الجالية العربية ….
بقلم : وليد رباح – نيوجرسي
( أمريكية واردني …………..)
قصة حب سمعتها بين امريكية واردني فاقت في مجرياتها قصص الحب العذري الذي قرأناه في تاريخ العرب القديم .. انها الصدفة التي دفعتني لكي اغوص فيها بعد لقائي بتلك الامريكية بعد وفاة زوجها بسنوات .. فأرى واسمع كيف يعامل الزوج زوجته وكيف تقوم الزوجة بواجباتها تجاهه .. فالكثير من الزيجات بين عربي وامريكية تفشل نتيجة الاختلاف في العادات والتقاليد .. الا ان هذه القصة اسرتني فلم استطع الا ان اكتب ما قالته الزوجة .. وكيف عاشت معه سنوات طويلة لا يفصلهما وقتا الا اثناء النوم ..
****
التقيت بصديق لي بعد سنوات طويلة فاقت الاربعين .. كان يجلس على مقهى بمدينة بروكلين بنيويورك .. ورأيت ان حاله لا يسر .. دعوته لتناول طعام العشاء في مطعم بالمنطقة .. واثناء تحاورنا وقت العشاء .. جاءت امرأة امريكية عجوز لتجلس قريبا منا بحيث تسمع ما نتحدث به .. اخذنا انا وصديقي نتحدث بالعربية .. وقد خلنا ان من جلست الى جوارنا امريكية لا تفهم العربية .. فاذا بها غير ما توقعنا.
جلسنا سويا ليحكي لي صديقي عن عثراته في هذه الحياة .. كان فلسطينيا جاء الى امريكا بفيزا سياحية ولكنه بقي فيها حتى بلغ عمرا مديدا قبل ان يتزوج ويحصل على الاقامة .. سألني صديقي عن ثالث صداقتنا ايام الطفولة فقلت له يرحمه الله .. فقد استشهد في معركة مع العدو .. ثم بكى .. فاذا بالامريكية التي تجلس مجاورة لنا تقول بعربية فصيحة : يرحمه الله .. لقد كان بطلا ..
فوجئنا بما قالت : قلت لها : يا سيدتي .. خلناك لا تتحدثين العربية .. خاصة وان ملامحك تبدو انك امريكية صميمة بيضاء كالثلج .. قالت : فعلا انا كذلك .. ولكني تزوجت عربيا وعشت معه سنوات وسنوات .. ترك لي ارثه من اللغة .. قلت لها : الا تحدثيني عن رحلتك معه .. قالت : اشعر ببعض النعاس .. فان جئت الي فهذا بيتي .. واشارت اليه فاذا به مواجها للمطعم عبر الشارع المقابل .. قلت لها : سأتصل بك كي نتواعد للقاء .. قالت : هذا يسعدني .. وهكذا كان .. اعطتني رقم هاتفها ثم غادرت متثاقلة الى بيتها تسير على عصا تتوكأ عليها .
بعد ان ذهبت الى ولاية نيوجرسي ظللت افكر في تلك الامريكية .. لم تغب عن خاطري لايام طويلة .. وفي النهاية عزمت على ان اتصل بها .. رحبت بي وقالت عبر اسلاك الهاتف .. انا بانتظارك .. قلت : خلال ساعتين سأكون الى جوارك .. قالت : هل اطبخ لك طبخا عربيا تشتاقه نفسك .. قلت : كلا يا سيدتي .. بعد ان نتحدث هاتفيا فانا ادعوك الى المطعم الذي تقابلنا فيه اول مرة .. قالت : اذن اتفقنا …
عندما ولجت الى بيتها كانت احدى الامريكيات تزورها .. قالت على الفور : انها مندوبة احدى الشركات التي ترعى كبار السن .. جاءت لتتفقدني .. قلت : هذا جميل .. على الاقل تجدين بعد هذا العمر من يقوم برعايتك .. قالت : التأمين الذي امتلكه يجيز ذلك .. قلت : اعانك الله على هذه المرحلة من العمر .. انها صعبه .. قالت .. اني اعيش على ذكرى زوجي .. مما يخفف عني الام الوحدة .. ثم ان الزائرة قد استأذنت بالانصراف فجلسنا سويا نتسامر .. وكنت اظن ان لقاءنا سوف يستمر ساعة او دون ذلك .. فاذا به يستمر حتى الساعة الواحدة صباحا ..
كانت الساعة لا تتجاوز الرابعة بعد الظهر عندما تقابلنا في بيتها .. فاذا بها قد حضرت الكثير من الحلويات والنقولات كالبندق والفستق والاقراص وبعض انواع الطعام السريع .. قلت لها : لماذا ازعجت نفسك يا سيدتي .. قلت لك اني سأدعوك الى الطعام في المطعم المجاور .. قالت : قد اعلمتني بذلك .. ولكني قلت لنفسي ان زوجي لم يكن ليفعل ذلك .. كان كأنما ينادي كل من يحتاج للطعام الى بيتنا .. وكنت اطبخ له وللضيف عن طيب خاطر .. اذن .. ساعمل لك كل ما كان يوصيني به .. كان يقول لي : اطعمي كل من يحتاج للطعام فذلك سوف يسجل في ميزان حسناتك .. قلت لها : ولكني غير محتاج .. قالت : ليس المحتاج من لا يملك النقود .. وانما من هو جائع .. وقد خشيت ان تطول جلستنا فتجوع.. فتلومني نفسي اني لم اقم بما اوصاني به زوجي .. قلت : يا الله .. هل تحفظين وصاياه الى هذا الحد .. قالت : جهدت طيلة حياتي ان اكون له الزوجة المخلصة .. وبعد مماته ان انفذ ما كان يقوله لي حرفيا .. انت ضيفي.. فقد كان زوجي يقري الضيف ويطعم المحتاج ولم يمض اسبوع الا ويكون عندنا ضيفا سواء عرفناه ام لا نعرفه .. قلت : اذن .. سوف اتذوق شيئا من طعامك ..
احضرت لي بعض ما قامت بتحضيره .. قلت لها : .. اريد ان اعرف كيف التقيت بزوجك .. قالت : شرط ان لا تذكر اسمي او اسمه ان كتبت .. قلت : انا لا اكتب اسماء عندما اكتب .. بل اكتب الاحداث فقط .. لان الكثير من الناس سواء كانت حياتهم سلبية او ايجابية لا يرضون بكشف اسرارهم .. قالت : هو ليس بسر .. انه تنفيذ لوصية .. قلت : ادامك الله فقد حافظت عليه اثناء حياته وبعد مماته .
قالت السيدة : كنت متزوجة من امريكي قبل زوجي الاردني .. كان زوجي عنيفا لا يتركني ليلة دون ان يؤنبني .. فان لم يفعل ذلك كان يضربني.. وكنت اصبر على ذلك فلا اريد له ان يذهب الى السجن .. وقد دامت حياتنا معا لمدة سنة واحدة فقط .. قلت لها : اذن كيف انفصلتما .. قالت .. انفصلنا بالطلاق .. فقد حصلت على الطلاق من اول جلسة في المحكمة لما ابديته من عنف الرجل .. اما كيف تعرفت الى زوجي الاردني فقد كانت تلك المعرفة قبل طلاقي من زوجي الاول بثلاثة اشهر .. قلت : كيف كان ذلك .. قالت .. لا تستعجل الامور .. دعنا نتحدث فاتذكر كل ما دار بيني وبين زوجي الاول .. وكيف تعرفت الى زوجي الثاني .. الذي اسرني فلم استطع الا ان احبه حبا لم يحبه بشر مثلي .. قلت : شوقتني لسماع القصة قالت : قد اختلف زوجي الاول معي في امر تافه .. اذ طلب مني نقودا ولم أكن احملها .. فحدث ما لم يكن في الحسبان .. كنت اجلس في مطعم مع صديقة لي قبل سنوات طويلة .. فاذابزوجي يدخل المطعم وقد رآني من الزجاج الخارجي.. فاذا به يهاجمني بسكين كان في يده .. ويبدو انه كان مخمورا .. وكان يجاورنا رجل علمت فيما بعد انه عربي .. هرب كل من في المطعم .. ولكن ذلك الرجل وقف بيني وبينه وقال له بانكليزية سليمة .. من العيب ان تتعرض لامرأة بهذا الشكل .. قال له زوجي بعد ان ابتعد عنه قليلا .. وما دخلك انت فيما يجري .. ان تعرضت لي فسوف اطعنك انت الاخر .. قال له : لن تستطيع ذلك .. ففي لحظة ارديك على الارض مثل الجرذ فلا تحاول .. واجابه زوجي .. سوف انهي حياتك هذه الليلة .. قال له .. دعنا نجرب .. وما هي الا لحظات حتى كان زوجي مكوما على الارض ككيس محشو بالتبن .. فاذا به مدمى الوجه تسيل الدماء من نواحي جسده في اماكن اخرى .. ولم اتوقع ما فعله زوجي .. فقد وضع سكينه في جيبه وركض مخلفا وراءه سخرية الرجل وضحكه ..
كانت لفتة كريمة منه .. لم اكن اتوقع ان يدافع عني احد بعدما هرب من كان في المطعم .. فلولاه لكنت الان في عداد الاموات .. ثم من بعد ذلك قال لي .. اين تسكنين يا سيدتي .. ساوصلك الى مكان سكنك .. اخبرته اين اسكن فتابع .. ولكني اخشى عليك ان يعود ثانية .. دعينا نخبر الشرطة فيما جرى .. قلت له : لا داعي لذلك .. سوف لن يعود هذه الليله .. قال .. ان لم يعد اليوم فسوف يعود غدا .. وعندها ينتقم منك .. قلت بعد تفكير .. اذن لنخبر الشرطة عما حدث .. وهكذا ذهبنا سويا الى مركز الشرطة الذي يقع في شارعنا وقلنا للشرطة عما حدث .. فقام شرطي بتدوين الحادثة .. فاذا بمركز الشرطة يعرفونه ويعرفون انه بلطجي يقوم بالاعتداء على الناس .. وقد سجن اكثر من مرة قبل سنوات .. وعلى اية حال فقد قال الشرطي .. سوف نقوم بالبحث عنه في البارات واماكن اللهو وهي اماكن يزورها في كل ليله .. وفي غضون ذلك .. ساعدنا القدر .. اذ قبض عليه ونحن لم نزل في مركز الشرطة بعد تعرضه لاحد المارة الذاهبين الى البار .. وما زالت اثار معركته مع زوجي بادية عليه .. اذ كانت الدماء تسيل من انفه .. وعندما رآنا قال للشرطي .. هذا هو الرجل الذي جئت هنا من اجله لكي ابلغ عنه .. قال له الشرطي .. ولكنك لم تأت برغبة منك .. لقد قبضنا عليك وانت تحاول القيام بمعركة امام البار بعد ان اولغت في الشراب .. وهكذا دونت محضرا في الشرطة .. فقامت الشرطة باعتقاله لامرين .. اولاهما انه تعرض لي بسكين .. والثانية انه حاول الاعتدا على احد رواد الملهى .
ودعني الرجل بعد ان اوصلني الى بيتي .. رجوته ان يأتي لشرب كأس من الشاي الساخن بعد ما قدمه لي من خدمة فقال : لا يا سيدتي .. قلت لي انك تسكنين وحيدة .. فانا لا يمكن ان ادخل بيت امرأة تسكن وحيدة .. اخشى عليك من تقولات الجيران .. قلت له : هنا لا يمكن ان يسأل احد عن ضيف يأتينا .. قال : اقول لك صادقا .. هذا عندكم .. اما انا فما زلت محتفظا بعاداتي وتقاليدي رغم مرور الكثير من الوقت محاولا التأقلم مع الاجواء في هذا البلد .. ولكني لم انجح .. قلت : اذن .. متى تزرني .. قال : ساكلمك بالهاتف .. فان كنت تريدين مقابلتي فلنتقابل خارج البيت .. قلت : متى تهاتفني .. قال .. في الوقت الذي تشائين .. فعندي اجازة هذا اليوم لا اعمل فيه .. قلت له : وماذا تعمل : قال .. اقود عربة للطعام في شوارع نيويورك .. قلت: في اي فرع من نيويورك تعمل .. قال : في منهاتن .. قلت : اذن فانت قريب منا .. قال .. عندما تهاتفينني فسأكون عندك توا .. لان لي شريكا يمكن ان يقوم مقامي في العمل .. قلت : اذن .. وداعا الى وقت ان نلتقي .. قال : ارجو ان تنتبهي لنفسك جيدا .. فان زوجك يمكن ان يأتي اليك بعد الافراج عنه .. ولا يستبعد ان يقضي اياما في السجن ثم يعود .. اذ كما قلت لا مكان له لكي يلجأ اليه غير بيتكما .. قالت .. لا تخف .. سوف اغلق على نفسي بعد ان اغير قفل الباب .. فان حاول ازعاجي سوف اتصل بالشرطة توا .. ثم تركني وانصرف مودعا .
امضيت الليل افكر في شهامة ذلك الرجل .. لم استطع النوم .. فقد ملك علي كل حواسي .. كنت الج الى المطبخ جئية وذهابا ولا يغمض لي جفن .. يا الله .. من الذي ارسل ذلك الرجل الي في تلك اللحظه .. لولاه للما كنت على وجه الدنيا .. ثم.. كيف عرض نفسه للخطر مدافعا عني رغم انه لا يعرفني .. وماذا لو تهور زوجي فقام بطعنه .. الف لماذا جاءت الي جعلت النوم يطير من عيني .
كانت الساعة قد بلغت الثانية عشرة ليلا .. عندما رن جرس الهاتف .. قال لي : لا تنزعجي .. هذا انا.. اردت ان اطمئن على انك بخير .. فرحت جدا وقلت : انا بخير ..وتابعت .. هل تسهر في عملك حتى هذه الساعة .. قال : نسهر حتى الساعة الثانية عشرة ليلا .. فقد انهيت العمل توا .. وقلت لنفسي قبل ان اذهب الى غرفتي التي يشاركني فيها البعض ساتصل بك للاطمئنان عليك .. قلت : لماذا لم تأت الي .. فانا ما زلت ساهرة .. لم تعرف عيناي النوم ..قال ضاحكا وقد سمعت رنة ضحكته من خلال الهاتف .. قلت لك يا سيدتي لا يمكن ان ادخل بيت امرأة وحيدة .. قلت : ولكن الساعة قد بلغت الثانية عشرة ولا احد من الجيران او في الشارع يمكن ان يراك .. قال كلمة اثرت في كل جنبات جسدي فاهتززت .. اذا كان الجيران نائمون .. فالله هو الذي يراني ويراقبني .. ولدهشتي .. سقطت سماعة الهاتف من يدي .. ولم استطع التقاطها بسرعة فاذا بصوته اسمعه من خلال الهاتف بعد ان التقطته .. ما الذي جرى .. هل ازعجك احد .. قلت : كلا .. أنا وحيدة في البيت وانما بهرتني عبارتك .. قال : اذا لم يكن احد رقيب علينا فان الله يراقبنا .. قلت له : اذا لم ترغب في زيارتي في بيتي .. فان المطاعم عندنا في بروكلين تسهر حتى الصباح .. لماذا لا تأتي فنلج الى احدها فنمضي بعض الوقت .. قال : يا سيدتي .. عملي يبدأ في الصباح .. سآخذ قسطا من الراحة قبل ان تبلغ السابعة صباحا .. قلت له .. اذن .. الله معك .. سوف نلتقي قريبا .. وهكذا امضيت الليلة وحيدة ..
قلت للسيدة : ان ما تقولينه يا سيدتي شيئا من العجب .. فاين التقيتما ثانية بعد ما جرى .. قالت : اراك تستعجل القصة .. دعني اتذكر كل ما مر بي .. فاقوله لك عن طيب خاطر .. قلت لها : اعانك الله .. ان كنت قد تعبت فاني سآتي اليك غدا .. قالت : كلا .. سأكون بخير .. قلت : لقد افزعتني يا سيدتي عندما قلت لي ان زوجك الراحل لم يقبل على نفسه ان يأتي اليك في بيتك .. اما أنا فقد اتيت اليك عندما وافقت على زيارتي .. قالت : هناك فرق .. فقد كنت في ذلك الوقت سيدة في الاربعين .. اما اليوم .. فاني عجوز لا يأبه لي احد .. قلت : انت لم تزالين صبية .. قالت : ارجوك .. لا تجاملني .. قلت : ومع كل ذلك فما زالت مسحة الجمال لم تفارقك .. سرحت بعيدا وقالت .. الله .. ما احلى كلامكم وازكى رائحتكم .. تأكد انني عندما ارى رجلا عربيا لا تغيب عن خاطري ذكرى زوجي .. قلت لها .. اذن فلنتابع ..
قالت وقد بدا الحزن على وجهها .. في اليوم التالي لم اسمع منه شيئا .. كانت الهواتف النقالة لم تظهر بعد .. كان علي ان اجلس الى جانب الهاتف انتظر مكالمة منه .. لكنه لم يتصل في ذلك اليوم .. بدأت الظنون تنتابني .. وبدأت اقلق .. وعند الساعة العاشرة مساء اذا بالباب يطرق .. ظننت انه هو فاسرعت الى فتح الباب .. ولكني رأيت رجلا يحمل في يمناه طعاما اشتممته للحال .. قال لي الرجل .. هذا عشاؤك يا سيدتي .. قلت له .. ولكني لم اطلب شيئا .. قال : اعرف ذلك .. فقد اشتراه احدهم واعطاني عنوان البيت لكي احضره لك بعد ان قال لي .. ارجو ان توصله فهناك امرأة لم تتعش بعد .. قلت : اتعرف اسمه .. قال .. كلا.. فقد اعطانا العنوان فقط .. قلت : اذن ما اوصافه .. قال .. هو رجل اسمر اللون عريض المنكبين يتجاوز طوله المترين.. قلت : ماذا كان لباسه .. قال : يبدو انه كان يعمل قبل ان يأتي الينا .. فقد كانت ملابسه متسخة بعض الشىء .. قلت : اشكرك ..
جلست مع نفسي .. يا الله .. من هذا الرجل .. لم يعطني هاتفا لكي اتصل به .. لكني تذكرت اني عندما سألته في اليوم الاول من تعارفنا قال لي : انا لا امتلك خطا للهاتف في غرفتي .. لذا سيكون اتصالي بك ليس سهلا .. علي ان اذهب الى الهواتف المنتشرة في الشوارع لكي ادعمها بالنقود فتعطيني صوتك ان اردت الاطمئنان عليك.. لم اكن جائعة .. ولكني كرامة لشهامته جلست وتناولت بعضا من الطعام .. غير ان النوم جافاني كما في الليلة الماضية.. وهكذا سهرت حتى الصباح ..
لم اسمع رنين الهاتف عندما افقت من نومي المتقطع .. فقد كانت الساعة الحادية عشرة ما قبل الظهر .. رغم انني جلبت الهاتف الى سريري .. قلت في نفسي .. سوف اذهب الى منهاتن فانظر الى الشوارع علني اراه .. ثم لمت نفسي .. ما هذا الجنون.. رجل لا اعرفه قدم لي خدمة فاركض خلفه لاراه .. كلا .. لن افعلها .. غير ان الفكرة راودتني مرات ومرات .. واخيرا ارتديت ملابسي وذهبت الى منهاتن ..
جبت كل الشوارع فيها مشيا على قدمي .. وكنت اقف عند كل عربة تبيع المأكولات فلا اجده .. وقلت لنفسي انني امرأة مجنونة .. هناك الاف العربات في منهاتن .. فهل يعقل ان اراه .. وعندما بلغت الساعة الرابعة بعد الظهر عدت الى بيتي .. ولم تمض دقائق حتى سمعت رنين الهاتف .. هرعت اليه فجاءني صوته .. اين انت يا سيدتي .. لقد قلقت عليك كثيرا .. اكثر من عشر مرات اتصل بك ولا تردين .. اصابتني رعشة في جسدي وقلت : لكني كنت في منهاتن ابحث عنك .. جاءتني ضحكته مثلما هي الماء المثلج وقت الهجير .. اتدرين كم شارعا وكم عربة في منهاتن .. قلت على الفور .. تصورت ان اجدك .. قال : لا تشغلي بالك بي يا سيدتي .. قلت على الفور .. يجب ان تطلب هاتفا في غرفتك لكي استطيع الاتصال بك .. قال : نحن ثلاثة نعيش في غرفة واحدة .. ولقد عرضت عليهم الامر فتمنعوا .. ذلك ان تركيب هاتف سيكلفنا بعض النقود .. وكلنا يعمل لكي يرسل الى عائلته بعضا من النقود في الوطن ليتبلغوا بها .. قلت بلهفة .. هل انت متزوج في بلادك .. نسيت ان اسألك هذا السؤال .. قال : لم اتزوج بعد يا سيدتي .. وانما ارسل النقود لاخوتي واخواتي وامي .. فقد انتقل ابي الى رحمة الله منذ سنين .. ونحن عائلة فقيرة .. فان لم ارفدهم بالنقود سوف يعيشون حياة بائسة .. قلت دون ان ادري سبب ما قلته .. انت رجل ولا كل الرجال ..
صمت قليلا ظننت انه قد ابتعد عن الهاتف .. لكنه عاد بعد لحظات لكي يقول لي : يا سيدتي انا رجل كمثل الرجال .. ولست افضل منهم .. نحن في الوطن نهتم بعائلاتنا .. يجهد الانسان ان يعمل حتى ولو كان عملا لا يليق لكي نطعم اطفالنا ومن خلفنا من الاهل .. قلت : عاداتكم هذه جميلة .. تصور انني بعد موت امي وابي فان اخوتي لم يسألوا عني .. صحيح انهم يعيشون في بنسلفانيا .. ولكنها لا تبعد عن نيويورك الا مسيرة ساعة ونصف .. ولكنهم قاطعوني .. ولا اعرف لماذا . ربما لامر في نفسي لسوف ابوحه لك في مقبل الايام . واني لاعذرهم .. فكل مشغول بعائلته .. ولا ادري لهم مكانا اذهب اليه فان ذلك كان قبل سنوات عديدة .. ولم يكن احدهم يمتلك بيتا لنفسه او لعائلته .. وانما كانوا يستأجرون البيوت وينتقلون من بيت لاخر بين سنوات واخرى … قلت سريعا دون تفكير .. متى اراك .. قال.. كنت اخطط للقدوم اليك هذا اليوم .. هل لنا ان نلتقي في المطعم القريب من بيتك مساء .. قلت فرحة .. أكيد .. ما الساعة .. قال : عند الثامنة مساء .. فاني اشعر بالتوعك في هذا اليوم ولا اريد ان اواصل العمل .. قلت ملهوفة .. ما بك .. هل يستلزم الامر الطبيب .. قال : كلا .. اني تعب بعض الشىء .. يجب ان انام مبكرا .. قلت .. سأكون بانتظارك في المطعم عند الثامنة .
جاء الى المطعم وفي يمناه اكياس ورقية في داخل كيس بلاستيكي .. قلت : ما الذي تحمله .. قال .. بعض الفواكه لك .. قلت : يا الله .. لماذا كل هذا .. قال ضاحكا .. كي تتذكرينني.. سرت في جسدي رعدة خفيفة فتمالكت نفسي .. قلت له .. ساكون صريحة معك .. لماذا تهتم بي الى هذا الحد .. قال : بالقدر الذي تهتمين بي .. اصابني الحياء فقلت لنفسي .. انه يلاحظ ما لا الاحظه .. ثم صمتنا قليلا .. جاء النادل وطلبنا طعاما خفيفا .. وعند انتهائنا من الطعام مددت يدي الى محفظة في يدي فقال مستنكرا .. ما الذي تفعلينه .. قلت .. سادفع ثمن طعامنا .. قال : وهل هذا يليق .. لو انك في وطني لقاطعتك ابد الدهر .. فعندنا الرجل هو الذي يهتم بمثل هذه الامور .. قلت له .. هذا في وطنك .. انت اليوم في امريكا .. قال : الم اقل لك انني ما زلت هناك .. لن اغير عاداتي حتى يلفني القبر ويواريني التراب .. قلت له على الفور : ابعد الله عنك كل شر .. لا تقل هذا ..
أمضينا بعض الوقت في المطعم .. ثم قلت له : الا تستطيع الاستجابة لرغبتي .. اريد ان تزورني .. قال : لقد حسمت الامر من بدايته .. لن افعل ذلك .. قلت .. حسنا .. هل يمكن ان تفعلها لو كان هنالك طرف ثالث .. قال : ماذا تعنين .. قلت .. لو انني طلبت من صديقة لي ان تأتيني الى بيتي اثناء حضورك.. فهل توافق .. فكر قليلا وقال : سأفكر بالامر .. ثم افترقنا بعد ان امضينا بعضا من الوقت ..
في الايام التي مضت كان يتصل بي صبحا ومساء .. يطمئن علي .. ادعوه لنلتقي فيقول لي .. ان شريكي مريض ولا استطيع الا ان اقوم مقامه في العمل .. وفي يوم برح بي الشوق اليه فقلت له .. هل تدلني اين تقف عربتك .. قال .. على ركن من شارع 42 على الشارع الرئيس الخامس .. قلت: سوف آتي اليك .. قال : حسنا .. ولكن لا تأت الان .. فاني لا استطيع ان اتحدث اليك .. اما اذا اتيت بعد الساعة السادسة مساء فان زوارنا قليلون .. يمكن ان نتحدث .. قالت : اذن نمضي سويا بعض الوقت ومن ثم نذهب الى مطعمنا الذي تعودنا عليه .. قال لا بأس .. وتداركت الامر فقلت : هل احدث صديقتي لكي ترافقنا الى حيث انت .. قال بعد تردد .. لا بأس في ذلك .. فرحت فرحا طاغيا
اتصلت بصديقتي وافهمتها ما يجري .. فرحت وقالت : اذن سأكون عندك الساعة الخامسة مساء .. ومن هناك ندلف الى منهاتن .. وكانت عند وعدها فعند الساعة الرابعة كانت قد جاءت الى شقتي .. قالت صديقتي .. ما بك ملهوفة على هذا الرجل .. تذهبين الى عربة تبيع الطعام وانت التي ترتادين افخم المطاعم في هذا الحي .. قلت لها : انا لا انكر انني امتلك النقود .. ولا انكر انني اعيش حياة مرفهة .. فقد كان ابي يحبني وترك لي ما يكفيني طيلة عمري .. فقد اشترى لي بيتي الخاص .. ولكنه لم يترك الكثير لاخوتي .. واعتقد انهم قاطعوني تبعا لهذا الامر ..
عندما وصلنا اليه لم يرنا .. اردت ان اداعبه فوقفت الى جانبه وقلت له : اعطني شطيرو بالجبن وآخرى بالهامبورجر .. ويبدو انه عرف صوتي فنظر الي وقال : انت يا سيدتي ..لا يليق ان تأكلي في الشارع مع المارة .. انت تجلسين في افخم مطعم تختارينه وانا اخدمك بعيني .. غمزتني صديقتي وانتحينا جانبا وقالت لي : هذا الرجل يحبك .. اقسم على هذا .. فلا يعقل ان يقولها رجل بمثل الصفاء الذي قاله .. ثم تساءلت .. انت محظوظة لانك عثرت عليه .. قلت : لكني لم اعثر عليه .. هو من بادر بذلك .. واني ان ثمنت شيئا فلن اثمن الا ما قام به زوجي من محاولة للاعتداء علي .. فقد كان السبب في ذلك ..
كان يخدم زبائنه وفي كل حين عندما يقل الزبائن يحادثني .. احضر كرسيين متسخين بدت عليهما آثار الزيت القديم وقال لي .. لا اجد الا هذين الكرسيين .. احدهما لك والاخر لصاحبتك .. فلا تؤاخذيني .. قالت صديقتها .. ما يهمنا اننا نتحدث اليك ولا مانع ان كنا وقوفا .. نظرت الي صديقتي وقلت لها .. اعتدلي .. ثم ضحكنا معا .. اخذنا الوقت فاذا بها الساعة العاشرة .. قال لي : لن استطيع ايصالكما الى مبتغاكما فاني مرهق .. ولن استطيع ان ادعوكما للمطعم الذي وعدت ان نلتقي فيه .. ارجو ان نلتقي في وقت آخر .. قلت : هي صحبة جميلة امضيناها معك .. لا تنس ان تهاتفني .. وغادرت وصديقتي سويا ..
مضت ايام لم اسمع منه شيئا .. كنت قد قدمت طلبا للطلاق .. فاذا بالمحكمة ترسل لي طلبا لان احضر امام المحكمة بعد خمسة عشر يوما من ذلك التاريخ .. كان زوجي قد اطلق سراحه بكفالة .. ولكنه لم يأت الى سكني لان الشرطة اخذت عليه تعهدا ان لا يتعرض لي ولا يأتي الى البيت والا فمكانه السجن .. .. وخلال تلك المدة قابلت صديقي الاردني عدة مرات فكان يعطيني توجيها ما الذي افعله لكي احصل على الطلاق .. كنت انظر اليه وهو يتحدث فكأنما من كان يحادثني ملاك وليس انسانا .. وفي يوم المحكمة لم يأت زوجي .. وبناء على مجريات الطلب الذي قدمته وما يحمله زوجي من اوزار وسوابق في ملفاته .. حكم لي القاضي بالطلاق في الجلسة الاولى .. وهكذا ذهبت الى بيتي فرحة بما تحقق من أمر .
جاءني صوته عبر الهاتف لكي يسألني ما الذي جرى في المحكمه .. قلت له : الحمد لله .. لقد حصلت على الطلاق .. قال : الان تستطيعين ان تنامي مرتاحة البال فلن يتعرض لك مطلقا .. ثم قال : هل انتهت مهمتي يا سيدتي .. كنت اقلق عليك ولكنك الان حرة لا يجرؤ على ان يتعرض لك .. قلت له على الفور : ماذا تعني .. قال .. اذا اردت فاني لن اتصل بك.. الا اذا رأيت ان نبقى اصدقاء .. قلت : دعنا نتحدث في هذا الامر .. انتظرك الليلة في مطعمنا الذي تعودنا عليه .. قال .. سوف آتيك مبكرا .. فصديقي سيقوم بمهمة البيع عوضا عني .. وعند الساعة الخامسة مساء .. اجتمعنا سويا في المطعم .. ثم اتصلت بصديقتي فجاءت على عجل .. ثم ذهبنا ثلاثتنا الى بيتي .. وقد بهر بنظافة البيت وترتيبه فاراد خلع نعليه عند الباب فقلت له : دع عنك هذا .. اتراني خلعت نعلي .. قال : انت وشأنك .. ولكني لا اريد ان يتسخ البيت بفعل خطواتي .. قلت له : انت تشرف البيت .. انت مثلي الاعلى في المحافظة على نظافة البيت والاخلاق الرفيعه .. قال .. انت تخجلينني يا صديقتي .. غمزت لي صديقتي بعينها .. وقلت : اسمع يا صديقي الذي لم يعد صديقي .. قال : ماذا تعنين بذلك .. قلت بعد تردد .. لقد تعلقت بك الى درجة الجنون .. الم تلاحظ انني خسرت نصف وزني في مدة لا تتجاوز العشرين يوما .. قال : اني الحظ ذلك .. ولكن ما دخلي انا بنقصان وزنك .. قلت بصوت مرتفع كالمجانين .. اني احبك .. احبك .. احبك .. ثم غالبني الوجد فبكيت .. بكيت بكاء مرا وكانت صديقتي تحاول ان تهدؤني فقال لها .. دعيها حتى تهدأ ومن ثم نحادثها .. تركاني على راحتي .. كنت اتركه مع صديقتي وأدخل الى المطبخ حينا والى الحمام حينا آخر .. الى غرفتي أتظاهر بتعديل الستائر ثم أعود ثانية مسرعة .. ولكن دموعي لم تنقطع .. قال لي .. اخيرا .. الا تهدأي .. اجلسي قليلا فاني اريد ان اتحدث اليك .. جلست الى جانب صديقتي فقال لي : هل انت متأكدة مما قلت : قلت : كل التأكيد .. .. أضاف : هل تعتبرينها مفاجأة اذا قلت لك شيئا مهما .. قلت : كلي آذان لسماعك .. قل .. قال : وانا ايضا احبك .. واحب ان اموت بين ذراعيك .. لم أصدق ما سمعت .. قلت له : اعد ما قلته .. اعاده ثانية .. واذا بي أهجم عليه كالعاصفة واقبله على وجهه ورأسه.. خجل من صديقتي فقال لي اهدأي .. فجلست .. ثم تابع .. لماذا تبكين طالما حصلت على بغيتك .. قالت : انني فرحة مثل طفل اعطوه قطعة من الحلوى .. وهكذا سهرنا الى ما بعد منتصف الليل .. ومن ثم ابدي صديقي رغبته بالمغادرة فقلت : لماذا لا تقضي الليل عندي .. قال : كلا .. ربما في مقبل الايام عندما نتزوج .. قلت : هل تقولها جادا .. قال : بالتأكيد .. فانا احبك حبا عظيما ولا يمكن ان أتخلى عنك .. قالت صديقتي فرحة .. هنيئا لك .. وهنيئا لها .. طيبا القلبين اجتمعا سويا .. ثم غادر وصديقتي بعد ذلك ..
.. في الايام التي تلت اخذ خطيبي الاردني اجازة من عمله لفترة خمسة عشر يوما .. جهدنا سويا في تحضير ما انتوينا عليه .. كنت اذهب واياه الى السوق فنشتري الملابس وبعض الحاجيات .. ثم قمت بتغيير اثاث البيت فعارضني في ذلك فقلت له : عندما تأتي الي سوف يكون كل شىء جديدا .. فلا اريدك ان تنام على سرير قديم .. او تجلس على كراسي قديمه .. انت ستصبح زوجي .. واني احفظ مقامك فلا تجعلني اغضب منك .. قال لي .. : كل ما اشتريته كان يجب ان اشتريه انا .. قلت : ان هذا من المستحيلات .. فقط عليك ان توافق على ما افعله .. فلن افعل شيئا الا بعد استشارتك .. قال : ولكنك لم تستشيريني عندما اشتريت كل هذا الاثاث وقمت بكل هذه التغييرات .. قلت : اشعر بانني ولدت من جديد .. فلا تفسد علي فرحتي .
كانت مفاجأة لي عندما ولج الى بيتي وفي صحبته امرأة محجبة رائعة الجمال .. انتفض جسدي فقال لي على الفور .. لاتنزعجي .. هذه زوجة أخي .. جاءت الى امريكا بالامس زائرة لي ولم استطع الا ان اسكنها في فندق في منهاتن .. ولقد اخبرتها ما انتويت فأكدت ان تزورك وان تتعرف اليك .. قلت له لا بأس .. وهكذا اصطحبتها اليك يا سيدتي .. هرعت من فوري اليها .. قبلتها .. واحتضنتها وقلت : انت تشرفين بيتي .. ثم وجهت حديثي اليه قائلة .. كيف تريد ان تسكنها في فندق وقد عرفت بيتي .. اني غاضبة منك .. لماذا لم تحضرها الى بيتي فهي ضيفي .. قال : لا اريد ازعاجك .. فالكثير من الناس لا يرغبون في ان يتطفل عليهم احد.. قلت : ماذا تعني بكلمة تتطفل .. انها ضيفي .. اخدمها بعيني ويدي وكل ما امتلك من حفاوة .. قالت السيدة المحجبة .. لقد حدثني عنك يا سيدتي فقال لي انه ينوي الزواج منك .. فرحت فرحا طاغيا وقلت .في نفسي .. اذن هو جاد فيما قاله .. اذ راودتني بعض الشكوك فيما قال لي قبل ايام .. قلت له : الساعة نذهب الى الفندق .. ونأخذ حقيبتها وملابسها وتنقلها الى بيتي .. قال : لماذا تتسرعين .. لقد دفعت للفندق اجرة اسبوع .. قلت : لا يهمني ذلك .. سوف آتي معك لكي نسوي هذا الامر في الفندق ..
جلسنا لساعتين.. ثم توجهنا الى الفندق الذي نزلت فيه زوجة اخيه .. قمت باخبار الفندق ان هنالك امرا عارضا حدث ويجب ان تنتقل المرأة الى بيتي .. ولحسن الحظ فقد قام الفندق بارجاع النقود التي دفعت اليه لقاء اقامتها لاسبوع .. اذ امضت يوما واحدا فقط .. ثم ذهبنا الى المنزل .. فاقامت عندي اسبوعا .. وعند انتهاء زيارتها .. رافقتها معه الى المطار وقمنا بتوديعها .. كانت صحبة جميلة ورائعة .. فللمرة الاولى اعيش مع امرأة عربية محجبة بما يقرب الاسبوع .. فاذا بالادب والنظافة واللطف والحديث الطيب .. انها صحبة جميلة امضيتها ولن انساها ما حييت . ولم انس ان تعطيني عنوانها في بلدها لكي اراسلها .. ثم اضافت والدموع في عينيها .. اتدري .. ما زلت اراسلها حتى اليوم .. ويوم موت زوجي .. ارسلت لها رسالة تعزية فردت علي بعد شهر تقريبا .. لتقول لي : انها مأساة للعائلة .. فقد كان المرحوم عمدتنا وكان يرفد عائلته بكل ما تحتاجه في الوطن ..
لا اريد ان اطيل اكثر .. فقد جاءني يوما وقال : هل انت مستعدة لعقد قراننا اليوم او غدا .. قلت له .. اعطني فرصة ليومين .. قال : هو ذاك .. ثم جاء الي بعد يومين فاصطحبته الى السجل المدني .. قال لي: انت تعرفين انني مسلم .. فهل ترغبين في ان نذهب الى مسجد ما لنكتب كتابنا اسلاميا .. قلت : لا امانع اطلاقا .. قال بعد لأي .. انا لا اجبرك على ان تكوني مسلمة .. فنحن في بلادنا لا نفرق بين المسلم والمسيحي .. ان اردت ان تظلي على ما انت عليه فاني ساتزوجك .. قلت له : دع الايام فهي الفيصل بين ان اوافق او ارفض .. قال : حتى لو رفضت يا حبيبتي فانت وشأنك .. عندما تلفظ بكلمة حبيبتي .. اصابتني رعشة فاحتضنته في وساط الشارع وقلت له : انت رجلي .. وحبيبي .. وكل ما لي في هذه الدنيا ..
اعطانا السجل المدني ورقة تفيد اننا تزوجنا .. قلت له : اريد ان اقيم احتفالا بهذه المناسبة .. قال جادا .. وفري علي وعليك النقود .. فاننا نحتاجها .. قلت : ولكنها فرحتي التي لن انساها ما حييت .. قال .. على رسلك .. سنقوم بالاحتفال سويا مع بعض الاصدقاء والصديقات في مطعم نأكل فيه ونسهر حتى الصباح .. وهكذا كان .. فقد سهرنا مع عشرة من الاصدقاء ممن يعرفونه واعرفهم .. وهكذا ذهبنا الى البيت سويا .
أحضر بعد اغراضه الى بيتي .. وفي غضون ذلك اشتريت سيارة جديدة .. ادفع اقساطها شهريا .. وعشت معه لاسبوعين من الراحة من عمله .. كان رجلا يخاف علي من نسمة الهواء .. فان اردت تنظيف البيت امسك بالمكنسة لكي ينظف فاصرخ .. ما الذي تقوم به .. يقول لي : اننا شريكان فلا يجوز ان ترهقي نفسك في عمل البيت ولا اساعدك .. وان مددت يدي الى الاطباق بعد الطعام كي انظفها جاء لمساعدتي .. انظر اليه بعين المحبة فيقول .. سوف اساعدك فقط .. ولا اريد ليديك الجميلتين ان تلمسا الماء الساخن فربما لسع يديك الرائعتين ..
تنهدت وقالت لي : اتعرف .. لم اعش في حياتي الماضية مثلما عشت تلك الايام المزهرة .. لقد عودني على شرب القهوة السادة .. كان يقوم بعملية صنع القهوة علمني اياها .. وقد اعطاني صحبة جميلة .. لا انساها ما حييت ..
قلت : وكيف توفي الى رحمة الله : قالت .. كنت اطير فرحة عندما اراه .. لقد قام بعد الزواج بتغيير عمله …. وعمل مدرسا في احدى المدارس الامريكية في ستيتن ايلاند قريبا من بروكلين .. اذ كان يحمل شهادة من كلية في بيروت قبل ان يأتي الى امريكا .. وقد عمل في مهنته لانه لم يكن يجيد الانجليزية اجادة كاملة ..
وفي ليلة من ليالي الصيف الرائقة قال لي : يا زوجتي الحبيبة .. ان لي اصدقاء عزمت على ان ازورهم في الغد .. قلت : سارافقك الى هناك .. قال لا .. ان الجلسة كلها من الرجال .. ولا اريد لاحد ان ينظر الى وجهك الوضاء وصورتك الجميلة .. انت تعرفين الان عاداتنا وتقاليدنا .. قلت : على رسلك .. تأمرني فاطيع .. فقال .. انا لا آمرك .. وانما اعرفك بعاداتنا .. قلت .. امضيت معك وقتا ما .. فانا اعرف كل تلك العادات والتقاليد الجميلة .. وهكذا .. ارتدى البدلة التي كان يحبها .. والتي كانت يوم عرسنا .. سوداء لامعة توحي ازرارها بان من يلبسها لا مثيل له بين الرجال .
مضى من الوقت ساعتين عندما غادرني .. هاتفته اكثر من مرة .. كانت الهواتف الخلوية قد ظهرت .. ولكنه لم يرد علي .. جزعت جدا .. امضيت ردحا من الليل لا ادري ماذا افعل .. واخيرا طرق الباب ففرحت .. قلت في نفسي لقد جاء رجلي .. وعندما فتحت الباب فوجئت بشرطي يقف باب الشقة وهو يقول : انا آسف يا سيدتي لازعاجك في هذا الليل .. انني احمل نبأ غير سار لك .. قلت جزعة .. ما الذي حدث .. قال : لقد نقلنا زوجك الى المستشفى بعد ان تعرضت سيارته للاصطدام بشاحنة كبيرة .. الا انه لا يزال حيا .. لقد تعرفت الى مكان سكنك من اوراق يحتفظ بها في سيارته .. صرخت مثل مجنونة وقلت : اي مستشفى .. قال .. انه مستشفى في نيويورك واعطاني اسمه .. ثم غادر .. هرعت دون ان ارتدي ملابس لائقة حتى انني نسيت ان البس حذائي ثم تذكرت ذلك عندما كنت في آخر سلم البيت . عدت ثانية ولبسته .. وهرعت الى هناك ..
كانت الفاجعة .. قال لي طبيب كان هناك .. اني آسف يا سيدتي .. لقد توفي زوجك قبل قليل .. وهو موجود في ثلاجة المستشفى .. اصابني الخبل فصرخت بملء رأسي .. جاءتني الممرضات وبعض الرجال في المستشفى يواسونني .. صرخت وصرخت حتى بح صوتي .. واخيرا اخذوني الى الطابق الارضي في المستشفى فقلت لهم .. اريد ان اراه .. قالوا .. بعد ساعة من الان سوف ترينه .. انهم يقومون بالاجراءات الضرورية لاصدار شهادة بوفاته …
ذهبت اليه .. نظرت الى وجهه الذي كان لم يزل فيه بعض الدماء بعد تنظيفه .. صرخت .. احتضنته .. وقفت الدموع متحجرة في عيني .. لم استطع ان افارقه .. قلت لهم .. ارجوكم .. دعوني آخذه الى بيتي .. قالوا .. كلا .. ان قوانين المستشفى تمنع ذلك .. اذا اردت اخذه فستأتين يوم غد فنسلمك الجثة .. ولكني لم اغادر المستشفى .. بت في الدور الارضي للمستشفى ابكي تارة .. واصرخ تارة اخرى والكل يواسيني .. وفي الصباح .. نقلت جثة زوجي الى دار للاموات .. بعد ان قلت لهم ان زوجي مسلما ولا يجوز ان نرسله الا لدار اموات المسلمين .. وهكذا تم تغسيله ودفن في مقبرة قريبة من هنا .. وها انت تراني لم ازل اعيش على ذكراه .. انا اليوم جاوزت الستين .. لا اجد عربيا الا اوقفته وسألته ان يتحدث الي .. وكأنما بكلماته تعيدني الى ما كنت عليه فيما مضى ..
قلت : اما زلت تحبينه .. قالت : اذا اردت ان تعرف ذلك .. فرافقني الى القبر يوم غد .. لا يمضي يوم من حياتي دون ان اكون هناك .. احادثه .. واتخيل انه يرد على كلماتي .. لقد مضى على موته الان ثلاث سنوات .. لم انقطع عن زيارته يوما .. انها الحياة .. واني لادري ان كلنا زائل .. وها انت تراني قد بلغت من العمر عتيا وما زلت على اخلاصي وحبي له .. وجل ما اتمنى .. ان يأخذني الله اليه عندما يأخذ وديعته..
نظرت الى المرأة العجوز بشىء من الحب وكثير من الحنان .. قلت لها يا سيدتي .. لم يكن زوجك حنونا فقط .. وانما اراك وكل الصفات التي تتمتع بها المرأة المخلصة فيك وفي كلماتك . على اخلاصك ومحبتك له. ثم ودعتها على ان نلتقي .. بعد ان قلت لها ..ما حدث كان امر الله .. فكلنا زائل في هذه الدنيا ولن تبقى الا الذكرى الجميلة .