دراسات …..
بقلم سفيان الجنيدي – كاتب فلسطيني ….
لا يختلف إثنان على أن الامة العربية حالياً تعيش في ظروف ، حالكة، مزرية و متردية، أذ أن الظروف الظلامية الانية الجاثمة على المجتمعات العربية نتيجة لتوغل الأنظمة الاستبدادية و سيطرتها ، اشد وطأة من مثيلاتها أبان إستلاب خيراتها و أراضيها و حريتها خلال مرحلة الاستعمار والخراب.
قد تتباين الآراء حول ذلك إلا أن معظم الآراء تذهب إلى أن البنية الجمعية المعرفية و الإرادة المجتمعية الجمعية في زمن الاحتلال كانت أقوى و اكثر وضوحاً منها في ظل الأنظمة العربية المستبدة، إذ أن الأفكار التحررية من نير الاحتلال كانت الصبغة العامة المسيطرة على الافراد و الجماعات في حين أننا نجدها مغيبة في زمن الأنظمة العربية المُستبدة الحاكمة نتيجة لسياساتها الممنهجة و التي تعمد إلى تغيّب الوعي المجتمعي و إذكاء جميع عوامل الفرقة و الانشقاق في المجتمعات المحكومة من جهة، و من جهة أخرى إستخدام الدين كذريعة، و تخدير الجماهير من خلاله، و تطويعه بما يتفق مع إستراتيجياتها من أجل تثبيت دعائم حكمها.
قد تختلف الأدوات الاستبدادية من نظام دكتاتوري لاخر إلا أن القاسم المشترك بينها انها تعمد إلى نشر القيم السلبية من قبيل الطائفية و الجهوية و تجزئة الجماعات و العمل على تداعي المنظومة الأخلاقية للمجتمع من خلال نشر الرذيلة و الانحلال الخلقي و الرشاوى والفساد والجوع والفقر والنهب .
لكن، و بناءً على ما تم سرده، ألا يسترعي ذلك كله من كل فرد قابع ضمن متاهة و منظومة القيم السلبية المتفشية في المجتمعات العربية، أن يقف مع ذاته و يطرح بعض الأسئلة المصيرية و التي لا مناص منها، هل يمكن إستمرارية العيش ضمن هذه الحالة المزرية و المتردية و التي تغلف وتحيط بالمجتمعات العربية؟! كيف سيبدو مستقبل أبنائنا لاحقاً في ظل إستفحال و تزايد وتيرة الاستبداد و القهر؟! كيف الخلاص من ذلك؟ و ما هو الدور المنوط بكل فرد؟!
بدايةً، لا بد من الإقرار أن غياب الديمقراطية و إستثئار الأنظمة الاستبدادية و الديكتاتورية بمقاليد الحكم، يفسر إلى حدٍ ما عدم إفراز المجتمعات شعوبا على درجة ملفتة للنظر من الوعي والابتكار والابداع، إذ ان تغيّب الإرادة الجمعية الفاعلة في مجتمعات الدول النامية و تداعي وعيها الجمعي و منظومتها الأخلاقية ليست وليدة الصدفة وإنما هي مخرجات أنظمة قمعية إستبدادية والتي في جعبتها العديد من الأدوات للإستثئار و الحفاظ على الحكم والذي حسب أدبياتها لا يعدو عن كونه حق مكتسب لا يحق لكائن من كان أن ينازعها فيه، لذلك تعمد تلك الأنظمة إلى توظيف أدواتها المختلفة لنشر مختلف أنواع القيم السلبية من قبيل الطائفية و الجهوية و العنف و الفساد و الرشاوى ، الخ . بين أفراد المجتمعات المحكومة حتى تصل إلى مبتغاها في إشغال المجتمعات في شؤون ثانوية و حتى تصرف إهتماماتها عن السلطة و الحكم.
و بديهيا و مما لا شك فيه، أن مخرجات الاستبداد و الديكتاتورية لا تقتصر فقط على المنظومة السياسية و حسب ، حيث إستثئار الفرد بالسلطة المطلقة و ما يصاحبها من سياسة تكميم الافواه و عدم تداول السلطة و تزوير إرادة الجماهير و تعطيل عمل مؤسسات الدولة و إنما تتعدى ذلك إلى التأثير على جميع المناحي في الدولة، وتأثيرها السلبي على الحياة السياسية لا يقل ضراوة عن تأثيرها الفادح على الافراد و الجماعات، إذ أن القهر و الاستبداد التي تمارسه الأنظمة بحق الشعوب سيجعلها مجبرة على إعتناق احد السيناريوهات التالية لتعبر عن رأيها عن القهر الواقع عليها، فإما أن تخضع بالكلية لهذا القهر و تتكيف و تتعايش معه او أن ترفضه و تقاومه بالحوار و الطرق السلمية او أن تكافح ضده و تقاومه بنفس أدوات العنف التي يستخدمها النظام ضدها وفقا لمبدأ العين بالعين او أن تجنح إلى العنف فيما بينها وبذلك تكون مرآةً و إنعكاساً للقهر الواقع عليها.
و لكن، و حتى تستطيع المجتمعات الرازحة تحت حكم الأنظمة الاستبدادية، إسترداد كرامتها و حقوقها و اوطانها لا بد ان يكون الباعث الرئيس لذلك نابع من وعي المجتمعات الجمعي و إتحاد اراداتها، و حتى يتحقق ذلك عليها أن تأخذ بعين الاعتبار جملة من الضوابط التي يمكن إيجاز أهمها بما يلي:
اولاً: غياب الوعي و الإرادة الجمعيين سيؤديان بلا محالة إلى المزيد من التفريط في الحقوق المدنية و الذي بدوره سيؤدي إلى المزيد من قهر السلطة و ظلمها و إستبدادها.
ثانياً : الأحزاب السياسية المعارضة و النقابات المهنية و المنظمات المدنية إضافة إلى وسائل الاعلام الحرة و المستقلة بشتى انواعها يقع على كاهلها الواجبات في توعية الجماهير بالشأن العام و ممارسات السلطة و برامجها و أجنداتها الخفية من خلال البرامج و الورشات التوعوية الدورية و المستديمة
ثالثاً: مماطلة المجتمعات في تكاتفها الجمعي و إستكانتها و خوفها من مجابهة الاستبداد سيتيح للسلطة تعزيز ادواتها الاستبدادية ضد الافراد و الجماعات مما سيؤدي إلى تفشي المزيد من القيم السلبية في المجتمعات .
رابعاً: التحرر من الاستبداد يجب أن يتم من خلال مراحل منظمة و مستديمة من المجابهة الجمعية الواعية ضد الأنظمة الاستبدادية و يجب الا تكون نتيجة لردات فعل ضد قرارت السلطة الاستبدادية ، إذ أن ردات الفعل ستتلاشى و تندثر و ربما تؤدي إلى انكسار الإرادة الجمعية لفترات زمنية طويلة.
خامساً : الاحتقان قد يؤدي إلى الانفجار و لكن في غياب الوعي و الارادة الجمعيين سيكون تأثيره محدود و سيكون من السهل الإحاطة به و القضاء عليه.
سادساً : السعي إلى تحقيق الأهداف الذاتية في معزل عن العمل الجمعي يؤدي إلى إتساع عوامل الفرقة و الشقاق و بالتالي سيكون مدخلاً و منفذاً للانظمة الحاكمة في السيطرة على الشعوب و الاستبداد بها .
سابعاً : التغير ليس شرطاً ان يكون مقترناً بالعنف، إذ أن الوعي و الإرادة الجمعيين سيكونان قادران على مجابهة السلطة المستبدة، ضيقة الأفق، بأساليب و أبتكارات ليس باستطاعتها و مقدرتها تنبؤها و التصدي لها.
ختاماً:
بالرغم من تحرير الوطن العربي أراضيه من قوى الدمار و الخراب الاستعمارية، إلا أن معظم الدول العربية ما زالت رازحة تحت أنظمة إستبدادية والتي تحاول بشتى الأدوات تضييق الخناق و محاصرة و شل إرادة الجماهير و تغيب و عيها.
و قطعاً، في ظل غياب الإرادة الجمعية الواعية و المثقفة تزامنا مع الفقر و الجهل اللذان يخيمان على حياة المجتمعات المسحوقة و المقهورة، يصبح من اليسير على الأنظمة الاستبدادية السيطرة على الشعوب و إرادتها. لكن، حتى تتمكن الشعوب تحقيق ما تصبو إليه من دحر الأنظمة القمعية، لا بد ان تكون البنية المعرفية الجمعية عن منظومة الحكم السائدة قوية و يجب أن تكون متلازمة و مصحوبة مع الارادة الجمعية الحقيقية الساعية إلى التغير.
و مما لا شك فيه ، انه لا و لم و لن توجد قوة تستطيع مجابهة إرادة الشعوب الرافضة لجميع أنواع الاضطهاد و القهر و الاستبداد، اذ أن الشعوب إذا ارادت التحرر و العيش بكرامة فلا مناص من أن يستجيب القدر.