اصدارات ونقد ….
قلم : رانيا مسعود – مصر ….
وتعودُ “ياسمين” من باريس محملةً بالهدايا والأسرار الغامضة، وتتزوج “هاجر” بشخص ذي مركزٍ مرموق جاء بترشيحٍ من أخيها “شريف”. ولكن قرار “ياسمين” بالعودة إلى باريس مجددًا ينزل كالصاعقة على “زينب” التي تتسول منها المشاركة في حياتها ولو بالغداء العائلي الذي يجمعهما. إنها كما ولدها “إيزاك” بحثت عن حياتها بعيدًا عنها، والآن تريدُ أن تأخذ ولديها لتطمئن على مستقبلهما هناك كما تدعي، لكن “زينب” تخشى عليها من سرٍ دفين لم تفصح لها عنه بعد.
كان قرارُ “ياسمين” بالرحيل هو ما أخفته عن “زينب” والتي فوجئت بها قد اتخذته بعد ترتيبات لولديها كي يتربيا ويتعلما في فرنسا، كما أخبرتها. لقد كانت مخاوف “ياسمين” دافعًا لتحريكها خارج حدود مصر إلى أن تتركها بعد بلوغها مبلغها من النجاح، بتحقيق المكاسب الدنيوية التي أرادت. إنها الآن تستطيعُ أن تستعيدَ يهوديتها بالسفر إلى باريس لتصبح من جديد يهودية فرنسية وتحصل على الإقامة إلى أن تعود إلى وطنها بجواز سفر تنتسب به إليه،وقد جمعت من أوراقها القديمة ما يشاعدها على إثباتِ ذلك. ولكنها لا تدبر للعيش في موطنها الجديد، لأنها تريدُ أن تعيشَ ناجحةً بعد إحساسها بطعم النجاح المادي الذي حققته ، وهي تريدُ أن تحتفظَ برأس المال الضخم الذي كونته مع صديقتها، أما بالنسبة للصديقة “خديجة” فـ “ياسمين” حتى لو استعادت يهوديتها لا يهم منها إلا العمل وتحقيق الأهداف منه. إنهما قد تعيشان في قصور وبيوت وتودعان هذه العيشة القديمة في مصر ليصبحا في أفضلِ حالٍ عن ذي قبل، ويديرا أموالهما. لقد كانت تلك النجاحات بمثابة إشباعاتٍ لما قد ضحيا به من قبل من الرضوخ إلى زوجين فاشلين. وبمساعدة حاخام اليهود “كورييل” كل شيءٍ أصبحَ معدًّا ومجهزًا الآن من استقبال ولدي “ياسمين” وحتى التدابير والإجراءات الأخرى، فالمالُ أصدقُ كلامًا من غيره حين يتحدث. فقط احتاجت “ياسمين” أن تطيلَ هذه المرة فترةَ إقامتها بمصر قبل أن ترحل عنها إلى الأبد. وقد ساعدها حظها إذ اندلعت بعد سفرها بأسبوعين فقط حرب 67.
ولدى عودة “خديجة” من رحلتها إلى باريس وحيدة زارت “زينب” لتروي لها قصة إقامة “ياسمين” هناك بفرنسا، ولكن الخبر كان كالصاعقة على “زينب” فقد تأكَّدَ لها أنها بالفعل هاجرت وعادت إلى يهوديتها، وعلى الرغم من أن “خديجة” لم تُصَرِّحَ لها بأي شيء، فإن “زينب” استطاعت بذكائها أن تفهم أن ابنتها لم تحصل على الإقامة هناك إلا لعودتها إلى يهوديتها. وزادَ الأمرُ تأكدًا بما طلبته “ياسمين” وأرسلته على لسانِ “خديجة”، فـ “ياسمين” الآن تريد من والدتها أن تساعدها على الحصول على طلاقها وحريتها من “عزيز راضي”. وهو الأمرُ الذي استسلم إليه “عزيز” الذي رأى أنها هناكَ في فرنسا أفضل حالًا من هنا في مصر، وأن ولديْهِ هناك أفضل مما هما فيه في مصر. وساعدت بهذا الشكل “خديجة” صديقتها “ياسمين” على الحصول على حريتها. وللمرة الأولى يشيرُ الكاتبُ باستخدامِ لفظة “عشيقة” عن “ياسمين” التي لم تكن لتساعدها “خديجة” بهذه الطريقة إلا لمطامعها الجسدية والمادية فيها، وهي إشارة أيضًا إلى أن “خديجة” لا تهتم لديانة “ياسمين” بل هي تهتم فقط للمصالح المشتركة معها. وفي إطارِ ما يحدثُ من صراعاتٍ سياسية أدت إلى اندلاع حربٍ بين بلادها والكيان الذي تنتمي إليه “ياسمين” الآن، تبيعُ “خديجة” مبادئها ويموتُ ضميرها بمساعدة “ياسمين” في العودة إلى دينها، بل وفي ارتكابِ جريمةٍ أكبر ألا وهي تهويد الطفلين من أبٍ مسلم. وربما كانت تلك المساعدات في غياب أي وازعٍ دينيٍّ لـ “خديجة”، وربما كان هذا أيضًا في وجودِ دافعٍ أقوى وهو المصلحة المادية والشهوة الجسدية.
ثم يُجمل الكاتب ما سرده من تفاصيل في ازدياد مساحاتِ الوحدة التي سَوَّرَتْ “زينب” الآن، فأصبحت لا تستطيعُ أن تنفلت من براثنها؛فابنها الآن لا شك أنه قد رحل إلى موطنه الجديد، وابنتها قد عادت إلى يهوديتها، والثالثة تتعالى عليها بانتسابها إلى زوجها الدبلوماسي بعد أن كانت تعاني عار التصاقها بأم يهودية. ويعودُ الكاتبُ ليلقي بإلماحة أخرى عن طبيعة الشخصية اليهودية التي لا تركن إلى المشاعر، ولا تمثل العواطف بالنسبة لها أكثر من مجاملات. وهنا يعودُ بنا الكاتب إلى التوغل بعمقٍ أكبر في رسم شخصية “زينب” التي كان جدها لأبيها مغربيًّا أتىإلى مصر، وبمجرد وصوله انقطعت كل صلة له بأرحامه، وهذا يلقي بظلاله بلا أدنى شك على ما كان منها من قطيعةٍ حتى لأقرب من تنتسب إليهم أختها، والتي كانت مصلحتها كـ “زينب” بعد إشهارها إسلامها للزواج بـ “شوكت” أفضل لديها من صلة رحمها مع أختها ابنة أمها وأبيها التي تربت معها ونشأت في بيتٍ واحد. إنها الآن وبعد سماعها خبر وفاة أختها لا تشعر بأي مشاعر تندم عليها لأنها لم تمارسها مع أختها الراحلة حتى قبل رحيلها، وإنما هي تتذكر قسوة عقدها العرفي الذي يربطها بـ “فهمي جار الله” الذي ما كان إلا ارتباطًا شكليًّا فقط لتغطية المظهر. ويختفي عنها “فهمي” ويشيح بوجهه بعيدًا؛ فلا تستطيع هي إخفاء مرضها ولا تقديم أنوثتها إليه مما يجعله يطيل غيابه. وتترك “زينب” بيت الزمالك لتعيش في المنصورية، ولكنها لا تستطيع أن تقاوم رغبتها في العودة إلى يهوديتها ولا حتى رغبتها في الإبقاء على إسلامها الظاهري، فهما رغبتان تتصارعان داخلها، فلا هي تستطيع أن تترك ما حصدته من نجاحاتٍ في مصر من مالٍ وجاهٍ وأشياء تسترها الآن في منزلها بالمنصورية، لكي تعودَ إلى ابنها الذي تتأكد حتمًا أنه في بلده الطبيعي، ولا تستطيع أن تغادر كل ما وصلت إليه لتذهب وتعيش هادئةً في فرنسا بجوار ابنتها. وتستقرُ “زينب” باسمها الذي عاشت به اسمًا فقط في منزلها بجوار مناحل العسل ومزارع الخضر والفاكهة، وتعيشُ معها فلاحتان هما “خضرة” و”نعيمة”.
ويختتم الكاتبُ المشهدَ بحرب أكتوبر و”زينب” تتابعها بالبكاء، وهذا المشهد حتمًا يعيدنا إلى مشهد البداية حين بدأ الكاتبُ بـ “زينب” تحاولُ الاستماع إلى شيء في المذياع، وفي النهاية تختتمُ مشهدها الروائي الأول بأن الحب هو الجامع لما تفرقه الحروب، وأن على كلمات “أم كلثوم”المطربة أن ترتق ما بها من آلامٍ في صدرها من غياب أحبابها عنها. ولكن مشهد البداية كان للكاتب أن يتبعه بتفسيرٍ في النهاية، وها هو يلقي بالتفسير حين يتحدث عن إغلاق ملف الحرب وفتح ملفات السلام، وعندها تأتي النهاية مفتوحة فلا “زينب” ماتت، ولا طموحاتها وأحلامها تموت.
واستعراضًا لما قدمه الكاتبُ من قضايا مهمة، وملموسة الآن بقوة في مجتمعنا حتى أننا نكاد نجزم بأنه قد تنبَّأَ بها، فما يعانيه مجتمعنا الحالي من تفككٍ أسريًّ وخللٍ عقديّ يستدعي في الأذهان حالة اللادينية التي سرت في المجتمع المصري بسبب عدم انتقاء الأم المربية ذات الدين، وكذا ابتعاد الأسرة عن روح الدين والذي أدى إلى البحث بنهمٍ عن الماديات؛ مما أخذ بالرواية إلى مناطق مختلفة أدت إلى كشف ستر المجتمع الطامع الطامح، والمجتمع الاستغلالي لهذا الطمع. لم تكن القضايا التي ألقى “إحسان عبد القدوس” عليها الضوء في روايته المكتوبة في أواخر سبعينيات القرن الماضي إلا إشعالًا في الأذهان لـ (قنابل) اجتماعية خاملة مؤقتًا حتى يأتي لها موعدها المحتوم فتنفجر في وجوه أفراده؛ فقضيةُ الاقتران بالزوجة لجمالها دون مراعاة لأصلها ودينها وحسبها ونسبها هي سيدةُ القضايا في الرواية والتي أدت إلى انحلال المجتمع بأسره كما رأينا. إن “زينب” والتي أصرت على الاحتفاظ بديانتها سرًّا حتى تخدع الجميع لتصل إلى مآربها لا ينبغي أن تمر على أفراد المجتمع مرورًا سريعًا دون أن تأتي لهم بمآلات الزواج بغير المسلمة التي لم يُتحقق من إيمانها الكامل، وهنا لا بد أن نستدعي في الأذهان ما يقوله الله تبارك وتعالى: “لا تُنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ ولأمةٌ مسلمةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم”، فالآية الكريمة أوضحَت للجميع أن الاقتران بغير ذات الإيمان لا يُنتج في المجتمع إلا ما استعرضته الرواية من أحداثٍ متنامية أدت إلى انهيار الكيان الأسري. نَعَمْ ظلت “زينب” أو “لوسي” تأتي لأبنائها بما يتفق مع مصالحهم، لكنها ظلت حتى النهاية في الرواية مصدرًا مهمًا للمادة فقط، ولم تكن أكثر من ذلك. وعند افتضاح أمرها لابنتها الصغرى كانت تنكرُ ما يعاير المجتمعُ بها الصغيرة، إلا أنها تبدي ما لا تخفيه، وهو ما أصرَّ الكاتبُ على شرحه بالمشاهد. إن الدين لم يبلغ من “زينب” مبلغه مثلما بلغ من أختها “ليزا”، فهي التي تكره الطقوس منذ البداية، وهي غير المهتمة بأدائها، لكنها تظل من البدء وحتى المنتهى تشتهي الرجوع إلى أصلها وديانتها.
التفكك الأسري الذي أثارته الرواية واضح بصورة جليِّة منذ بداياتها في أسرة “لوسي” على الأقل حين ظهرت مطامعها لتحاول أن تغيِّرَ من مستواها الاجتماعي، فما كان منها إلا أن طلبت الطلاق لتقيم علاقة أسرية جديدة مع شخصٍ آخر أدى بأسرتها اليهودية إلى التفكك والاغتراب، وهو ما حاول زوجها “زكي راؤول” التغلب عليه باعتناقه الإسلام ظاهريًّا كي يرضيها، إلا أن مطامعها كانت أكبر من مجرد اعتناق ديانات. تلك الأسرة التي كانت نواةً فاسدةً فيما بعد إذا ما طالعنا المواقف التي أدت بالابن إلى اعتبار والدته مجرد كنز من المال يلجأ إليه ويغير اسمه ويغير ديانته إرضاءً لمآربه الخاصة كما رأينا في “إيزاك”. وبالنسبة لاقتراب الفتاة من والدتها ومحاولتها سد هذه الفجوة من الشعور بلا وجودية الأب المركزية في الأسرة مما أدى إلى انهيارها وشعورها بعدم الأمان في كنفه، وهو ما أدى بالضرورة إلى أن ألقت بنفسها للرجل الذي اختارته لها والدتها فيما بعد ليكون هو الآخر سندًا وهميًّا بنسبه إلى عائلةٍ كبيرة، وتفاقم الوضع بغياب دوره كزوج إلى أن ألقت “ياسمين” بنفسها في أحضان عشيقاتها من النساء، ومارست من ثَمَّ الشذوذ.
المحورية التي لم يمارسها أي أب من الآباء مع أسرته وفي ظل وجود نساء دواهي كما رأينا هي التي أدت إلى أن اصطحبت الأم ابنيها معها في رحلة بعيدًا عن الأب حتى أنها تغير لهما دينهما بعد أن أمضيا من العمر في بلدهما ما قد يكفيهما للنشأة بدينهما الأول، وهو من المآخذ على الكاتب حيث جعل العمر الأول للطفلين والذي تتشكل فيه بقوة عقدية وليس من السهل عليهما أن يتركا دينهما إذا أمضيا فيه بحق سنوات من التشرب له، إلا أن وضعيهما بين أسرتين لا تمارسان الدين هنا هو ما قد يجعل الأمر مقبولًا لنا في تغيير الأم لديانتهما فيما بعد.
قضية انسياق الرجل وانهياره أمام المرأة الجميلة اللعوب هي القضية الأساسية أيضًا والتي استدعت في الأذهان ما يتردد من خوف الرسول على الأمة من فتنة النساء. ولا ننسى أن عدم تمسك أي من الرجال الذين التفوا من حول “لوسي” بدينهم هو الذي أدى إلى المشكلات الاجتماعية بالتفاقم، فالمادية الطاغية على تفكير كل شخصية من رجال تلك الطبقة هو المحرك وراء اندفاعه لنكرانه ديانة “لوسي” للزواج بها، بل وللإنجاب منها ولو بطريقةٍ غيرَ مشروعة. وتلك التي أثارت في النهاية قضية أخرى وهي قضية معايرة المجتمع للابن والابنة بوالدتهما، فها هي “هاجر” تنهار من مواجهة المجتمع لها بيهودية أمها، وحتى مع إنكارها إياها لا نجد لذلك نتيجة إلا في انهيارها الشخصي حين ارتمت في أحضانِ الشاب المستهتر الذي أراد استنزافها ماديًّا كما رأينا من الأحداث.
مجتمعات الأندية وفساد وانحلال أغلب أعضائها هو أحد أهم ما ألقى الكاتب عليه بذكره لهذه المجتمعات التي كانت وستظل بؤرًا للمفاسد الأخلاقية والاجتماعية، وتحطيمًا للقيم الأخلاقية بالتمسك والتشبث بالماديات. فهذه المجتمعات هي التي حاولت “لوسي” الاقتراب منها لكي تنتشر فيها وتفرض نفسها عليها لتحقق مآربها وغاياتها.
قضايا السلطات المطلقة أيضًا وعدم تحري الدقة في المنتسبين إليها أشارت إليه الرواية في أكثر من موضعٍ، فشخصيةُ “فهمي” في النهاية برهنت عليها، لكن إلماحات الكاتب إحسان عبد القدوس لها من البداية في اختيار شخصية “إبراهيم سرور” وأيضًا انتسابه إلى جهات حساسة بالدولة على الرغم من يهوديته التي يخفيها، وتغافل المجتمع لديانة زوجته، كل هذا يؤدي في النهاية إلى ما رأينا من انهيار الأجهزة الداخلية للدولة بتسلل اللادينيين أو حتى اللامنتمين الذين يستهدفون البلادَ جذرًا.
قضية المال الذي أثار مطامع خديجة بتخليها عن قيمها وعقيدتها، بل ومساعدتها لـ “ياسمين” أن تبلغ مراميها بتغيير ديانتها وديانة الطفلين هي من أخطر القضايا التي يثيرها (إحسان عبد القدوس) في الرواية. وأموال النساء التي أدت بانحرافاتهن بممارسات رذيلة كانت حاضرةً وبقوة، وهو ما نلمسُهُ في نساء المتعة المحرمة اللائي التقين “خديجة” و”ياسمين” لِبَثِّهِمَا أموالهن والنفوذ ولكي يغدقن عليهما بالهدايا مقابل ممارسة الرذيلة.
والمُلاحظُ من حيثُ البناء السرديأن الرواية قدانقسمت إلى أحد عشر فصلًا لم يُطلِقْ الكاتبُ على كل فصلٍ منها اسمًا بعينه، بل كانت الروايةُ متتاليةَ الفصولِ بشكلٍ رقميّ، بحيثُ لا ينقطع القارئُ عن التسلسل السردي. وأدى مستوى الحوار ولغته التي لا تنزلق إلى مستوى العامية، وتحتفظ للنص بجديتهِ كعملٍ يؤرِّخُ لفترةٍ ساد فيها الرقيُّ في التعبير اللفظي حتى في مستوى الحوار كي لا ينفصلَ عن البناء السردي بمستوى آخر من اللغة، مما قد يُنَفِّر القارئ ويحملُهُ بعيدًا عن العمل المتضافر؛ أدى ذلك كله إلى انسيابيةٍ تلقائية في التعبيرِ مما يُحَفِّزُ القارئَ، ويدفع به إلى الانتهاء من استكمال قراءة العمل دفعةً واحدةً دون أي انقطاع، بل وربما يحاولُ القارئُ استنباطَ الأحداثِ مما ينسجه خياله حول استشرافِهِ المستقبليِّ لنهايةِ العمل الروائي.
مساحاتُ الوصفِ في الرواية للمكان تكادُ لا تراها صاخبةً، إن لم تكن ظاهرةً بخفوت، فملامحُ البيوتِ وأشكالُ الأثاث وتنسيقه لا يهم أكثر مما استخدمه الروائي بصورةٍ معتدلة لا إسرافَ فيها ولا تقطير؛ ففي الوقت الذي قد تزيد فيه مساحات الوصف المكاني في السرد لا نكادُ نراها هنا في الرواية إلا موظفةً فيما يخدمُ النصَّ لا فيما يعتمد عليه. وقد يكون الكاتب عمد إلى هذا إذ أن الأحداثَ وتطوراتها، وما تحملها من مضامين ورموز ونزيد عليهما ما تلقي به من أضواء على العلاقات المصرية بالمجتمع اليهودي داخل مصر آنذاك؛ شكَّلَت من الأهمية ما قد جعل الوصف المكاني يتضاءلَ بشدة أمامها.
توظيف الكاتب روائيًّا لأسماء أبطالهجاء على نحوٍ مرضٍ للقارئ، فاختيارُ أسماء الشخصيات هو من قبيل الذكاء، فلم يُصَرِّحْ الكاتب بالأسماء بفجاجةٍ ليلقي بمعانيها دلالات في أذهان القراء، ولم تبتعد الأسماء عن روح العمل. بل كانت هناك إشارات من السخرية في استخدام بعض الأسماء المتناقضة تمامًا مع الشخصيات، وهو ما يمكن أن نسميه بأنها كانت أسماء على غير مسمياتها، وفي ذلك سخريةٌ واضحةٌ منها. فاسم “زكي” لم يكن إلا سخريةً من غبائه، واستخدام أسماء البطلات الدينية على نحو “خديجة” و”زينب” كان لهذا الغرض أيضًا. بينما الإشارة واضحة جلية في اختيار اسم “فهمي” لأنه كان يُعمل مفهوميته لينفذ لزوجته السرية “زينب” تدابيرها ومؤامراتها.
وعن مساحات الشخصيات في الرواية وترتيب ظهورها نستطيع القول إن الظهور الطاغي لشخصية “زينب” من البداية هو الذي جعلها تتصدر المشهد الأول بعمق أضفاه الكاتب على شخصيتها حين ارتسمت للقارئ بهذه الصورة الهزيلة الضعيفة حتى تنتهي الرواية بمشاهدها الأخيرة وقد اختتمها الكاتبُ بالصورة الدائرية في الحكي على هذا النحو. وقد كان ينبغي لهذه الشخصية أن تبدأ في هذا العمر لكي تنتهي في هذا العمر أيضًا، وبين البداية والانتهاء التنامي السردي المتدرِّج للأحداث في صورة العودة إلى الماضي باستخدام الراوي العليم المدرك بوعيٍّ لأحداثه وشخصياته، بل ويوظف تقناته السردية على هذا النحو.
أفرادُ عائلة “لوسي” وظهور أختها “ليزا” الخافت الذي لم يكن بهامشية إلا أنه كان ليسجِّل مقارنةً مهمة بينها وبين شخصية أختها بطلة الرواية الأساسية. أما عن شخصية الزوج التيكانت حاضرةً بقوة في الربع الأول من الرواية فهي الشخصية المنقادة التي أظهرت ضعف شخصية الرجل إذا ما تلاعبت به أنثاهُ بالتدلل والحسن بما يجعله لا يرفضُ لها طلبًا ما دامت كل مصالحها تتفق مع مصالحه وتساعده على أن يظهر في المجتمع وينمو من لا شيء.
الحالة الاتكالية التي ظهر بها الوالد، الزوج الأول لـ “لوسي” انتقلت وراثيًّا إلى الابن وكما رأيناه كيف كان وصوليًّا أحب أن يخدمَ مصلحتَه وابتز والدته للحصول على الأموال للهجرة إلى موطنه.
في النصف الثاني من الرواية يلجأُ الكاتبُ إلى استخدامِ شخصياتٍ جديدة لتنقل الشخصيات الرئيسة في العمل إلى مسارٍ آخر. فظهور “خديجة” في هذا الوقت بالذات كان مُلِحًّا لوجودِ صفاتٍ بعينها قد تكون ضروريةً بالنسبة لما ينتابُ “ياسمين” من حالةٍ شعورية. إن الخصال التي نسبها الكاتبُ في وصفه إلى “خديجة” على نحو القوةِ والأصالةِ لم تكن لتظهر إلا على من يُقدم الدعمَ والسند في وجودِ شخص “ياسمين” الضعيف.
بالنسبة لشخصية “هاجر” وظهورها في مكتمل نضجها العائلي، وبهذا التفكير السابق لأوانه كان لا بد أن يغلفها الكاتب بالقيم الموروثة عن الأب لكي يعيدها إلى مسارها العائلي الطبيعي في أحضان إخوتها من عائلة “ذو الفقار.
أما “محمود رفعت” الذي ظهر في النصف الثاني من أحداث الرواية أيضًا فقد دعت الحاجة إلى ضرورة وجوده باعتباره الرجل الذي سوف تستند عليه الشخصية المحورية للبطلة “زينب” في فترة بلوغها الأربعين من بعد وفاة زوجها وانصراف الأبناء عنها.
هناك بعضُ الشخصيات الثانوية التي ظهرت في النهاية وكان ظهورُها مطلوبًا، فظهور شخصيتي “خضرة” و”نعيمة” كفلاحتين خدمتا “زينب” في شيخوختها كان ضروريًّا على الرغم من أنهما لم تظهرا إلا باسميهما فقط.ومن قبلهما ظهور شخصية الشاب المستهتر “إبراهيم” الذي اشتهر بـ “بوبس” كان محركًا في الأداء الروائي بحيث استدعى ظهورها إبرازَ ما لشخصية “فهمي جار الله” من سلطان ونفوذ حين ألقى القبض عليه وأودعه السجن كي يجبره على طلاق الابنة “هاجر”.
الخاتمة الدائرية التي استخدمها الكاتب ليشير إلى الحدث السياسي التاريخي المهيمن على روح الرواية وهو حرب أكتوبر 1973 استخدمها الكاتب بمنتهى الذكاء الذي أدى في النهاية إلى ربطِ الأحداث والاستنتاجات بما حقق للقارئ متعةَ كشف الإجابات عن أسئلة وردت بالضرورة في ذهنه منذ البداية.
قدَّمت الرواية نموذج الشخصية غير الهادئة اللعوب والتي لم تأمن استقرارها منذ أول لحظة في الحكي حتى الخاتمة، واستخدمت حسنها ودهاءها للعبث بشخصيات أخرى بمنتهى المكر في الرواية، وهو ما رأيناهُ في غلاف الرواية الصادرة عن مكتبة مصر والممهورة بتوقيع الكاتب، وتوقيع الفنان الذي برعَ في تجسيد شخصية الرواية بقوة على غلافها؛ فعناصرُ الصورة تحملُ حسن المرأة ونظرتها المتطلعة، وتحمل شخص الرجل الذي قد يشير إلى ابنها النافر من شخصيتها والساخط عليها، وتحمل عنصر المرأة التي تبيع السِّكِّير ما يشتهيه، إلا أن الأغلفة التي تلته في الظهور عند الطبعات الأخرى، وخاصةً طبعة أخبار اليوم لم تكن بالمعبرة عن الشخصية التي دارت حولها أحداث الرواية بالصورة التي عبر عنها الغلافُ الأول، وهو تفاوت قد نلاحظه أيضًا مع محاولة الرسام في الطبعة التي كانت الشخصية ترتدي على غلافها حلية بها نجمة داوود في إشارة مباشرة إلى تمسك الشخصية المحورية بيهوديتها. وكذلك الاختيار الأخير لشخصية الغلاف بما لا يتفق مع الملامح التي وصفها الكاتب داخل الرواية للشخصية
العمل الروائي (لا تتركوني هنا وحدي) هو مرآة اجتماعية مهمة، وتنبؤ بأحداث خطيرة كان لا بد أن توضع في بؤرة وعي القارئ لأحوال المجتمع قديمًا وحديثًا ليتخذ احتياطاته وتدابيره لما يواجهه من مخططات، وما يلمسه الآن من نتائج.
انتهت