آراء حرة …
بقلم : ادوارد جرجس .- نيويورك
طفلة من القدس المحتلة : تجذب شريطتها الحمراء لتطلق لشعرها العنان فهى لا تشعر بالحرية إلا إذا تحررت من كل قيودها الصغيرة ، تقفز قفزات متتالية قريبة من الأرض وتصرخ بفرحة سنعود غداً إلى الوطن ، تُقبل على أخيها الصغير الذي يلهو بلعبته وتحتضنه برقة، تقول له ، سنعود غداً إلى وطننا ، أخيراً سأرى كل أصحابي وعائلتي ، أعمامي وعماتي أخوالي وخالاتي ، جدتي وهو تفترش الخضرة على أريكتها وبجوارها شجرة الزيتون الضخمة تظلل عليها بوريقاتها الخصبة . دقات جرس الباب ، تجري بكل براءتها لتفتح ، أنه أبي يا أمي لقد عاد ، لكنه .. لكنه ، مالك يا أبي مطأطئ الرأس ، تحدث معي ، قل لي ما بك ؟ ، جريت على أمي أحثها لكي تأتي لتتلقى حزن أبي ، لتنفض عنه الهموم التي بدت كجبال الجليد ، يتكئ أبي على ذراع أمي ، يبدو حزينا ، يدخلا سويا إلى غرفتهما ويغلقا الباب ، أسمع الهمس والدموع تصرخ ، أسقط من شدة تأثري بالتأكيد حدث أمر جلل ، ربما يكون الأمر مرتبطا بعودتنا إلى الوطن ، لا أستطيع تصور أن يكون هناك أي تغيير في خطتنا ، لن أستطيع استيعاب الموقف فقد حلمت بالعودة إلى الوطن شهورا وأياما وليالي ، لقد اتصلت بكل من يعرفني وأبلغته عن يوم عودتي ، خرجت أمي وذهبت إلى المطبخ تستكمل أنينها الذي يجعل عزيمتي على التماسك تنهار ، اندفع تجاهها وأشدها من يدها حتى تنظر لي ، تحاول أن تداري دموعها التي فاضت لتغرق كل وجهها وتذيب ملامحها البشوشة ، أسألها بحزم ماذا حدث يا أمي ؟ ، هل تغيرت خطتنا ؟ لماذا تأجل موعد عودتنا للوطن ؟ ، تنظر أمي بذهول ، كيف وصل عقلي الصغير إلى هذا الاستنتاج ؟ ، أرجوكي يأمي ردي علىَّ، أمسكت أمي بي وربتت على شعري المنطلق بعشوائية وبحنان بالغ طبعت قبلة ساخنة بسخونة دموعها الوجلة ، لا تقلقي يا صغيرتي سنعود إلى بلادنا مهما كلفنا الأمر ، لا أدري ماذا حدث لي لكن رأسي طاف بي كل الدنيا وعيني لم تعد ترى ملامح الأشياء فسقطت مغشيا علىَّ وعندما أفقت وجدت كل من بالبيت بجواري وقطرات من ندى أبيض تكلل عين أمي وابتسامة وردية تحتل خديها وصوت أبي الحنون يأتيني بعزيمة لا تقهر : يابنيتي استعيدي حيويتك فسفرنا سيكون غداً إلى الوطن ، فجأة سرت في أوصالي شرارة وشحنة من الحيوية ضاع منها كل إحساس بالخزي والقهر وانفرجت مشاعري لتتسع لكل العالم ، فكم يصبح شعور النشوى بالنصر وتحقيق الأمنيات جميلاً رائعاً ، جهزت نفسي وأمسكت يد أمي وقبلت أبي قبلة الامتنان ، شاركت الجميع في مداعبة أخي الذي يقبع في عربته المتحركة بعجلات صغيرة ، كلنا في طريقنا إلى المطار ، وقفنا في طابور الجوازات وإذا برجل ليس بطويل ولا قصير يرتدي زيا شرطيا يأتي ليحدث أبي وينصاع أبي إليه ويخرج من الصف ، كلنا فعلنا مثلما فعل أبي ، أنزوينا في ركن بعيد منتظرين عودته إلينا فنعود إلى صف المسافرين ، إنطلق صوت المضيفة في الميكرفون ، لقد تم إلغاء رحلة عودتنا إلى الوطن لوجود مظاهرات واشتباكات عارمة ، لم أفهم ، رأيت أمي تبكي بحرقة , يعود أبي يجر أذيال الخيبة ، تساءلت لماذا يحدث ذلك في بلادي ، جاء رد أمي بسيطا لكنه كان قاسيا عندما فهمته ، لأننا نسكن القدس المحتلة .
edwardgirges@yahoo.com