تجُليات الجبار والخطاب الرسمي الفلسطيني – بقلم : مهند ابراهيم ابو لطيفه

فلسطين ….
مهند إبراهيم أبو لطيفة – فلسطين المحتلة ….
منذ سنوات طويلة، وعند الإستماع للخطاب الرسمي الفلسطيني، خصوصا الذي يصدر عن السلطة في رام الله، أزداد إقتناعا بأن مضمونه لا يمكن أن يكون موجها فعلا لا لشعب فلسطين وامتداده العربي ولا حتى للمحتل الإسرائيلي الجاثم على صدر شعبنا في الأرض المحتلة، فمن يخاطب المسؤول الفلسطيني عندما يتحدث في وسائل الإعلام؟ وهل يهتم ويرصد فعلا ردات الفعل الشعبية ؟ هل هو الإستهلاك الإعلامي أم يعيش حالة من النرجسية تجعله لا يرى سوى نفسه بالمرآة ويسمع صدى صوته؟
من أشهر القصص التي ترد في الكتاب المقدس أو العهد القديم (يسمى مجازا التوراة)، قصة جُليات العملاق الجبار أو جُليات الجتي، وهو الشخصية المعروفة بإسم ” جالوت ” ووردت قصته في سورة البقرة 249- 251 ( مع تفسير القرطبي، إبن كثير في البداية والنهاية).
حسب الرواية التوراتية كان جُليات رجل من “جت” الفلسطينيين، وجت مدينة من مدن الفلسطينيين الخمسة التي أشتهرت بتحصينها وقوتها : غزة، أشقلون (عسقلان) ، أشدود (أسدود ) ، عقرون، ومن الأقوام التي سكنت مدينة جت ، قوم حملوا إسم ” العناقيين” اشنهروا بطول قامتهم وقوتهم الجسدية وهم فرع من الكنعانيين.
ولد جُليات الجبار وغيره من رجال الجبابرة الفلسطينيين في ” جت “، وكانت المدينة محصنة جدا وعرف من ملوكها الملك ” أخيش “، وترد كثيرا في الكتاب المقدس على أنها – كباقي المدن – كانت في حالة إشتباك دائم مع بني إسرائيل، يُظن أن موقعها الحالي ما يعرف بتل عراق المنشية، على بعد ستة أميال ونصف غرب بيت جبرين.
تقول الحكاية بإختصار، أن جُليات الجبار بطل جيش الفلسطينيين، خرج من بين الفلسطينيين متحديا صفوف بني إسرائيل، مطالبا أن يختاروا من بينهم مقاتلا ليبارزه، وكالعادة في الحروب القديمة، يقف الجيشان في مواجهة بعضهم البعض للمبارزة في البداية.
تقدم جليات معتمدا على قوته وعدته الحربية الثقيلة متحديا من يبارزه، وظل على هذا الحال صباحا ومساء أربعين يوما، ولم يكن أحد من جيش بني إسرائيل يجرؤ على الخروج إليه، حتى جاء أخيرا الشاب داود بن يسى البيتلحمي، وسمع بالمهانة التي يتعرض لها قومه وإخوته، فما كان منه إلا أن ” تشدد بالرب ” كما يقول الكتاب، وتطوع لمبارزة هذا العملاق الذي كان يرتدي حُلة حرب ثقيلة ومعه عتاده الكامل، فتقدم إليه داود وهو لا يحمل سوى عصاه ومقلاعه ومعه خمسة أحجار ملساء التقطها من الوادي ، وهي عدة راعي الغنم التقليدية في ذلك العصر، ورماه داود بحجر من مقلاعه أصابه في جبينه، فخر جليات صريعا على وجه الأرض، فركض داود وأخذ سيف جليات وقطع رأسه وحملها إلى الملك شاول.
تقول الحكاية أيضا ، أن الراعي الشاب داود، عندما تقدم لضرب جليات نطق بهذه العبارة : ” أنت تأتي بسيف ورمح ومزراق، وأما أنا فأتيك بإسم رب الجنود الذي أعبده “، ثم قذف الحجر من مقلاعه ليُلحق به هزيمة نكراء.
تحمل هذه الحكاية (الأسطورية) الكثير من الدروس والعبر التي يمكن إسقاطها على واقعنا الفلسطيني وصراعنا مع الكيان الصهيوني، ومنها:
– من الممكن إقناع النفس بالإستعدادية العالية والقدرة على مواجهة جيش بأكمله، والإعتماد على مظهر خارجي كاذب مخادع، سرعان ما يسقط أمام أول إمتحان حقيقي، ويجب أن يكون إعلان التحدي مناسبا للقوة الفعلية على الأرض، وأمام جيش الإحتلال الإسرائيلي لا يملك الفلسطيني لإستمرارالصمود والتصدي سلاحا أقوى من إلتفاف الشعب ومقاومته الجماهيرية، وبطولاته الفردية والجماعية بتكتيكات ووسائل نضالية متنوعة وغير تقليدية.
– مهما ارتفعت لغة توجيه اللعنات للمحتل- الذي يعرفه العالم بالمناسبة جيدا- الذي لا يلتزم بالإتفاقيات والمواثيق والعهود، لن تغير لغة الهجاء شيئا من موازين القوى على الأرض، فإستمرار شتمه صباح مساء ولأربعين يوما أو أربعين سنة، لن يتغير سلوكه العدواني وممارساته الإستعمارية التي ورثها عن سيده الإنجليزي عندما كان يحتل أرض فلسطين قبله وسلمه إياها على طبق من ذهب، ليمارس تطهيره العرقي.
– إذا كانت المؤسسات الرسمية متورطة بقواعد سلوك وإشتباك، وإتفاقيات أمنية ملزمة، فالراعي الشاب لم يعتمد سوى على خبرته العملية في مواجهة وحوش البرية، وسدد رميته بمقلاعه هناك، حيث يجب أن تكون الضربة، في الرأس مباشرة، طالما الجسد محمي بدرع واق.
– كان الإنتصار النهائي والحتمي على جليات بسيفه، بأدواته وتقنياته وعنوان قواته، ومعروف عن تاريخ الفلسطينيين القدماء إتقانهم لصناعة الأسلحة والمركبات الحديدية التي تجرها الخيول، وقدراتهم العسكرية المتميزة، كان للسيف الواحد قيمته في وقته ومكانه المناسب، ولم يكن فقط للإستعراض المسرحي في الشوارع والساحات، أو لا يظهر بكل هذه النخوة والحمية، سوى في الصراعات العشائرية !.
– من أهم ما اعتمد عليه داود كان إيمانه الراسخ ومبادئه وحسه القومي والديني ، وهي التي اعطته هذه الشجاعة والعزيمة والقوة والثقة بالنصر، كانت وقود عطاءه ، فإذا لم تتوفر تعبئة أيدولوجية وعقائدية مقاومة، في مواجهة كيان صهيوني قائم على استخدام الرواية الدينية والتاريخية، واستعيض عنها بلغة ” الدبلوماسية ” والإلتزام بشروط الرباعية ، ورضى ” النادي الدولي” فلن تجد تأثيرها على الجماهير الشعبية التي تعيش واقعا معاشا ومريرا وتعاني من ويلات الإحتلال بشكل مباشر، وبالتأكيد ستنحاز لمن يعبر أكثر عن نقمتها وغضبها وتحديها وإصرارها على المواجهة.
– لم يقف الراعي اربعين يوما وليلة – يجتر التاريخ عن الصهيونية – في مواجهة جُليات في كل مؤتمر ومناسبة ، ولكنه في تلك اللحظة التاريخية كان على قدر المسؤولية وهو يواجه، وأتخذ القرار الجريء والمناس واستخدم مقلاعه، فكان الحسم.
– وفر داود الراعي على شعبه بقراره وموقفه، ربما جولة طويلة من الصراع والمعاناة ، لم يكن مضمونا فيها أن يحقق شعبه نصرا عسكريا حاسما على جيش يتقدمه مثل جُليات، ولكنه أدرك أنه يملك عناصر قوة ولا يجب أن تكون أرجله مرتخية، وقف على أرضية صلبة وتصرف بحنكة وعزم لأنه كان صاحب قرار ( حتى لو فردي) وتحمل مسؤوليته.
– لم يطلب الراعي الحماية لشعبه، ولا هادن أو لعب على إطالة أمد الصراع، ولعب لعبة إستمرار ” عملية السلام ” إلى ما لا نهاية مع ما تسببه من إستمرارية إستنزاف الطاقات والنتائج الكارثية على مسيرة النضال والواقع الفلسطيني والحركة الوطنية الفلسطينية ، وفي مقدمتها إستمرار السرطان الإستيطاني.
– لم يطلب على الإطلاق من فريق هنا أو هناك أن يشارك معه في مواجهته لجُليات، إعتمد على ذاته المقاومة أولا ، لم يسعى لتقسيم الشعب بين مؤيد ومعارض ، كان هو رمز وحدة الشعب خلفه ، أدرك أن بإستطاعته فعلا أن يكون سيد اللحظة، الناطق الرسمي والممثل لإرادة الشعب المستعد والمصطف خلفه للمواجهة والمقاومة، هو يمثل الكل وليس تيارا أو فئة أو نفسه فقط، كيف لا وهو الذي مارس عمله كراعي حقيقي مجرب وأمين وحريص، فتحقق له ما أراد، توحدت إرادته مع حالة شعبه وقراره بالمواجهة.
– على مدار أربعين يوما، كان من يقف خلف جُليات بالتأكيد فخورا سعيدا ، يحس بالنشوة والإنتصار وهو يعيير جيش أعدائهم ويستعرض قوته ” وذكائه الدبلوماسي كرجل دولة “، وبالتأكيد كانوا يكيلون عبارات المديح له يوميا على بطولته، ولكنهم حصدوا الهزيمة في النهاية وهو أولهم.
– لم يقنع داود نفسه ولا من حوله، بأن اللحظة والفرصة والظروف غير مؤاتية لإتخاذ قرارات حاسمة، كان هو القرار ومنذ البداية، وهناك عشرات الفرص التي أتيحت سابقا لكي يلتم شمل الشعب كله، في إطار وحدة وطنية حقيقية، وضمن مرجعية وطنية جبهوية الطابع، وعلى أرضية القواسم المشتركة، ولكنها ذهبت أدراج الرياح مما عمق الشرخ في الجسد الفلسطيني الواحد.
كان مقلاع داود وحجره موجها فقط نحو هدف محدد وواضح ومعروف ولم يستخدمه إطلاقا ضد أحد من بني جلدته، فتغنت به النساء – كما تقول الرواية – واحس كل واحد منهم أنه حجره ومقلاعه، ومن لا يعبر عن نبض الشعب ومصالحه وارادته، لا يتوقع أن يحتفي به أحد لو رحل، أصبح الراعي الشاب ملكا بطلا وسط شعبه تذكره كتب التاريخ وتخلده الحكايات والأغاني، فماذا سيسجل شعب فلسطين ويحكي لأطفاله عنكم؟ ، لا يصنع تاريخ الحرية سوى الأحرار.

ملاحظة: لا يوجد رابط تاريخي أو عرقي بين المستعمرين الصهاينة وبني إسرائيل.