كان يمثل بالنسبة له نافذته إلى القومية العربية.. وحينما أطلق النقاد عليه اسم شاعر أم المعارك نوه إلى أنه سيقبل بهذا اللقب من منطلق إيمانه بالمعركة التي كانت تعتبر خط الدفاع الأول عن الأمة العربية؛ لكنه لن يتقبله كرديف لمسمى ( شاعر البلاط).. وكان يعبر دائماً عن تمسكه بهذا اللقب من خلال هجائه للحكومات العراقية المتعاقبة التي شرذمت العراق.. فقال فيهم:
“لـكـم سجـون، ولـنــا أجــسَـادُ لـكــم ســيــاط ، ولـنــا عناد
لـكــم جــيــوش ، ولـنــا دماء هــذي تــباد، تِـلـك لا تــباد
لـكم سِلاح مــا بـهِ عتاد لــنــا أياد كـلـهــا عتاد ”
ترجل الفقيد عبد الرازق عبد الواحد أخيراً عن فرسه، راحلاً إلى سكون الأبدية مع الغروب.. الشاعر العربي الكبير عبد الرازق عبد الواحد..
ونقول في وداعه:
لزهرة النور غروبها الأبدي؛ ولكن للشعر طعم البقاء..
رحم الله الفقيد..