الرابط : اصدارات ونقد (:::)
د. أسماء غريب – ايطاليا (:::)
•عنصر المكان\\الجسر\\ باب المدرسة\\ قرب\\ محطة القطار \\ النازل\\ إلى الجحيم\\
يبدُو أنّ تعبيرَ “باب المدرسة” هو مفتاح هذه المعادلة المكوّنة من ثلاث صور مختلفة الشّكل والمضمون. فالمدرسة كدالّ لغوي وثقافي تحيل على فترة التعليم الأوليّ الذي يبدأ من سنوات الطفولة وحتى سنوات المُراهقة بكلّ مراحلها وصعوباتها النفسية والفكرية والروحية. إذن فمن الدالّ المكاني أصبح الآن بالإمكان التحدث عن الدالّ الزماني. وهو الأمر الذي سيُسهب في معالجته في الجزء المتعلق بالعنصر الزماني.
على مائدة النقطة وكأسها المترع بالشوق.\\
هل هذه النقطة امرأة؟ هل مائدتها مائدة خمرة؟ إذا كان الأمر كذلك فمن هم ندماؤها؟ إنّ الجَواب عن هذه الأسئلة ومحاولة وضع اليد على مفاتيح مكنونات هذه الصورة في معزل عن بقية أبيات النّص يُعدّ محاولة لا تُحْمدُ عقباها ومحكوم عليها بالفشل منذ البداية، ذلك لأنّ الاكتفاء بصورة أنسنة النّقطة في هذا المقطع لن يمدّ المتلقّي بأيّ تفصيلٍ ولا تأويلٍ ولن يقوده بأيّ شكلٍ من الأشكال إلى استخراج عُنصر الزّمان حتى وإن كان الأمرُ يوحي منذ الوهلة الأولى بمرحلة أخرى من حياة الشاعر تلت مباشرة سنوات قسوة الشباب والحرب ومقابلة الموت وجها لوجه لأكثر من مرّة وبشكل متكرّر. يُكْمل الشّاعر أبياته ويقول: ” التقطنا صوراً عاريةً\\ إلاّ من الألم،\\ صوراً عاريةً إلا من صرخاتِ الليل،\\ صوراً عاريةً إلا من قميصِ الله.”\\
قراءة هذه الأبيات تمدّ القارئ بعناصر جديدة يتوجب التوقف عندها عنصراً عنصراً: ـ عُنصر العُري: وهو يتمفصل إلى ثلاث درجات تصاعدية تتجاوز بداية عتبة اللباس (الغطاء) ثمّ عتبة الجِلد (ما تحت الغطاء) وبعد ذلك عتبة الجسد الداخلي كي تتوقف عند درجة (داخل الدّاخل) أي قلب وروح الصّور حيث يوجد: الألم/الصراخ/ قميص الله. الوصول بالأبيات إلى هذه النافذة يعني أنه تم العثور على عنصر الزّمن والذي منه سيتمُّ الانطلاق نحو البحْث عن هويّة “النقطة” و”الحرف” اللذين أنسنهُما وشخّصهُما الشاعر بهذا الشكل العجيب.
• عنصر الزمان لقد تمّ تحديد زَمَن بداية التقاط الصّور وهي مرحلة الطّفولة أو قرب “باب المدرسة” حيث بدأت أسفار الشاعر وصديقه الحرف. لكن ماذا عن “الجسر”؟ الجسر ما هو إلا ذاك البرزخ الفاصل بين سنوات حياة الشاعر الأولى والسابقة عن زمن مرحلة التعليم المدرسي، ولعلّها إشارة لبداية علاقة الشاعر بالحرف داخل البيت الذي رأى فيه النور على يد مُعلمه “الحرف الأكبر” أو والده الذي كان ولم يزل البئر التي شرب منها أول كأس حروفية.
أصبح من الجائز الآن بعد هذا التصريح الحديث عن زمنين: زمن البيت وزمن المدرسة. وهما معا يشيران إلى الطفولة وبداية سنوات المراهقة. ماذا عن القطار النازل إلى الجحيم؟ إنه يشير إلى سنوات الشباب بكل ما سبقها من ثقل تجارب الطفولة القاسية:{موت الأب بين يدي الشاعر الطفل المراهق آنذاك (طالع المزيد من التفاصيل عن هذا الحدث في باب حوارات وعلى وجه الخصوص في نصّ الحوار الذي أجراه معه الأستاذ عبد الغني فوزي) وتجربة أولّ حبّ فَشِلَ وطارتْ فراشاته بدون عودة. (انظر قصيدة “حب” بديوان تفاصيل)}. وبكلّ ما حدثَ خلالها من تجارب أخرى أشدّها قسوة على قلب الشاعر، تجربة الحرب الإيرانية ـ العراقية، ولا أدلّ على ذلك من الكلمات التالية التي صرّح بها في نفس الحوار المشار إليه قبل هنيهات:”وفي شبابي التقيتُ بقتلى الحرب: الحرب العراقية الإيرانية. وكان مشهد القتلى القادمين بالعشرات بل بالمئات بل بالألوف- حين يشتدّ أوراها- يقلقني بل يمزّقني من الأعماق. كان الموت نشطاً جداً في حصد الرؤوس، رؤوس الشباب من الجنود العراقيين ومن الإيرانيين أيضاً. لماذا؟ كانت الأبواق الإعلامية العراقية تصوّر الحرب نزهةً! وتصورها انتصاراً تاريخياً! وكان عليّ أن أصف الموت وأتعايش معه- فأنا جندي أيضاً- وأخْفي ملامحه في قصائدي لتستطيع القصيدة أن ترى النور في زمن البروباكندا الإعلامية الشريرة التي استمرّت شديدة الصّخب في حرب عبثية ما بين (1980- 1988) لتنتهي الحرب بصيغة لا غالب ولا مغلوب. والحقيقة الصارخة كانت تقول بخسارة البلدين خسارة هائلة إذ مات الملايين من الجنود وأهدرت المليارات من الدولارات لشراء الأسلحة الفتاكة. وإذ خرجتُ من الحرب سليمَ الجسد لكن شيئاً ما قد مات في داخلي! لقد مات شبابي، إذ أنفقت عشر سنوات من أجمل سنوات عمري في مؤسسة الجيش الغبية وحرب العبث الأغبى هذه!”
بقي الآن الحديث عن عنصر آخر من عناصر اللحظات التي التقط فيها الشاعر وصديقه الحرف صورهما، إنه الليل، (انظر عبارة “صرخات الليل”)، فالنقطة إذن تستضيف ندماءها ليلاً وتسقيهم كأس الشوق في حضرة الألم والصراخ وتحت عين الله وقميصه. ما معنى هذا كلّه ومتى تعرّف الشاعر وصديقه الحرف إلى هذه النقطة؟ هذا ماستتمّ محاولة التوصّل إليه عبر الآتي من الصفحات. الليل إذن هو رحم النفحات الربانية ومهبط الأسرار النورانية ومجمع الأخلاء، لكن ليس أيّ أخلاّء ولا أيّ ندامى، إنهم ندامى رموا كلّ ثوب وكل عالق أو حاجز وراء ظهورهم ودخلوا محراب النقطة عارين من كلّ شيء إلا من الله والألم والآه. وفي كلّ هذا إشارة إلى المرحلة الثالثة من حياة الشاعر، أي المرحلة التي لبس فيها خرقة العرفان أو كما سمّاها هو بنفسه “سنوات الثمانينات” في أكثر من حوار . والليل إذا جاء واقفاً بين يدي العارف، وقف هذا الأخير بين يدي ربّه وقد رمى وراء ظهره كل علم وصورة، وصرف عنه كلّ شيء حتى يتمكن من رؤية النزول الرباني. أي أنّ العارف حينما يقف الليلُ بين يديه، عليه أن يلبس خرقة الجهل (قميص الله). لذا فلا معلوم في هذه الوقفة إلا الجهل الذي هو الحجاب الأدنى لله متى تجلّى في حضرة الليل أو حضرة السكون الذي يصبح فيه العارف طوع الشهود الوحداني غير ملتفت إلى علم أو إلى صورة حتى لا يأخذه البلاء الذي هو حرمان العارف من الله ومن مجلسه ورتبته ونوره.
إن السّؤال الذي تضرب مطارقه الآن هو: كيف احترق الشاعر أديب كمال الدّين بنار ونور النّقطة بل كيف تعرّف إلى جمال الخالق من خلالها وكيف عانقته النقطة وأدخلته إلى حدائق بهجتها؟ يقول الشاعر في مقطع آخر من قصيدة أخرى خاصة بالنقطة:
“مددتُ يدي إلى الله\\ إلى ما شاء الله\\ وإذ نظرَ إليّ برحمته التي وسعتْ كلّ شيء\\ لم يضع في كفّي المتوسلة ذهباً\\ ولا دنانير فضّة\\ لم يضعْ فيها سوى حرف صغير\\ كان يلتمع أملاً كعيدِ طفلٍ يتيم.\\ وإذ نظر الله إلى دمعتي الحرّى\\\ وقلبي المحطّم\\ سارع ليضع وسط الحرف نقطة\\ فامتلأ قلبي ذهباً ودنانير فضّة\\ حكمةً وبهجةً ومحبّة.\\ هكذا كنتُ صحراء فكانَ الحرفُ جَمَلاً\\ هكذا كنتُ ضياعاً فكانت النقطةُ معنى\\ هكذا كنتُ حتّى امتلأتُ\\ هكذا طرتُ أنا وجَمَلي\\ طرتُ كغيمةٍ من نور. ” \\
هنا يبدو جليا أن شرط التعرّف إلى النقطة يقتضي التقرّب من صاحب النقطة وهو التقرّب الذي عبّر عنه الشاعر من خلال هذا المقطع: ” مددتُ يدي إلى الله / إلى ما شاء الله”، مقطع بليغ يبدو فيه الشاعر عابداً ملحاحاً لا يكلّ ولا يملّ، فهو لم يشرط تقرّبه هذا لا بمكان ولا بزمان، لذا تراه حصل على العناية الربّانية عبر عين الرّحمة التي وسعت كل شيء، فكافأ صبره ووضع في يده أو في صحرائه الحرفَ، والجمل السفينة، ثم وضع وسط الحرف أو فوق ظهر الجمل النقطة التي صـارت معنى وغيمة من نور فكيف تكون إذن النقطة هي المعنى وما كُنه هذا المعنى؟
في ديوان (أخبار المعنى) يمدّ الشاعر أديب كمال الدّين القارئ بالجواب عن هذا السؤال فيقول: “ووصلتُ إليك أخيراً يا معناي، تعرّفتُ إلى أشكالكِ ذات الوقعِ اللّغزي: مربّع أطيافكِ، خطّ الحسراتِ الممتدّ إلى دائرةِ المنفى، ومثلثِ رغبتك الحيّ كما الأفعى، ومعين الضحكِ الأعمى، وزوايا فجركِ، ليلكِ، نومكِ وقت صراخ الشمس. تعرّفتُ إلى أشجاركِ: أشجارالجوعِ، الموتِ، الغضبِ الأسودِ حتّى أمسكتُ بأنهارك مستتراً من عريي الأزليّ: فرات الأطفالِ يطيرُ بعيداً عنّي، أغرقُ فيه، أضيعُ وأجلو عن لغتي ألماً يعصرها، قيظاً يوقدها تنمو، أتباركُ فيها، أدخلها فتنامُ بساقٍ غامضةٍ نحوالأعلى فأدوخُ وأبكي، يهبطُ فجر من قلبي وأدندنُ: جاءَ الطيرُ أخيراً من منفاه إلى كفّي، استتري فيّ ولا تنهمري. صاحَ فراتُ الأجدادِ المكتهلين بموتِ اللامعنى: انتبهِ اليوم لسرِّ الحرفِ بموضعها وتموضعْ فيها واثمرْ فالعمرُ حديثٌ خَرِفٌ يهذي…” معنى الشاعر هو معنى أمة لغة الضّاد والوحْي بأسرها، هو نقطته وهو فجر يهبط من قلبه فيجعله يدندنُ قائلا: “جاءَ الطيرُ أخيراً من منفاه إلى كفّي، استتري فيّ ولا تنهمري” ليعود بهذا يهتف ويؤكّد من جديد ما قاله سابقاً عن الكفّ المتوسّلة التي يضع فيها الله حرفاً ثم نقطة في وسطه فتصير بذلك نوناً، فما علاقة النقطة إذن بالمعنى وبالجمال وبالحرف وبالجمل وبالصحراء وبالغيمة ؟ يبدو ألا معنى فيما ليس بمعنى يدلّ على المعنى، فالمعنى كعنوان لشيء يدلّ على شيء آخر له معنى غير ظاهر في معناه، وذلك لأنّ له معنى آخر غيبياً أعطى له معنى كونه شيئاً يُعنى به شيء، فذاك هو المَعنى الذي يسعى إلى مَعرفة أسباب الكوْن والخالق والاتصال به ومعه، لذا فهُو معنى فوق كلّ فلسفة أو تفلسف، وهو ما يسمّى عند أهل العرفان بالعلوم اللّدُنيّة أو الفهوم الإرثية. والنقطة هي حقيقة المعاني كلها بل حقيقة حقائق الحرُوف ونسبتها للحرف هي كنسبة الذات الإلهية إلى الصّفات لذا فهي تظهر في كلّ حرف بما يقتضيه حُكم الحرف والذي هو أولا وأخيرا نقطة بإزاء نقطة إذ ما الحرف إلا مجموع نقاط ولولا النقطة ما ظهر الحرْف كما لولا الذات ما ظهرت الصّفات. ومعرفة الحرف فرع من معرفة النقطة ومعرفة الكلمة فرع من معرفة الحرف ومعرفة معاني الكلام فرع من معرفة الكلمة (وما قدروا الله حق قدره). أما عن تجلّي الجمال من خلال النقطة ففيه بحر من الكلام لا ينتهي مداده ولا يحدُّ أشجار أقلامه حدّ، لأنّ الأمر يتعلق بالتجلّي الذاتي الإلهي الذي هو الذات في الذات بشكل لمْ تقو الموجودات على حمل سرّ هذه الذات ليس لأن الله استأثر بذاته ضنّا على المخلوقات، ولكن لقصور هذه الأخيرة عن علمها، إذ لو فُرض جدلاً أن ظهر الله للوجود بلمحة بارق من بوارق التجلّيات لانعدمت الدّنيا والآخرة في أسرع من رمشة عين، وبهذا يمكن التعرّف إلى مدى رحمة الله بعباده ورغبته في بقاء وجودهم، وكما أن الذات الإلهية لا تُدرك، كذلك النقطة لا تُدرك، إذ ليس في مقدور أحد أن يتوصّل إلى ما في النقطة من كمالات وأسرار، وليس في طاقة أحد أو شيء من الموجودات أن يتّسع لها، أما صورة النقطة في عالم القدس عند الله عز وعلا فهي الحقيقة المحمدية، أو الصورة التي أشار إليها الحروفي أديب كمال الدّين بصاحب الصحراء أو السفينة الجمل أو الرّجُل الذي صار غيمة من نور. فهو إذن النقطة المتّصفة بحقيقة سائر الموصوفات وهو الحاوي لما حوته النقطة بل هو الحقيقة النُّقطية، فهل ثمة في الوجود من يضاهي محمداً في الجمال والبهاء والكمال من البشر وغير البشر؟ (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). محمّد مهبط الوحي ومنزل الملائكة ومظهر الصفات الإلهية، محمد الذي تنتسب نقطة ميمه البيضاء إلى النقطة المطلقة كما ينتسب العرش من الاستواء، إذ كما أن العرش محل الاستواء الرحماني فكذلك الميم المحمدية هي محل النقطة وظهورها، وكما أن هيكل نبي الرحمة ظاهر في الوجود بالصفات الإلهية الكمالية فكذلك باطنه الموصوف، لذا فالنقطة وإن تعدّدت حروفها فهي حقيقة واحدة كما يتعدد الأشخاص مـن النوع الإنـساني.
لكن مهلاً، مادامت هذه هي النقطة وسليلها الحرف فما سرّ بعض التصريحات التي باح بها الشاعر لأكثر من ناقد، نشرت في أكثر من حوار وعلى أكثر من موقع وصحيفة؟ ما سرّ قوله للدكتور شاكر نوري:”إنّ العالم ممثل كله في القرآن، والقرآن كله في الفاتحة، والفاتحة في البسملة، والبسملة في الباء، والباء في النقطة، وأنا النقطة.” وللأستاذ علي الإسكندري: “أنا النقطة وأنا الحرف حامل السرّ الإلهي دون شك” هذا هو ديدن أديب كمال الدّين، إذ ما إنْ يُسهب في توضيحِه لمفهومٍ ما داخل مقطع ما من مقاطع قصيدته، حتى يُسارع مباشرة إلى نسفه، تاركاً القارئ والنّاقد غارقيْن في بحار من الذّهول والارتباك، كيف لا وهو القائل: “حبّكِ ناطحةُ سحاب / حلمتُ بها / وخططتُ لها وبنيتها طابوقةً طابوقة / وحين اكتمل البناءُ العظيم / نسفتـُها من الأعماق.”!
كون النقطة حسب تعريفات التراث الصوفي الإسلامي هي مركز الكون وكونها كامنة في الصورة المحمدية والباء العلوية فكيف لها أن تصبح هكذا فجأة وبدون مقدّمات أديب كمال الدّين نفسه؟ إنّ هذه التصريحات على قدر ما تبدو خطيرة إلا أنّ لها علاقة حميمة بما يسمّى في علوم العرفان بمفهوم التّماهي مع الشيء، وهو في حالة الشاعر له مستويان من القراءة، الأوّل يخُصّ التّوظيف الشعري للنقطة والحرف كرمز يستمدّ طاقته من التراث العربي الإسلامي بكل منابعه الأسطورية والتاريخية والدّينية واللغوية، والثاني يهُمّ التوظيف الصّوفي الخاصّ برحلة الشّاعر الشّخصية في عوالم العرفان وطريق خرقة العشق وعصا الجمال، الشيئ الذي يعني أنّ الشّاعر من كثرة جُلوسه ليلاً على مائدة النقطة وشُربه من كأسها المُترع بالشوق وبالحروف العاشقة انْصبغ بها وصار هو نفسه نقطة وحرفا سرى في كل حرف من حروف الأبجدية، وهذا ما يفسّر كون أديب كمال الدّين يبدو للقارئ تارة ألفا وتارة نونا وتارة باء وتارات أخرى ياء وهكذا دواليك. وذلك لأن الحروف سرت فيه حتّى استولت عليه وهو أمر يُرى جليّاً في هذا النّص المُستلّ من ديوان (أقول الحرف وأعني أصابعي): “قالت حروفُ الحقّ
وهي تناقشُ في الألفِ الشاب:\\ هل سَيُكْتَب له أن يعيش؟\\ بل هل ينبغي أن يعيش\\ أو ينبغي- ربّما- أن يموت!\\ قالت حروفُ الحقِّ كلاماً كبيراً\\ وكلاماً كثيراً.\\ نصفه غامضٌ ولا تذكره الذاكرة،\\ ونصفه لا يُفسّره إلا العارفون.\\ وحدهُ الحاء\\ قال: اتركوه فهو شمسي.\\ هو مَن سيذكرني كلّما هلَّ اسمي.\\ وسيكتبُ عن رأسي وقد تناهبه الغبار\\ وحُمِلَ فوق الرماح\\ من بلدٍ الى بلد\\ ومن عطشٍ إلى عطش\\ ومن واقعةٍ إلى واقعة.\\ بل إنّ رأسي سيكون قصته\\ ودمي لوعته\\ وأنيني نبض قلبه.\\ قال: اتركوه.\\ هل ستناقشون أخطاءَه؟\\ نعم، سيقعُ في الخطأ\\ لينجو إلى خطأ آخر\\ وسيقعُ في الظلام\\ ليرتحل الى ظلامٍ جديد.\\ لكنّه مثلي\\ سيموتُ غريباً\\ في البلدِ الغريب.\\ وستطفرُ دمعته\\ كلّما غابت الشمس\\ حزناً عليَّ وعلى آلِ سرّي.\\ قال: اتركوه فأنا منه وهو منّي! ” \\
لكن هناك شيء آخر أكبر من كلّ فهم وتفسير في هذا النّص، فهو لا يريدُ القولَ فقط بأنّ الشاعر قد اصْطبغ بالحرف وصَار حرفاً ولكنّه حرف تناقشت أمره الحروف الأخرى طويلا إلى أن قرّرت حاء أحمد ومحمد، وحاء الحُبّ والفرح أن يخرُج عنها أو عنْ نفسه كيْ يكتب عن محمد وآل سرّ محمد وعن قصة الرأس وغربة أهل الرأس المقطوعة . ومن هذه الحقيقة تلمع بارقة أخرى تسأل في إلحاح وتقول: “هل يحقُّ للحرف أن يخرج عن الحروف الأخرى؟” والجواب نعم، يُمكن لهذا الأمر أن يحدث وفي هذه الحالة يُسمّى العارفُ الخارج عن نفسه خارجاً عن الحرف بفعل تجلّ إلهي وهو لذات السّبب يُعتبر من أهلِ الحضرة، وهو في الوقت نفسه من أهل موقف السّؤال المعنوي، أي أنّ العبْد بعد التجلّي يصبح قابلاً لتلقّي العلم اللّدني، فيسأله الله ويعلّمُه ويبدأ العارِفُ رحْلة الجواب بعد حُدوث التعرّف ثم ينتقل بعد ذلك إلى رحلة الإخبار عن الله وهذا المسار هو الركيزة التي يقوم عليها ديوان (مواقف الألف) الذي هو مجموعة من مواقف تنتمي كلها إلى السّؤال الذي يليه الجواب مباشرة. وكلّ هذا هو مدعاة لما يسمى بفرح الحرف، ذلك أن أولى ظهورات الحرف تدخل في حركة الزمن الرّاقص المؤشّر عن ظهور حركيّة متناغمة خارج ما يسمّى بعوالم الفوضى.
وبالعودة إلى النّص الأول الذي تمّ الانطلاق منه، يبدو جليّاً بعد هذه الرّحلة التحليلية، أن من كان كلّ هذا العمر يلتقط الصور العارية هو أديب كمال الدّين نفسه ولا أحد غيره، فهو الشاعر وهو الحرف الصديق في الوقت ذاته وهو النقطة أيضاً، وما بين كلّ هذا كانت هناك رحلة شعرية طويلة ومختلفة ومتنوعة في الإفصاح عن كمّ العذاب الهائل الذي عاناه وهو في العراق من الحروب والحصار والاستبداد والطغيان وتكميم الأفواه والاستخاف العجيب بمصيره وبأهله، فصار لزاماً أن يُفصح ويشير، وينطق ويبوح بما لا ينبغي أن يُباح به سيما وأنه هو نفسه مادة هذه المعاناة والمركز الذي ناء بها . الصّور إذن التي التقطها الشاعر كانت عارية إلا من كل ّهذا الألم وصراخ الليل وحرف الله ونقطته، لكنّ أديب كمال الدّين يقول إنّ هذه الصور تجمع إلى عنصر العري عنصر اللون أيضاً:
“نعم،\\ التقطنا صوراً ملوّنةً\\ بلونِ الغروبِ عند البحر\\ أو بلونِ الأمطارِ الأستوائية\\ أو ملوّنةً بغيومِ الشتاءِ البعيد\\ أو بظلالِ النساء\\ أو بنورِ الشمس\\ وهي تتعرّى على امتدادِ المحيطِ العظيم.\\ هذه الصور تسمّيها أنت،\\ وأنتَ على حقّ،\\ تسمّيها قصائد.\\ وأنتَ فرحٌ بها\\ لأنكَ ابتكرتها\\ وكنتَ فيها الظاهِر والباطِن.”\\ كما توضح الأبيات، فالألوان في هذا النّص خمسة:\\ ـ لون الغروب عند البحر\\ ـ لون الأمطار الأستوائية\\ ـ لون غيوم الشتاء البعيد\\ ـ لون ظلال النساء\\ ـ لون نور الشمس\\