القصة ….
قصة : شوقية عروق منصور – فلسطين المحتلة ….
كانت تجلس دائماً مع الرجال ، لا تهتم لجلسات النساء الا اذا مرت ووجدت بعض النسوة يجلسن امام عتبة احدى البيوت يتناولن الأحاديث النسوية ، تجلس قليلاً تشرب فنجان القهوة تشعل سيجارة تتناولها من جيب فستانها وأحياناً تناولها احدى النساء سيجارة سرقتها أو قامت بلفها من وراء زوجها ، ثم تقوم تاركة المكان بهدوء ، ويستمر حديث النسوة دون الاهتمام بذهابها .
كانت ترتدي الفستان القصير حسب الموضة ، وكلما جلست ارتفع الى فوق فتقوم بشده الى تحت الركبة ، لكن الركبة سرعان ما تتمرد وترفع الفستان الى أعلى ، ليظهر جلداً ناشفاً مملوءاً بالشعر ، والساقين عبارة عن تفاصيل بعيدة عن الأنوثة وأقرب الى ساقي والدي ، وكنت أتعجب ، من أمي والجارات حين يستقبلنها بكل محبة وترحيب، وكذلك رجال الحي الذين كانوا يستقبلونها أيضاً بحفاوة .
كانت تتحدث معهم حول الأوضاع السياسية والاقتصادية ، وتشتم رئيس الحكومة والوزراء والسياسة الإسرائيلية ، وتشتم رئيس البلدية ، كانت هي تشتم وهم يهزون رؤوسهم دون أن ينطقوا بكلمة ، يؤيدونها بتعابير وجوههم ، لا أحد يوقفها عن الشتم ، كأن هناك اتفاقاً سرياً بينهم يحق لها الشتم ، فهي تشتم بلسانهم ، وهي تقول ما عجزوا عن قوله ، هي اذاعتهم وبوقهم .
يقال أن أحد أذناب الحكومة حاول أن يسخر منها قائلاً ” روحي ضبي اجريكي .. يا زلمة !! ” فما كان منها الا أن هجمت عليه وضربته على وجهه فكسرت أنفه .
اشتكى للشرطة ، وقد سجنت عدة أيام ثم افرج عنها ، بعد أن توجه مختار الحي الى عائلة هذا الذنب ، ووافقوا على سحب الشكوى بعد أن قبضوا مبلغاً من المال ، تم جمعه من العائلات القاطنين في الحي
عندما ولدت كانت أنثى ، هكذا قالت لهم الداية في المستشفى حين فتحت الباب معلنة لوالدها أن زوجته أنجبت ” بنت ” لم يسود وجهه لأنها الأبنة الأولى بعد أربعة صبيان واعتبر قدومها خيراً ، لكن كانت تصرفاتها وسلوكها مثل الأولاد حتى صوتها أشبه بصوت اخوتها الذكور ، في المدرسة كانوا ينادونها ” حسن صبي ” ، وفي الحارة دائماً تلعب مع الصبيان ، وكلما ضربتها والدتها ومنعتها من اللعب معهم ، كانت تتسلل هاربة ، لم تترك عشاً للعصافير الا أتت به الى البيت ، لم تترك شجرة الا وتسلقتها ، كانت تملك طيارة من الورق حيث تصعد الى أعلى التلة في القرية وتقوم بتطييرها ، وجميعهم يعرفون طيارتها، لأن ذيل الطيارة كان مصنوعاً من سروال جدها الذي توفي حديثاً ، فجميعهم يعرفونه فقد خاطته جدتها من شوال سكر أبيض كتب عليه ” shogr ” بالانكليزية ، ويقال أن احدى السائحات عندما زارت القرية لفت نظرها سروال الجد الذي كان يهم بركوب حماره عندما كان خارجاً من الديوان ، وأخذت تلاحقه في الطريق ووقفت تنتظره عندما أوقف الحمار ونزل أمام بيته ، أخذت تقرأ كلمة ” شوجر ” وسألته من أين له هذا السروال ؟؟ فلم يعرف السؤال ولكن دعاها للدخول الى البيت فرفضت ، لكن أشارت بإصبعها الى الكلمة ، فظن أنها تتحرش به فابتعد ، منادياً أحد الصبية الذي سألها ماذا تريد هذه السائحة ، وعندما ترجم الصبي السؤال ، شتم الصبي والسائحة ودخل البيت غاضباً ، لقد خذله السؤال ، كان يعتقد أن هناك امرأة أعجبت به .
كانت الصدمة عندما بدأ ينبت الشعر على وجهها وعلى صدرها ، لا مجال للتهرب وتغطية الوجه ، وبدأت رحلتها مع الأطباء الذين أعلنوا عجزهم ، وما عليها الا ان تقوم بحلاقة وجهها مثل والدها واقاربها الرجال أو نزعة بطريقة السكر مثل النساء.
عاشت جزءاً من جدران وطرقات وحفر وبؤس الحي ، وجهاً وجسداً مخلوطاً بدورة إنسانية تائهة ، لم تحمل المرآة يوماً لكي تتزين ، بل كرهتها لأنها تعكس حقيقتها الضائعة ، كانت تتوهم أنها ربحت جولة الرجولة حين تتظاهر بالجلوس مع الرجال ، تناقش وتشتم وتلعن ويأخذ الرجال برأيها ، وتتوهم ربحت الأنوثة حين تكون صديقة للنسوة ، جارات وصديقات ، همسات واسرار تحشرها في صدرها الذي كان الشعر يغزوه بكثافة ، فهي أمينة ومخلصة لا تكشف أي سر من اسرار النساء ، وكل امرأة حدثتها كانت متأكدة أنها أسقطت سرها في بئر عميقة ، لقد كرست نفسها للركض بين الرجولة والانوثة ، وكلما ركضت ذابت الخطوات تحت أقدامها واكتشفت أنها تعيش في خيانة مع جسدها الذي لا تعرف الى أية بوصلة يتجه .
فجأة اختفت – اختفى – من الحي ، منهم من قال انها هربت – هرب – بعد أن قام اخوتها بطردها من البيت فقد اختلفوا بعد موت والدهم على الميراث ، وقامت والدتها بالوقوف الى جانب أولادها الذكور معلنة أنها لا تعرف حقيقة جنس ابنتها أو ابنها لذلك لن تستطيع أن تسير حسب الشريعة والدين ، وعليها أو – عليه – أن تخرج من دائرة الميراث .
ومنهم من قال أن أحد السياح قد أخذها – أخذه – معه الى الخارج ، ومنهم من قال انها لجأت – لجأ – الى أحد الأديرة ، رويداً رويداً بدأ الحي ينساها – ينساه – ، ولم يعد احداً يسأل عنها – عنه – ، وتحولت – تحول – الى ماض بقي منه جسداً تائهاً يتحرك في الذاكرة في الأحاديث العابرة .
في يوم دخلت سيارة الأجرة الى الحي ونزل منها الرجل الأنيق ، يرتدي بدلة رسمية باللون الأسود ، مع قميص باللون الأبيض وربطة عنق حمراء في منتصفها دبوساً من الذهب على شكل نسر ، كان الرجل يحمل في يده حقيبة رجل أعمال وحقيبة سفر كبيرة الحجم ، وقف أمام باب البيت ، محاولاً التفتيش عن مكان الجرس ، لم يجده ووجد مكانة حفرة في الجدار ، همس لنفسه .. الظاهر أن أحدهم قد قام بنزع الجرس ، فقام بدق الباب الخشبي الكالح الذي كثرت فيه الثقوب ، والذي يؤكد أنه لم يتغير منذ زمن بعيد ، عاد ودق الباب بسرعة عدة مرات .
أطلت فتاة صغيرة سألها عن والدها ، فقامت بنداء والدها .. قدم وأمام الباب سأل عمن يريده .. قال له تأملني .. عرف ملامح شقيقه أو شقيقته ، صمت .. ثم رحب به ، لقد تحير ماذا يناديه – يناديها – ..؟؟
دخل الى البيت .. سأل عن أخوته الثلاثة ، قال له شقيقه الواقف أمامه :
– جميعهم يقيمون في البيت الضيق ، كل واحد يعيش مع عائلته في غرفة ، وأنا أيضاً لي غرفتي حيث أعيش مع عائلتي في الغرفة .
فقال بعد تردد … وأنت :
– لقد اشتغلت وصممت على اجراء عملية أحدد من خلالها بها جنسي ، حتى أحصل على حصتي من ميراث أبي .. أنا الآن رجل مئة بالمئة .
نظر اليه شقيقه مبتسماً :
– اذا وجدت مكاناً فارغاً خذه .. !!
وضع حقيبة السفر الضخمة على الأرض .. وأخذ يتأمل بيتهم لأول مرة .