حالةُ حب .نصٌ قصصي . بقلم : أنور ساطع اصفري

القصة …..
أنور ساطع أصفري . – امريكا
عرقٌ فاترٌ يتصبّبُ ، يُشكّلُ جداولَ لزجةً تسيلُ على وجهي ، رميتُ كلّ الأسئلةِ ، تجاهلتُ الإجابات ، أمّا صديقتي السمراء التي تجدلُ ضفائرها ، فقد قطعت جدارَ الصمتِ قائلةً :
– كم هو جميلٌ أنكَ عُدت .
أجبتها وأنا أتأملُ صفاءَ عينيها ، تكويرةَ نهديها : – خيرٌ من ألا أعودَ أبدا ، إشاراتي المروريةُ أصبحت كلها حمراء ، هُويتي تُحنّطُ ، تُعلّبُ وتُصدّر. إستدارت تضع شريطاً في المسجلِ ، سألتني :
– والآخرون ؟ .
خيّمَ صوتُ فيروز . قلتُ بهدوءٍ :
– يصمتون ، لذلك لا أراهم ، يسخرونَ لأنهم يجهلونَ كيفَ تتجاسرُ الأظافرُ لتصبحَ مخالب تمزّقُ الحلم والذاكرة .
الجرحُ ينزفُ ، تتشوهُ ذاكرتي ، الكُلّ ينفرُ مني ، زجاجُ نافذتي ، وردتي المفضلة ورائحةُ جسدي ، أسكبُ عطرَ ندمي في قدحي ، أشعرُ بالعجز الذي أورثني الضآلة .
داعبتُ خصلاتِ شعرها ، مررتُ أصابعي المرتجفةُ على وجهها ، إقتربتُ منها ، عانقتُ شهقتي بصمتٍ ، تمتمتُ بثغرها :
– في عينيّ أُقيم إحتفالاتي ، وبينَ قنواتِ أهدابي أزرعُ النرجس ، على شفاهي تنبتُ السنابلُ ، وعلى صدريَّ أُحرقُ البخورَ فتفيضُ نفسي .
الكلماتُ تتسابقُ ، تتعثّرُ نازفةً ، أبوحُ ، تأتيني كلماتُ الأقنعةِ :
– أنتَ غبي ! .
يهمسون ، يأتيني همسهم ضجيجاً ، يضحكون حتّى الثمالة ، رائحةٌ نتنةٌ تعبقُ بالمكان ، أتمتمُ ، أصرخُ ، أحاولُ ، تتعبُ المحاولة مني ، تقتحمني حالةُ هذيانٍ ، أهرولُ حافياً ، كلبٌ أسودُ يواكبني ، حجارةٌ صغيرةٌ تلجُ جسدي ، أقفُ تحتَ شجرةٍ فأراها بعيدةً عني ، حولها صراعٌ يومي يدور ، تباطأت خطواتي ، الكُلّ يدوسُ على الكلِ ، الجميعُ يدوسون ، الكُلّ يرفعُ نظراتهِ إلى الأمام ، غرابٌ نعّاقٌ يحطُّ أمامهم على شجرةٍ عالية ، وبومٌ ناعٍ يُحدّقُ بهم شامتاً .
فاجأتها بهمساتٍ تسللت بخدرٍ عَبرَ حُمرةِ شفتيها :
– لن أنامَ هذهِ الليلة ، غداً سأحملُ حاجياتي وأرحل ، فهذا قيسٌ ما زالَ شاهداً عَبرَ الزمانِ على أن الفراقَ أمرٌ لا بُدّ منه ، وهذا عنترةُ يقفُ شاهراً سيفهُ وعبلة بعيدةً عنه .
وقفتُ أمامَ نافذتي مودعاً ، إستدرتُ ، سألتُ الجدران ، شُباكَ غرفتي الوحيد ، كأسي ، طاولتي و أقلامي ، غفت الإجابات وهي تعانقُ الصمت . ألقيتُ نظرةً دافئةً على أغراضي ، لم أنسى شيئاً ، توقّفت نظراتي عند دفترِ مذكّراتي وأوراقيّ المبعثرة والمتناثرة ، إبتسمتُ قليلاً ” سيكون لي دفترٌ جديدٌ وأوراقٌ كثيرةٌ أخرى ” .
السماواتُ مظلمةٌ إلاّ هالةً بنفسجيةً كانت تعكسُ إضاءةَ حبٍ تجعلُ من يراني يحسبني عاشقينِ لم يلتقيا منذُ زمنٍ بعيد .
لامستني نسمةٌ ليليلةٌ ، نبّهت حواسيَّ ، لملمتُ أشيائي ، تركتُ البابَ مُشرعاً للحبِ ، للعصافيرِ وللفراشات .
خرجتُ كطفلٍ بريء ، سرتُ والأزقةُ تهربُ من تحت قدميَ اللتين كانتا ترتفعان قليلاً لتتجاوزَ قمامةَ الليل . توغّلَ النحيبُ متقيئاً في أحشائي ، فحلِمتُ بمدينةِ الفرحِ المهجورة ، كان فجراً مختلفاً ، إنها أولُ مرةٍ أتصلُ بها مع الفجرِ في غربتي ، حضنتُ صوتي ، بحثتُ عن قارةٍ مجهولةٍ في مخيلتي ، عن قناةٍ فضائيةٍ خاصّةٍ بالمحبين ، حلِمتُ بحبٍ خالٍ من الزيدِ أو طيفِ فقاعةٍ منسيّة ، شعرتُ بحريقٍ يداهمُ أحشائي فبلعتُ ريقي مسرعاً .
إغتلتُ الحدود َ ، أعلنتُ خارطةً جديدةً لفرحي ، رسمتُ وجهاً جديداً لي ، طليتهُ بكلِ مساحيقِ الفرحِ ، لكنهُ خُذِلَ ، فرسمتُ بإصبعي تجاعيدَ الزمنِ على جبيني .
في الصباحِ وقفتْ تنظرُ إليَّ وأنا متربعٌ ، مطأطىءَ الرأسِ فوقَ منتصفِ رصيفٍ مهترىء ، أُتمتمُ بكلماتٍ غيرِ مسموعةٍ ، إقتربتْ مني ، عكسَ جمالها بريقاً هادئاً ، تمتمتُ ” أنتِ أنثى جداً ” .
صمتتْ عندما سمعتني أتوسّلُ بأسى ، وأتسوّلُ بإلحاح . لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتّى داهمني رجالٌ ، ساقوني ، وهناكَ إستجوبوني ، قاموا بإجراءاتِ إثباتِ شخصيتي ، أخضعوا أناملي لمساحيقَ داكنة ، وعندما إتضحت البصمات إنعكست وإختلطت معها صورةُ البلد .
بكيتُ بلا إستئذان ، سألوني ، أجبتُ :
– صعبٌ أن أتكلمَ والصمتُ على شفتيَّ أسئلةٌ كثيرة .
دوّى صوتٌ جهوري :
– هل بقيَ شيءٌ لم تكتبهُ بعد ؟ أكتبْ كلَّ شيء .
سقطت من زاويةِ عينيَ اليسرى دمعةٌ نازفةٌ مُسافرة ، رسمتُ بحبريَ الدامي كلمةَ حب ، كتبتُ إسمَ حبيبتي مزيّناً بزهرةٍ طويلةِ العنقِ ، يتهدّلُ شعرَها كحريرٍ على كتفيها ، نحتُّ بكلماتي طيورَ عشقٍ ، إخترعتُ وطناً من شُعاعِ الشمسِ البكرِ ، وقلتُ : – لا بُدّ أن يأتيَ ذاتَ صباح .