“القصة القصيرة…الواقع والخيال” موضوع ملتقى الشارقة الثاني عشرللسرد العربي بقلم : د . نزهة المأموني

دراسات ….
بقلم : نزهة المأموني – المغرب …
حول “الخيال في المحكي”  تحدث د.سعيد بوطاجين من الجزائر:
افتتاحية :تحديد المصطلح
تلف المصطلح ضبابية في الدراسات القديمة والحديثة والتي لم تتوصل إلى معنى محدد لكل من “الخيال والتخييل والمخيل والمتخيل والمخيل والتخيل والمخيلة”
ــ انتشار خلط مربك في الدراسات لا يميز كثيرا بين الخيال ” “كمحاكاة ووهم وتجاوز وأثر” وما بين “المتخيل كموضوعات سردية أو شعرية ”
ـــ المصطلح عند ابن سينا وقبله الفارابي وابن رشد اتخذ مفهومه من علاقته بفلسفة أرسطو حيث تأثر بعه البلاغيون بالمعنى الذي “يتقاطع جزئيا مع منظور الشعرية والسيمياء والأسلوبية والشكلانية ” من تم تندرج المصطلحات :”الخيال”،”المخيل”،”التخيل”مسميات ترتبط ب”كيفية القول” بعيد عن الصدق والكذب.وبتعريف القدامى “ذا علاقة تتجاوز فن الخطابة” الذي ينبني على أسس عقلية صرفة .
ـــ وتظل العلاقة بين الواقع والخيال تتحكم فيها محاكاة إيديولوجية لا تقدم تعريفا واضحا محددا .
أما الخيال عند أرسطو فيرتبط بالبنية التي تلبسه لتخرجه كإنتاج منظم خلق مادة سردية أو شعرية تصور واقعا آخر غير الواقع الحرفي لكنه يتوفر على شرط الإقناع المنطقي من حيث علاقته الدلالية.
هذا النوع شاع بدرجات متفاوتة في الأدب والفنون التشكيلية والسينما ليحل محل الخيال السلبي الذي يعتمد  على شظايا الانطباعات التي لا تربطها علاقات دلالية منطقية و”لا تصدر عن وعي عملي له مسوغاته الوظيفية ومقاصده المبنية على سلسلة من المقدمات المنطقية”.
جوهر الخيال أن يأتي منتظما بوعي سردي أو شـــــــــــــــــــــــــــعري .
القصة القصيرة في الوطن العربي :الخيال الغيري:
ــ لا يمكن تقديم أحكام قيمية على منتوج قابل للتغيير من زمن لآخر ومن كاتب لآخر ،بل من منتوج واحد لنفس الكاتب إلى منتوج آخر…
ـــ تنوع الكتابات القصصية مابين مدرسة وأخرى ،ونزعة أو أخرى ،وما بين التأثر بالتداول الشفهي اليومي أو الموروث العربي …
ـــ ذوبان القصة القصيرة العربية في الشكل الغربي ضيع عليها الاستفادة من ذخيرة فعلية “كان ممكن استثمارها دون تقديسها”.
الموروث المنسي :تجاوز منطقي أم خلل في المنظومة السردية ؟
إن أكبر خطإ يتعرض له الموروث العربي هو أنه يخضع لعملية المسح وليس البناء ،وفق منظومة فكرية عربية توصل منتوجا معينا إلى “الاكتمال” “كما تفعل الحضارات لتستفيد من النمو الحلقي للمعارف برمتها “.لذلك يضيع ما فعله السابقون بدل أن يبني عليه اللاحقون في مختلف حقول المعرفة والسرد .حيث ضاعت التجربة العربية كخيال مؤسس فيها كل من :القصص القرآني،والحديث ،وحياة الصحابة والسير الكبرى،والخرافة ،وألف ليلة وليلة ،وكليلة ودمنة ،ومنجز الصعاليك ،والقرامطة”كنصوص ذات أهمية كبرى على عدة أصعدة :مبنى ومعنى وخيالا وتميزا” .
تضاف إلى هذا الخسارة الكبرى في إهمال فن “المقامة” التي كان يمكن الاستفادة منها فيما يخص القصة القصيرة ،لربح الوقت والجهد.هذا الفن العربي القديم سبق القصة الغربية بل واستفاد منه القصص الاسباني والأوربي.
الفن الذي تميزت به المقامة من حيث الخيال الواسع والمتعدد ،وتحمل عناصر القصة القصيرة التي ظهرت بعدها عند الغرب .يؤكد خسارة ضياع “قرونا من الذكاء السردي والممارسات الكتابية ” .
ـــ ضيعت القصة القصيرة الغربية الاستفادة من الموروث العربي لكتابات أبي عثمان الجاحظ”التي لم تخل من الخيال والمعارف (البخلاء ،والحيوان ، مثلا )وغيرها …واتجهت القصة العربية لركيزة واحدة وهي الغرب .
المرجعية المستوردة :
ـــ ظهرت الكتابات القصصية الأولى بحلة غربية تحمل خيال أوربا ،أو امريكا ،ولا علاقة لها بالموطن العربي إلا اللغة.
من ذلك “حضور الكاتب الغربي غي دو موباسان في النص القصصي العربي من حيث التقنية والخيال ” .
ــ محمود تيمور بدل جهدا في وضع أسس القصة القصيرة في الوطن العربي عندما جمع بين الواقعية والرومانسية ،وبالبعدين التاريخي والاجتماعي ،والإلمام بالتراث العربي الإسلامي.لكن التجارب الأولى جعلت المتلقي أمام نصوص لا علاقة له بها من مختلف الأصعدة: الموضوع ،طبيعة الشخصيات ،الحكاية ،المرجع .مع أن الضرورة تقتضي الحذر من الانزلاق نحو ذوبان الذات في الآخر ،لدرجة تنفي أو تغيب القيمة من دين ،ومقدس ،أورمز وإحالة مما يغلب مرجعية على أخرى .مع أن الصحيح هو الاحتفاظ بكل مرجعية لاختلاف الأساليب والتعابير والاستعارات والصور والمجازات الخاصة بكل مرجعية والمرتبطة بتربتها التي أنجبتها .
توطين الخيال :من النسخ إلى الخصوصية :
هناك استثناءات مثلها عديد من الكتاب الذين انتبهوا لمسالة النسخ الحرفي للخيال الغربي في المنتوج العربي .فاستدركوا الأمر وقدموا منتوجا واعيا لما يدور حوله منهم :”نجيب محفوظ وسهيل إدريس اللذين نظرا إلى الخيال كجزء من النص والهوية السردية والواقع والمرجع ” وطبعا بعيدا عن علاقة الواقع والخيال بمعناها المعيق لعملية الإبداع بل بمعناها النسب  ي الذي يجعل منها استلهاما من الواقع وامتدادا له في شكل واقع آخر داخل بنية سردية معينة .لكنه يظل خيالا ذاتيا معبرا عن ثقافته وقيمه وقناعاته.لينفرد بخصوصيته الإبداعية بأحاسيسها المتميزة عن إبداعية الغير المختلف عنه ثقافيا وقيما.
ـــ كتاب جمعوا بين الاستفادة من كتابة الغرب وبين الأدب الشعبي مثل :الطاهر وطار .
الخيال والتجريب: عودة إلى الأصول :
ظهرت في السبعينات كتابات راقية استفادت من القراءات والتجارب واستغلت اكتساب اللغات في إصدار منتوجات جمعت بين التحولات الخارجية والمعايشات اليومية للأحداث داخل المجتمع المعيش .وأعادوا “الخيال” إلى موطنه ليكتسب خصوصيته المحلية مع الاستفادة من التراث والتاريخ مثل حيدر حيدر ،وزكريا تامر .
خاتمة:
الخيال المستورد عاب الكتابات العربية مما ضيع عليها التعبير عن واقعها أكثر لنه خيال له أغراضه وغاياته. وهذا لا يعني أننا ضد الخيال ذي الطابع الإنساني للخيال السردي لكن بموازاة مع الخيال الخاص بكل أمة .
إن الخيال المنتج هو المنطلق من الذات إلى الغير وليس العكس .ويجب أن ينتظم داخل أسس معرفية جمالية ووظيفية تجعله قابلا لقراءات ومتغيرات .والوعي التام بالتوطين كقيمة متعددة البعاد كي لا يسقط في الحصار والحجز والتكرار .
الخيال في المحكي : حالة القصة القصيرة
أ.د سعيد بوطاجين \  تعليق نقدي : د. شريف الجيار (مصر)
اعتمدت دراسة د.بوطاجين افتتاحية وستة محاور هدفت إلى تحديد المصطلح بدءا من الفلسفة اليونانية إلى الثر الذي تركته لدى الباحثين العرب في القديم والحديث .
أشار إلى الفوضى التي اكتنفت التعريف بالمصطلح والذي تميز بالتداخل الاصطلاحي والتباين الدلالي .وكانت التعريفات عند القدامى من فلاسفة وبلاغيين أكثر وضوحا لتأثرهم المباشر بالفلسفة اليونانية التي كان أرسطو متقدما فيها على أفلاطون عندما خالفه في تحديد “المحاكاة” في الشعر والتي تجاوز فيها مجرد الالتزام بالواقع بل تعداه إلى استخدام الخيال بوعي ذكي من المبدع ؛وقد عبر عن هذا د.بوطاجين بإعادة استغلال المادة الجامعة بين الواقع والخيال لخلق واقع آخر مقنع للمتلقي. عندما ينتقل د.بوطاجين إلى الحديث عن القصة القصيرة في الوطن العربي ينفي عنها صفة الأصالة ،وينعتها بالتبعية للنص الغربي والأمريكي لأنه قطع الصلة مع تراثه .ومن تم ظل الموروث منسيا بل ممحيا ولم يخضع لثقافة البناء والمواصلة ،كما تفعل الحضارات التي تصل بمنتوجها إلى محاولة الاكتمال والنضوج ؛من ذلك عدم الاستفادة من الأنساق المتعددة : قصص القرآن ،الحديث وحياة الصحابة ،والسير ،والخرافة وألف ليلة وليلة …وبالتالي ضاع على القصة القصيرة العربية وقت طويل كانت ستختصره لو أنها استفادت من الموروث مثل فن المقالة ايضا ،وكتابات الجاحظ في “البخلاء” و”الحيوان”. وقد أثر هذا بدوره في عملية “التأصيل للهوية السردية العربية” والذوبان في النسق الغربي الذي لا يتوافق فكريا مع المحيط العربي بكل علاقاته المتنوعة ؛لأنه انطلق من محيط غربي مختلف بعلاقاته أيضا .
خرج بوطاجين بخلاصة تؤكد على ضرورة إفادة القصة العربية مما هو قومي وعالمي ،دون إهمال المحلي .كما يرى أن القصة المعاصرة تنبهت للخطإ في تناول “الخيال” الذي يجب أن يعيد بناء هويته التي تجمع بين الخصوصية والغيرية دون تغليب هذه الثانية بل الأولى ،مهما تضرعت بضرورات كانت جمالية أم أيديولوجية .ومثل لهذا النموذج من الكتابات المزاوجة بين الرافدين :العالمي وتمثله السردية الغربية والسردية الأمريكية ،والعربي الأصيل ويمثله التراث باشكاله المتعددة ،ومثل بكتابات كل من الطاهر وطار في (الشهداء يعودون هذا الاسبوع)وحنا مينا في (رسالة من امي و” البنوسة البيضاء”)
وعندما أكد بوطاجين على ضرورة الانطلاق بالخيال القصصي نحو العالمية دون إهمال الهوية العربية شيء ” يجعلني أختم بقول الشاعر الهندي طاغور ،الذي ذكره الباحث : “زرت كل البلدان والمحيطات ،ولم أبصر قطرة ندى على وردة أمام باب بيتنا” “.
”   القصة الجديدة :إشكالات النص وانفتاح الأجناس ”
د.عبد الرحيم جيران (المغرب) :    النص القصصي :تداخل أجناسي أم انفتاح ؟
قصص بورخيس نموذجا
الإشكال : المفهوم ومزالق الاستعمال :
قدمت “النظرية النصية” للنص مفهوما يتجاوز الجنس الأدبي إلى درجة الإلغاء،تجعل النص فضاء للتواصل بين الأجناس لا نحتاج معه لاستعمال كلمة “خرق” لأن لا وجود لحدود بين الأجناس داخل النص”وبهذا المعنى يتشكل الفضاء النصي على الإنتاجية التي مفادها التنفيذ أي النهائي على مستوى الكتابة والقراءة معا ،هذا فضلا عن افتقاد النص خاصيتي المركز والمحيط اللتين تميزان كل جنس أدبي” أما الجنس الأدبي فتحكمه الذاكرة بنوعيها الخاصة والعامة “فهي من جهة ذاكرة خاصة تتأسس على تخييل الموضوع الجمالي انطلاقا من الرؤية التي تمثل الوعي المتعالي الخاص بالمؤلف ــ المبدع ،ومن جهة ثانية ذاكرة عامة تتمثل في استضمار الأعراف الخاصة بنمط ما من الكتابة ،ونصوص ومعارف عديدة ومتنوعة ” .والخرق يقوم على هذه الجدلية بين الخاص والعام ،أما النفي فيرتبط بالنص . بهذا التعريف نصل إلى مقاربة التداخل الأجناسي داخل القصة القصيرة الذي يحتم النظرة إلى النص انطلاقا من النظرية النصية ” حيث يكون بمثابة التنفيذ المادي بواسطة اللفظ لي قصد كلامي ” .قبل الحديث عن التداخل الأجناسي داخل القصة القصيرة لابد من المرور على الرواية بصفتها الجنس الأدبي المهيمن حاليا ولأنها اتخذت من هذا التداخل إحدى ميزاتها الجمالية منذ القرن السابع عشر التي تتأسس على مبدأين :
ـــ حرية في التصرف بأن تأخذ من الجنس الآخر ما تقوم بإعادة تركيبه لصالحها.
ـــ تحطم الحدود محتفظة بالهوية .
الشيء الذي يطرح السؤال حول إمكانية القصة خوض هذه التجربة بمداها القصير .
سؤال القصة القصيرة في ضوء تمايزات الجنس الأدبي :
نطرح السؤال مرة أخرى “هل يمكن أن تمتلك القصة جرأة الرواية في امتصاص الخطابات…” وما هي الأجناس التي يمكن أن تنفتح عليها ..وكيف تحاورها ؟ فالشعر مثلا هو تمثيل للعالم وتمثل له وهو بصفته المتعالية عن كل تحديد يعبر عن زمن ورؤية غير محدودين لعالم هو نفسه بلا حدود .أما الزمن في السرد عامة فهو محدود بالقصة القصيرة خاصة لأنها تتوفر على “مؤشرات تعيينية ” لتأطير الحدث .وعندما ينفتح السرد على التمثيل الشعري ” يفقد المبرر لأن يتعين جنسا أدبيا ،ويصير مجرد نص،وما ينفتح عليه من الشعرلا يتعدى العبارة الشعرية ،وجعلها في خدمة أسلبة علاقته بالقارئ،لا خدمة التمثيل النسبي المحدود” من هنا تظهر طريقة انفتاح القصة القصيرة على الشعر من حيث متطلباتها منه  لتحويلها لصالحها خاصة وأن الشعر مجال لتمثل الأسطورة أفضل من غيره .تشترك القصة القصيرة مع الرواية في تمثل العالم على مستوى مادة محدودة مع اختلاف في طبيعة المادة .فبينما تهتم الرواية بتمثيل الحياة من خلال كل تهتم القصة القصيرة بلحظة من هذا الكل ؛بمعنى “تعنى بالقبض على لحظة هاربة ــ منفلتة دالة تجمع في داخلها اتصافين هما :الاكتشاف وعدم التوقع”. بهذا يظهر الاختلاف بين الرواية التي توظف الحدث من أجل الكشف عن نمط الشخصية بينما توظف القصة القصيرة الشخصية للكشف عن طبيعة الحدث .فالشخصية توضع “حيث يريد لها انطباعنا حول العالم أن تكون ،وفي النهاية تفاجئنا بخطإ انطباعنا .” وانفتاح القصة القصيرة على المسرح يتجلى في “الأسلوب الدرامي الماثل في البعد الحواري ” .لذلك لا يمكن أن ينفتح جنس أدبي على آخر إلا في حدود مايتطلبه النص من آليات أسلوبية على مستوى الشكل .لكنه لا يستطيع أن يطال الجزء المتعلق بالتمثل الأدبي .
3ــمظاهر انفتاح القصة القصيرة على أشكال الخطابات الأخرى :
تم اختيار المجموعة القصصية ل”خورخي لويس بورخيس”لأهميتها المتجلية في العناصر الثلاثة :
ــ تتضمن في داخلها تنظيرا للكتابة .
ـــ محاولتها تحطيم الحدود بين القصة القصيرة وغيرها من أنواع الخطابات وبينها وبين المعرفة أيضا .
ـــ تمثل ما سبقت الإشارة إليه من تعذر الانفتاح على الجنس الأدبي إلا من حيث مركزه الجاذب وليس على مستوى خصوصيته الأدبية .
3ـ 1ـ المبادئ الموجهة :
بين بورخيص انفتاح القصة القصيرة على الأجناس والخطابات الأخرى وفق ثلاثة مناح رئيسية :
أــ تخييل المعرفة (أو تخييل الأفكار ):
بين القصة القصيرة ضمن كل متعدد وموحد بمعنى أنه يعطيها حرية في البناء لكنها غير مطلقة .
ب ــ استثمار الموروث التخييلي :
تنفتح قصص بورخيس على الموروث حيث يعتبر القصص امتدادا لحكي الأجداد والأسلاف ،بما فيه الحكي العربي من حكايات “الف ليلة وليلة” وكذا الميراث الأسطوري من حي استثمار رموزه .
ج ــ مفتاح القصة القصيرة بنية ولغة :
بما أن القصة القصيرة تقوم أساسا على القبض على لحظة هاربة وتكثيفها وكسر انطباع القارئ ،فهو يستثمر الموروث التخييلي لخدمة هذه البنية الأساسية وليس لهدمها .
ويظهر الإنفتاح الأجناسي هنا بمثابة جدلية قائمة بين القديم والحديث “تعد عند بورخيس اقتراحا يجعل من الخيال واقعا ، وربما كان هذا الخيال المحول واقعا اكثر إسعافا في فهم العالم من الملموس الحي ذاته “.
التنظير الداخلي والانفتاح على المعرفة:
يميز بورخيس بين الخيال الذي تمثله القصة القصيرة وبين الفلسفة التي يمثلها التنظير ليخلق معضلة في قصصه تقوم على مبدإ التناقض لأن عالمه القصصي ينبني على المنتج الفلسفي كما لا يخلو من أسماء فلسفية . مبدأ التناقض هذا الذي يقوم عليه العالم القصصي عند بورخيس يجعل طرفا ينفي الآخر .يتحدد الزمن في القصة القصيرة عند بورخيس في الزمن الجاري “لأنه يضع الحاضر في أزمنة أخرى ،ويرى نفسه فيها حيث يصيرالزمنان (الماضي والمستقبل)مرآتين يتجلى فيهما الحاضر ” .وتدخل الذات بالماضي ليكون الشكل التراثي “مرىة للقصة ذاتها” .
انفتاح القصة القصيرة عند بورخيس على الخطابات الأخرى :
الانفتاح الأجناسي عند بورخيس يتواجد فيه كل من الحكي العريق والحكي الحديث (الرواية) والمعرفة النظرية (الأدبية ـ الفلسفية ــ العلمية).
أما بالنسبة للحكي العريق ،تنفتح قصص بورخيس على نوعين :الحكاية العجيبة (ألف ليلة وليلة)والأسطورة ويستثمر على المستوى الجمالي لخلق الحيرة التي يبعثها كل ما هو عجيب وسحري لتحقيق جدلية بين الذات والعالم ،لتتمكن الذات من قراءة نفسها من خلال العريق والحديث .
التفاعل مع الخطاب غير التخييلي :
يندمج الخطاب النقدي في قصص بورخيس مع النص القصصي بحيث “يصير الخطاب (…) خادما لفعل السرد ،ويتحول بذلك إلى موضوع له ،وف يتحوله هذا يفقد طبيعته المتعالية بفعل تخييله ”
تندمج خطابات متعددة منها القراءة بفعل السرد وبفعل التدقيق والمراجعة يغلب عليها الخطاب النقدي الذي “يخدم السرد ولا ينفصل عنه” .وكذلك على “ممكن الرواية البوليسية ” فيما يخص مسألة اللغز الذي يميز النهاية .تضمنت قصص بورخيس الترجمة للشخاص التي وردت على شكل “خصائص عامة لشخصية ما “.
اتخذ الانفتاح الأجناسي بقصص بورخيس ذاكرة الشخصية “فونس” موضوعا للسرد به تجتمع كل الخطابات المعرفية لتخدم فعل السرد في تخييلها .
ويميل بورخيس إلى استخدام خطاب الرياضيات (الجساب والرقام)الذي لم يعلن عن سريته محافظة على ميزته في خلق الحيرة التي بها يحيى النص .ولديه استعمالات للأرقام داخل قصصه يكون معها”الاستشهاد ينفتح على إمكانات اللعب بالأرقام ،وهي ممارسة توجد في الصحف اليومية من أجل تزجية وقت الفراغ،كما أنه ينفتح بوساطة هذا اللعب على الممارسة السحرية التي تتخذ من الأرقام وسيلة رمزية تنوب عن الكلمات ” حيث تحولت الأرقام داخل التخييل إلى مسألة تجاوزت طاقة اللغة إلى “مهمة تختص بها الصحف وكتب الألعاب الذهنية “أي تقدم امتاعا من نوع آخر كما تقدم تصريحا عن فعل السرد الذي يستطيع أن “يحكي للعالم” بلغة الأرقام أيضا وليس “باعتماد اللسان أو تقاطع اللغات ” فيظهر استلهام الفيلسوف “فيتاغورس”الذي تصور للكون مبنى على العدد والنغم .
د. محمد صابر عبيد (العراق):
“النص القصصي الجديد وسردنة الفنون ”
نهل النص القصصي العربي من كل الأجناس والفنون الأدبية والجمالية منذ منتصف القرن الماضي منها الدراما والشعر والسيرة مكتسبا آليات تعبير جديدة .اتجهت القصة القصيرة نحو الفنون الجميلة لتوليد أساليب سردية جديدة متأثرة بما لدى هذه الفنون مثل الرسم والموسيقى والسينما من عناصر حاول الكثير من القصاصين الإفادة منها بواسطة الاستعارة والتداخل مما ساعد القصة على تجديد حبكتها السردية .
الكاميرا البؤرية وتقانات السرد القصصي المونتاجي :
تشتغل قصص “كائنات حية” لكاتبها حسن حميد على الحس تكون من الحيوي الذي تسخر له مقولات وإشكالات سردية تتلاحم فيما بينها “تلاحما سرديا وتشكيليا وسينمائيا” وكل محور يدخل في علاقة مع المحاورالمجاورة لتتعاقب المحاور متسلسلة لتكون مشهدا ،تساعدها في ذلك الإشارات التي تضيء وجهة أفعال السرد.
ـــ المحور الأول : يستجمع لقطات سردية تتجانس لخدمة الاستهلال عبر نسخ متعددة :
في الأولى “يرسم السارد الذاتي الأنثوي” المتعلق بذاكرة العنوان(إمراة وحيدة)صورة المشهد الذي يتحرك فيه ومنه لسان السارد ” .مثيرا بكاميرته إلى الحركات الجسدية التي تصور حوارا داخل المشهد .وفي التتمة الاستهلالية الثانية يقرب المشهد الحواري أكثر ب”تكوين المشهد وتكبير مفرداته أمام بصر القراءة “. وتتوالى النسخ الاستهلالية في تقريب المشهد أكثر فأكثر ،بانتقال السارد لوصف الفضاء السردي المحيط ،يجعل كاميرا السارد تتجول في جميع الأطراف وصفا وتدقيقا .
يختم السارد النسخ الاستهلالية بانفعاله حيث يتهيأ لتوجيه الكاميرا نحو مشهد آخر “إذ تنعطف كاميرا السارد الذاتي بمرور تصويري على قناة العبور إلى المشهد الثاني “.وينتقل السارد من مشاهد إلى مشارك فعل ليتحول السرد في الأخير إلى منطقة تهيمن فيها كاميرا السرد بشكل تام؛لأنها تركز هذه المرة على سرد الذات الساردة .تظهر عملية المونتاج عندما يتدخل السرد داخل ذاتي للذات الساردة في ملئ الفراغ الموجود بين مشهد الشابين وبين مشهد التدخل الفعلي للسارد .ويستفرد السارد في المشهد الخاتمة باستكمال ما ينقص من المشاهد السابقة من توضيح وملئ فراغات ،وربط المشاهد بعتبة العنوان …
القصصي في التشكيلي : سردنة اللوحة واقتراح الحكاية الجديدة :
تأثر الفن القصصي بالفنون الجمالية فأكسبه طرقا إبداعية جديدة ساهمت في تطويره وفتحه على قراءات متنوعة .
من ذلك دخول التشكيلي على القصصي إذ تمثل لقصة “أغنية حب التي في الأصل لوحة دي كيريكو”الشهيرة .حاول القاص لؤي حمزة عباس أن يجمع بين النسخة الأرضية “كيريكو””في السبيل إلى إعادة إنتاجها قصصيا بنسخة فضائية تمثل التجربة ،وتضيء مكامنها الحيوية المعتمدة بالمشاعل اللونية والأشكال والخطوط والرؤى والإشارات التي تفيض بها اللوحة “.
موسيقى القص بين الايقاع البصري والايقاع السمعي :
حاول النص القصصي استجلاب الفنون بحثا عن جمالية سردنتها واستثمارها داخل الفضاء القصصي. وكانت الموسيقى أهم فضاء دخله القص بحثا عن أساليب جمالية جديدة يطور بها المادة السردية .
قصة “الخوذة والزيتون” هي مغامرة تمتحن الإنتاج والتلقي لما تجمعه من لبس بين التشخيص واللغة والراوي والمروي له…
تبدأ المغامرة من التكثيف الدلالي الذي يتركز في مفردتين إحداهما “الخوذة” وما تدلل عليه مبدئيا من معاني متعلقة ب”الحرب “ومفردة “زيتون” وما تدلل عليه مبدئيا من معاني “السلام” .
ارتكز النص على حركات ايقاعية تحققها صور :
ـــ تكثف الحركة الإيقاعية الأولى أفعال الراوي “العالم بكل شيء”وشخصيات أخرى منتحية حركات سياقية تجمع بين التصوير والايقاع متخذة من الجمل القصصية وسيلة لتمثيل “الحدث والفعل والصورة والدلالة” .
ــــ تتضاعف قوة الأفعال الحركية في الحركة الايقاعية الثانية لتدخل في عمق السرد بهيمنة للسارد على الميدان .
ـــ تختص الحركة الايقاعية الثالثة بتبئير الذات الساردة في إحالة على الذاكرة والتاريخ ب”إنتاج الإشارات والتلميحات والايحاءات “.
وهكذا تتوالى الحركات الايقاعية متحكمة في أفعال السرد بين الحركة القوية وبين الهدوء…محققة بذلك توليدا لصور ايقاعية ملتحمة بالدلالات التي تخدم الحدث بتهييء فضاءات سردية جديدة توصل الواحدة إلى الأخرى.
عملت “مفردات الايقاع البصري ” مثل “عدسة التصوير ” ،”رأيت” “ينظر”،”شاشة التلفاز”، “المصور” “حدقة العين” على تووليد صور ومشاهد ورؤى وعلامات وايحاءات كلها شجعت باقي الأفعال على الدخول في المغامرة الجمالية لاستفزاز” السارد المحايد ظاهريا” وكشف حركته الباطنية داخل السرد.
“فمنظومة الأفعال ذات الايقاع البصري ((رأيت\ينظر\أقص\سدت\رأيت\حجب\ظلل\غطى\ظهر\)وما ينفتح أمامها من مساحات بصرية تحرض المروي له على الدخول في لعبة المشاهدة وتشاغله بصريا .في الوقت نفسه ،تندفع لتحيط بالمشهد الصوري وتصوره بدلالاتها وايحاءاتها ورموزها ،وتلتحم بالمنظومة الاسمية المجاورة ذات الايقاع البصري المستفز (عدسة التصوير \العدسة\المصور\عدسة التصوير \شاشة التلفاز\العدسة \المصور\حدقة العين\شاشة التلفاز\العدسة\العدسة\شاشة التلفاز\\برق وميض فسفوري خاطف \المصباح\شاشة التلفاز) لتقود المشهد نحو إبراز الصورة البصرية العامة وتجلي ادواتها وأفعالها أمام بصر المروي له المرتهن بمشهد الراوي)).الايقاع السمعي اختفى لصالح الايقاع البصري.

” القصة القصيرة :إشكالات النص وانفتاح الأجناس ”
فاضل ثامر(العراق): بحثا عن شعرية للقصة القصيرة.
بدأت القصة القصيرة تنفتح على الأجناس الأدبية لتضاهي الرواية التي هيمنت على الأوساط الثقافية باحثة عن أساليب جديدة لتعميق بنياتها الدلالية ،” حتى باتت نصا مفتوحا ينطوي على حمولات معرفية وسيميائية عميقة وصادمة يعمق من الطبيعة الاشكالية للنص القصصي “. واتخذت اشكالا مثل القصة القصيرة جدا التي نافست قصيدة الهايكو اليابانية أو قصيدة النثر في قصرها وأهدافها .واتجهت للنهل من التاريخ بشكل افتراضي لتصبه على الحاضر” في توظيف فنطازي أو غرائبي ” كما اتجهت نحو س الميتاسرد وتوظيف الحكاية .وبهذا أخذت القصة القصيرة تبحث عن شعريتها لتجد لها آلياتها التي تساعدها في صياغة الخطاب السردي بكل مقوماته الدلالية في محاولة لإشراك القارئ في توليد المعنى .وقد اتخذت القصة القصيرة من الترميز وسيلة عجيبة لتنفتح على قراءات متعددة لتؤكد عملية التواصل التي تحدث عنها أمبرتو ايكو من خلال “القارئ في الحكاية”.ومن تم اتخذت القصة القصيرة مقوماتها الشعرية من كونها تحولت إلى نص مفتوح”ليس على دلالات متعددة فقط بل بالانفتاح على الأجناس والفنون بشكل كبير” حتى يمكن القول أن القصة القصيرة كشفت بهذا النزوع عن شراهة “متطرفة” و”شهية مفتوحة للالتهام كل شيء مما قد يعرضها إلى مخاطر تشتت وضياع الهوية والخصوصية  والتجنيس” . القصة القصيرة لم تقف عند شعريتها الخاصة بها ،بل أضافت :شعرية اللغة القصصية ،وشعرية الوصف الذي يزاحم السرد ،وشعرية المكان ،وشعرية البؤرة السردية المركزية التي تكشف الأحداث،وشعرية “التوحد الانساني للبطل “،وشعرية المونولوج الداخلي المرتبط بالذاكرة لتوليد التاريخ البديل ،وشعرية التعالق “الزمكاني”،وشعرية التقاط اللحظة الهاربة ،وشعرية النبض الانساني في انكساراته .لكن القصة القصيرة تتحول بشكل كبير يثير جدلا ،ويمثل غشكالية أمام النقد الحديث ،حيث يعجز عن تحديد علامات جنس القصة القصيرة التي انفتحت بشكل واسع على الأجناس الأدبية والفنية .حيث اشار ايف ستالوني إلى “معيارالكثافة” بصفته الأهم في تحديد جنس القصة القصيرة مضيفا خمس سمات أساسية:
الحداثة،وحدة الحدث ــ الحاكي الواحد ــ طلب الصدق ــ دلالة التناص “يشير هذا المفهوم إلى التناصات المشتركة بين قصص مجموعة معينة واتجاه القاص الأساسي في الكتابة ” في مقابل صيحات اخرى لنفي التجنيس والنوعية واستبدالهما بمفهوم (الكتابة ــ النص).(تعليق خاص بالمحور الثاني)=
”  القصة القصيرة جدا في مرآة النقد ”
1)ــ د.يوسف حطيني (فلسطين)”الهوية السردية للقصة القصيرة جدا”
تتشابه الأنواع الأدبية فيما بينها لكن هذا لا ينفي انفراد كل واحد منها بمميزاته الخاصة .والجواب الممكن أمام السؤال الذي تردد كثيرا :كم يبلغ طول أقصر قصة قصيرة جدا ؟هو تكونها من واقعتين “تقود فيها الواقعة الأولى السرد صعودا نحو الذروة ،في حين تقوده الواقعة الثانية نحو نهاية تسعى إلى إحداث مفاجأة (surprise) تعمق الاحساس بدلالة النص”  ولكن مع ذلك يظل للإبداع دوره في اختراق قواعد النقد بأن يخلق من العنوان نفسه واقعة أولى،لتكتفي القصة القصيرة بعنوان وواقعة واحدة .
ثم يطرح سؤال آخر :كم واقعة تحتمل القصة القصيرة وإلى أي حد تطول؟
تحتمل القصة القصيرة أكثر من واقعة مع شرط الاكتفاء بوحدة نصية واحدة في اصغر مساحة حكائية تحقق الدلالة .
إذن لابد من توفر عنصر الحكي مهما صغرت المساحة الذي لا يمكن الناقد من تتبع الأدوار التي حددها غريماس في ستة تمثلات بنظرية العوامل(Actants )
“1ــ الذات التي تتطلع لتحقيق هدفها.
2ــ الهدف الذي تسعى الذات إلى تحقيقه .
3 ـــ مرسل الذات في تحقيق مطلبها نحو الهدف .
4ـ ـــ متلقي الهدف الذي تسعى الذات لامتلاكه .
5 ـــ المعين الذي يقدم المساعدة للذات.
6 ـــ الخصم الذي يسعى أن يعوق الذات عن تحقيق الهدف .
ومن هنا فإن أي إنشاء لغوي لا يفرز مثل هذه الأدوار التي تتشابه بين السرديين الثلاثة وتختلف بأسمائها فقط ،لا يمكن أن يعد سردا “. السرديون الثلاث (غريماس وسوريووبروب)
لكن السرد يحتمل أشياء كثيرة منها أن يقوم تبادل أدوار بين الخصم مثلا والمعين ،كما يمكن أن تقوم عدة شخصيات بدور واحد كما يمكن أن “نتحدث عن بطل جمعي مضاد (خصم جمعي) نجد كثيرا من تمثلاته في القصة في القصة القصيرة جدا”
والقصة القصيرة جدا تتميز بقدرة على التمويه يصعب معه تحديد تبادل الأدوار نفسها بل تتحقق المتعة في عملية التلقي عند البحث عن الأدوار لكن مع الإشارة إلى أن إخفاء الأدوار على مستوى السياق النصي لا يعني إغلاق النص بالكامل وادعاء جهل وغباء القارئ .بل لابد من الاحتفاظ بفتحة مهمة في النص تتيح التواصل .
بما أن السرد يقوم عادة على صناعة الحكاية بالاعتماد على وظيفتين :أولاهما جذرية وتمثل أساس المادة السردية “ويقوض الاستغناء عنها منطق السببية في الحكاية “.
وظيفة طليقة “لا يؤدي حذفها إلى خلخلة منطق السببية ، على الرغم من قيامها بمهام متعددة على صعيد بناء الإطار الزمني والمكاني …”
والقصة القصيرة جدا تكتفي بالوظائف الجذرية .والسرفي حذف العوامل الأخرى بوظائفها الدلالية هو الإثارة في احتمال دلالات متعددة …
وبهذا يظهر التكثيف صفة بارزة في القصة القصيرة جدا معتمدا على التعميم ك” الابتعاد عن تسمية الشخصيات التي تقوم بالوظائف الأساسية للحكي ،وتقديم الشخصية النموذج التي ترتبط في ذهن القارئ بمجموعة من سمات يختص بها السرد ،والاعتماد على البنية اللازمنية للسرد” مما يتيح تعدد الدلالات. ويسمح التكثيف في القصة القصيرة جدا باختصار ما يعرف في السرد بالتهيئة التي يثبت لها السارد بعض الإشارات التي يلتقط دلالاتها القارئ في لحظتها المناسبة .لكن القصة القصيرة جدا لا تحتمل هذه التهيئة إلا نادرا جدا.حيث يترتب “على القاص أن يستثمرها في سرد لا يتأخر كثيرا ، ومن المحتمل جدا أن يعتمد عليها الكاتب في صناعة المفارقة لينتج لحظة التنوير”
كما يختصر القاص صراع الشخصيات داخل وضع عام يكون إما ضد وسط اجتماعي أو قدر أو ظرف سياسي سائد يضفي على القصة تكثيفا أكثر .
أما السببية في القصة القصيرة جدا فمن الركائز الضرورية مثلها مثل جميع أنواع السرد لا يمكنها الاستغناء عنها ، بل إن مساحتها القصيرة تعتبر أحيانا مجالا أسرع لكشف عيوبها .
والوحدة النصية  في القصة القصيرة جدا تمثلها أصغر مساحة حكائية تحقق دلالة وليست وحدة عضوية يفترض وجودها في كل عمل أدبي كما أشار كولريدج إلى ذلك وقتله شرحا.
ولا بد من الإشارة إلى أهمية الفعل في “انتاج الحدث” وهو ما يعرف في القصة القصيرة جداب”فعلية الجملة” و”تجنب كل وصف غير سردي تحفل به أنواع السرد الأخرى ! لأن الوصف (description) يقوم على عرض الأشياء والكائنات في وجودها المكاني عوضا عن الزماني ولا يفيد من ذلك العرض في تقديم الواقعة أو تطوير الحدث ، وهذا كثير في الرواية ،وممكن في القصة القصيرة ”  لكنه شيء غير مقبول في القصة القصيرة جدا لأن مساحتها لا تحتمل استراحة سردية ،ويخضع الحوار أيضا في القصة القصيرة جدا إلى سمة “التكثيف” حيث يخلو من كل ما يصاحبه في الرواية أو القصة من “لاحقة وصفية ” ويقل فيه قدر الامكان “تبادل الأفعال القولية ،وصفات المتحدثين”
والسؤال الذي لابد منه في الأخير هو :
هل توفر كل عناصر القصة القصيرة جدا يكون كافيا لإنتاج قصة ناجحة ؟
ويكون الجواب هو أن العمل الأدبي أكبرمن أي تحديد للمكونات ويظل الابداع لانهائي .
2) ـــ د . زهور كرام (المغرب) :
“القصة القصيرة جدا
والابحار الملغوم ”
التفكير في أدبية النص هو أهم شيء قبل التفكير في نوعه لأن الميثاق المبرم بين الكاتب والمتلقي يفرض عليه تحقيق المتعة الجمالية والفنية في العمل وليس الدلالات الرمزية لأن القارئ “يطلب تحقق التخييل” ولعل تاريخ القراءة لدى كل قارئ ،يكمن وراء دعم هذا الميثاق ،وتمكين القارئ من الإحساس “الوعي بأدبية الأدب ، قد يرفض قارئ عملا ويخرجه من منطقة الأدب ،إذا وصله إحساس بالزيف ،والتقريرية ،دون أن تكون لهذا القارئ خبرة نقدية بماهية الأدبية ” فالتخييل ضروري لأي عمل أدبي قبل المرور لنوعه ،والتفكير في الأدبية والمحافظة على أدبية العمل أهم من التغييرات الشكلية سواء في “مساحة الكتابة” أو “ترتيب مخالف لنظام الكتابة السابقة” .
إن الشكل الأدبي الجديد الذي هو القصة القصيرة جدا يجب أن يتوفر على القصة\الحكاية\الخطاب والتركيز على الخطاب أكثر لأنه هو الشكل الذي يحقق النص بواسطته أدبية .والتحدي هنا قائم إذ كيف يمكن للقاص أن يجمع بين التخييل والايجاز”مع اقتصاد في التعبير ،وعمق في اللغة ،وقوة في الايحاء؟”
وهذه العلامات البارزة ضرورية لتحقيق النوع الأدبي الجديد الذي هو القصة القصيرة جدا.لكن هناك أعمال احترمت هذه العلامات وقدمت تراكما حقق “رؤية عن طبيعة الفرد في هذا الزمن” بينما انحرفت أعمال أخرى وانزاحت تماما معلنة قطيعة مع “أفق انتظار الأدب”التخييل” كأن تتخذ شكل “خاطرة “أو “حكمة ” أو “مثل” “وهي عبارة عن تعبيرات آنية ،عن فكرة أو انطباع ، تعتمد اللعب باللغة ،مع الاستعانة ببعض الأساليب البلاغية التي تحدث ايقاعا”والشرط الأهم في القصة القصيرة جدا أن تتخذ من المساحة القليلة فرصة لتعميق المعنى وفتحه على مساحات دلالية واسعة أوسع من مساحة النص القصصي .وتكون النهاية “عنصرا جوهريا” لكونها تحمل ثقل قوة تفجير اقتصاد النص”  عكس بعض النهايات العادية كما في الحياة اليومية ،فلابد ،إذن،أن يهتم كتاب القصة القصيرة جدا بجانبها الفني حتى لا تبتعد عن الأدب .فلا يمكنها أن تصنف كنوع وسط الأنواع الأدبية الأخرى ،وتضيف رؤية أخرى للعالم.
3)د. اعتدال عثمان (مصر) :
“القصة القصيرة جدا :قراءة في تحولات السرد ورؤاه”
إن عبارة عبد الجبار النفري”كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة” تسهل الدخول لموضوع القصة القصيرة جدا التي مثلما تأثرت من القديم والحديث فهي تميزت واختلفت واتخذت لنفسها طرقا وتقنيات خاصة بها . يوجد اختلاف كبير في الوسط النقدي حول احتمال تسمية القصة القصيرة جدا جنسا قائما بذاته لاختلافه عن الرواية والقصة .
وهناك آراء نقدية ترى تشابها بين القصة القصيرة جدا وبين قصيدة النثر من حيث “الايحائية والكثافة والايقاع ” كما اشارت د.سعاد مسكين في كتابها “القصة القصيرة جدا في المغرب:تصورات ومقاربات”.
وذهبت أصوات إلى تأكيد الحضورالشعري في القصة القصيرة جدا سواء من ناحية قوة الخيال أو الاستعمال الايحائي للكلمات .ولابد من الاشارة إلى إدوار الخراط الذي تحدث عن مصطلح جديد في التسعينات من القر ن الماضي هو”الكتابة عبر النوعية ” أي بعيدا عن كل تصنيف أدبي معروف مثل الرواية والشعر والقصة والنحت …والتي اتخذت اسما آخر “الكتابة الجديدة “.
وظهر نقاد متحمسون إلى استقلالية هذا النوع الأدبي مثل د.جميل حمداوي الذي يرى “أن القصة القصيرة جدا جنس أدبي جديد أو مستحدث ،له أركانه وبناه وتقنياته الخاصة” مركزا عاى ضرورة توفر الجانب القصصي أو الحكائي مع الحجم القصير ،ووجود الحبكة القصصية المختزلة إلى جانب التكثيف ـوالاضمار ،والادهاش ،والمفاجأة وفعلية الجملة ،والايقاع السريع …
وكذلك الباحث السوري أحمد جاسم الحسين له إسهام مهم بعنوان “القصة القصيرة جدا”والباحث الفلسطيني يوسف حطيني بكتابه “القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق “وقد حدد فيه ىأركاناللقصة القصيرة جدا : الحكائية ووحدة الحبكة أوالعقدة القصصية ،والتكثيف ،والمفارقة التي تفاجئ بخرق  المتوقع،وفعلية الجملة.
رغم الاختلاف القائم بين النقاد حول خصائص القصة القصيرة جدا والذي يعكس اختلاف الابداع على الساحة ،يتفقون أغلبهم على ضرورة توفر: القصصية والتكثيف ،،والقصر والمفارقة ، وأهمية العنوان والاستهلال والخاتمةوفعلية الجملة التي تحقق ايقاعا سريعا لاهثا من البداية إلى النهاية .
تحكم القصة القصيرة جدا ــ حسب جل النقاد ــ ثلاث بنيات أساسية :بنية مفاهيمية ،بنية شكلية ،وتقنيات الكتابة ،خصوصية البنية اللغوية .
ــــ بنية مفاهيمية : تمثل لمفاهيم الحياة في عصر السرعة وانتصار شبكات “النيت” الشيء الذي يجعلها ــ ربما ــ نتاجا لمتغيرات العصر في مختلف مجالات المعرفة والفكروالسياسة والاقتصاد خاصة “التقدم التكنولوجي المتسارع ،إضافة إلى استخدام وسائط رقمية للنشر على نطاق واسع على نحويجعل هذه النصوص تكتسب سمات الكتابة الالكترونية كما تظهر على اللوح الرقمي”  مما يقود إلى السؤال :
هل في هذا “ما يبرر مشروعية نهوضها كجنس أدبي مستقل ؟”  لكن المجتمع العربي برغم استهلاكه الكبير للتكنولوجيا في حياته اليومية يظل استعمالا”سطحيا” لا يتوغل إلى العمق لدرجة تحدث تغيرا في المفاهيم الأساسية .إن الحكم على القصة القصيرة جدا يحتاج إلى دراسات أخرى تتناول مراحل تاريخية لدى أجيال مختلفة تكشف عما يصيب “النموذج المعرفي”من تغيرات في المفاهيم والبنى المعرفية .
والظاهر حاليا ،عبر ملمح عام،هو تأثر القصة القصيرة جدا ــ كغيرها من الأنواع الأدبية والفنون البصرية ــ بمجموعة من اللحظات المتشظية والمتلاشية التي أصبح الزمن يتجلى بها ولم يعد حركة خطية تمتد من الماضي للمستقبل عبر الحاضر .ولابد هنا من الإشارة إلى كتابات نجيب محفوظ”أصداء السيرة الذاتية” التي لم يقصد من ورائها أن يخلق نوعا بغيره لكنها حملت الكثير مما نظر له نقاد القصة القصيرة جدا مثل : الاقتضاب اللغوي ،والايجاز اللفظي ،والتكثيف الدلالي المركز،ونقط الحذف .والحدث الضمني ،والحوار .أما الشخصية القناع فتحمل سمات معرفية وفلسفية تمسح العالم برؤية كلية عامة على عكس الكتابة الجديدة في القصة القصيرة جدا التي تتميز بالرؤية الجزئية المتشظية أو “المجهرية “.
كما يظهر في كتابات نجيب محفوظهذه ركن آخر من أركان القصة القصيرة والذي هو المفارقة أي مفاجأة المتلقي بنهاية غير متوقعة .وكتابات أخرى مثلها الكاتب الفلسطيني محمود شقير(منذ مطلع الستينات) نجد بها من أركان القصة القصيرة جدا خاصة قصة”سباحة” “سياق حلمي قابل للمفاجأة والادهاش ،وكسر التوقع ،كما يجمع بين التداخل الشعري والنثري مستفيدا من المجاز الشعري وخبرته الاستعارية ،وكل هذا من المقاربات النقدية للقصة القصيرة جدا .ولابد هنا من التأكيد على أن النص الحديث لم يعد “معنيا بتقديم اجتهادات أو إجابات على أسئلة الوجود الشائكة ،بل يكتفي المبدع بطرح الأسئلة المفتوحة على المجهول”  كما ظهرما يسمى بالنص الرقمي حيث اعتمدت النصوص على علاقات متعددة تعدت البعد اللفظي إلى الصوت والصورة .وقد تفتقد العلاقة بين السبب والمسبب والنتيجة ،وقد تجتمع الأضداد وتتصارع المتشابهات حسب ماعرفه الواقع العربي المعيش وما عرفه الفكر الإنساني من تحولات ساعدت القصة القصيرة جدا المبدع على القبض باللحظات الهامشية التي يفرغ من خلالها تفاعله وانفعاله مع الشواغل الآنية ، ويكشف بواسطتها عن علاقة الإنسان بواقعه اليومي
استفادت القصة القصيرة جدا من التقنيات البصرية ،حيث اقتحمها “اللعب التشكيلي والطباعي” ؛من ذلك “طريقة ترتيب سطور النص وترك فراغات غير مكتوبة بطريقة معينة تلفت النظر ” وكذا تجزيء الكلمات إلى حروف متتابعة أفقيا على السطر الواحد أو عبر سطور ….وتعتبر “علامات الترقيم ونقط الحذف” من أهم الحيل البصرية التي وظفتها القصة القصيرة جدا سيميائيا ،يلجأ إليها الكاتب لإبراز المعنى المراد. والواضح أن نقط الحذف أو”الفراغ النقطي” حقق للقصة القصيرة شروط التكثيف الدلالي ،والايجاز،والاقتضاب كشروط أساسية لهذا الفن السردي .تتجلى بلاغة الإضمار والصمت في السياق السردي المختزل الذي تزيده تكثيف نقط الحذف ،ليقدم رؤية للعالم من خلال الآني والجزئي والمجهري ،وليس المسح الكلي .
البلاغة السردية  للقصة القصيرة تتجلى في التعابير الجديدة غير المستهلكة التي تقدم معان مجازية ورمزية .والإيقاع السريع الناتج عن استخدام الجمل الفعلية القصيرة المحملة بالحركية .
يركز النقاد على العلامات اللغوية  الأساسية في القصة القصيرة جدا ،والتي تتمثل في العنوان والعبارة الاستهلالية (أو البداية) والخاتمة أو(القفلة) .
لعبة المفارقة تساعد على إنتاج المعنى بين المنتج والمتلقي حيث “تصبح دعوة لقراءة مابين السطور مما يقتضي من الكاتب توظيف مهارات لغوية ،إلى جانب حيل لفظية مساعدة ،تعطي للقارئ إشارات دالة لإعادة بناء المعاني المسكوت عنها في النص المقروء”

ــ د.صالح هويدي (العراق)
“القصة القصيرة جدا والخطاب النقدي المشوش”
تغلب الرؤية الايديولوجية على المثقفين العرب فتمنعهم من الانصات لبعضهم لتبين الصواب من الخطأ”وهو أمر مؤسف يعكس جزءا من طبيعة العقل العربي الراهن ،ويكشف جانبا من أسباب ما نحن فيه من تأخر ودوران لا انفكاك منه حول ذواتنا .”
مر وقت غير قليل عاى ظهورالقصة القصيرة جدا مما يفرض علينا وقفة متأنية متاملة بعيدة عن الذاتية .وستتخذ ورقتنا هده محورين :أحدهما الخطاب النقدي الذي تحمس للقصة القصيرة جدا ،والثاني النصوص الممثلة لهذا اللون السردي ،وسنتخذ نموذجا يجمع الاثنين ليسهل عملية الحوار وجني الفائدة المرجوة.
بالنسبة للمستوى الأول :نفرع فيه بين نوعين من النقاد :
الأول:  متحمس لهذا اللون السردي لدرجة إصدار أحكام حاسمة وقاطعة بدون رؤية .
الثاني: يمثله نقاد معتدلون ،متأنيون متوسلون بالمنهجية في مقاربة النصوص والابتعاد عن الأحكام القاطعة ،الفاصلة بين البحث والملاحظة المستمرة .
وعندما نبدأ بالنوع الأول سنجد أصحابه متميزون بأسلوب ذي نبرة “دراماتيكية” الهدف منها التأثير في القارئ محاولة منهم انقاد هذا اللون السردي من “عداء” طائفة النقاد الآخرين ،بأسلوب مشحون بكل تعابير العداء وكان المسألة حرب بين طائفة مرحبة بهذا اللون وأخرى رافضة له تماما ؛منهم د.حمداوي ود.حطيني .هذا الخطاب يستخدم مصطلحات غامضة غير دقيقة ومترددة نحو (أركان أم أسس) و(تقنيات قصصية أم عناصر قصصية )و(سمات القصة القصيرة جدا أم شروطها ) …و”المبالغة في التفريع والتقنين والتقعيد ،لما لا يتسع له هذا الفن ” لأن هذا اللون السردي هو ومضة تخطف لحظة ،وهم أثقلوا وأرهقوا جسدها بنحو (سمات خارجية وداخلية)،(شروط أساسية وأخرى تكميلية)…إصرارهم على أن الحبكة المعقدة هي ضرورية بالقصة القصيرة جدا على خلاف انفراد غيرها بالحبكة البسيطة (البدية خاطفة لبصر القارئ ،والنهاية سريعة وتنويرية حاسمة) “أو القول بأن المفارقة في هذا اللون السردي شرط لازم من شروطها ،وليس خيارا ،وسوى ذلك مما يهدف إلى تحويل هوية القصة القصيرة جدا إلى ما يشبه الكائن الهلامي أو قل الخرافي ”
ولابد من ضبط الدلالة اللغوية عندما ينعت الاستهلال القصصي في القصة القصيرة جدا بالخطف للبصر ،واختلافه عن الاستهلال بالقصة القصيرة .لأن الاستهلال أو البدية “في جميع ألوان السرد القصصي لابد من أن تكون أول ما تصادفه عين القارئ ،بغض النظر عن خطفها لبصره أو عدم خطفها” أما اعتماد الحبكة المعقدة فلا مبرر لوجوده بالقصة القصيرة جدا وإقصاء الحبكة البسيطة بهذا الشكل الحاسم .
لقد تجلى من هذا الخطاب المتحمس تنافر واختلاف وتضارب في الاراء بمعنى أن مؤيديه اختلفوا في (تحديد الأسس ،أوالمكونات الرئيسية للقصة من حيث نوعية وعدد المفردات )واختلفوا حول (تحديد العناصر ما بين أركان عند البعض الاخر تتحول إلى “محض تقنية لا تفقد القصة القصيرة جدا هويتها بدونه”).
وتعتبر كتابات كل من أحمد حسين ،ويوسف حطيني وجاسم خلف ،وجميل حمداوي ،وهيثم بهنام بردي ،وسعاد مسكين نموذج يؤكد “حقيقة أن ما يتفقون عليه هو أقل مما يختلفون فيه ويزيده تأكيدا اختلافهم حول تحديد عدد الكلمات والسطور والصفحات…
خلط المفاهيم:
وضعت الدراسات النقدية العالمية تصورا خاصا انظرية الأجناس الأدبية أهمه أن الجنس يضم النوع .مما يفضي إلى أن جنس السرد يجمع كل أنواع القص من رواية وقصة طويلة وقصة قصيرة ،وقصة قصيرة جدا .ويكون من باب “التحدي اللامنهجي ” أن يخلط بعض النقاد بين الجنس والنوع من حيث مفهوم الاستقلال .إذ نرى باحثين مثل أحمد الحسين ،ويوسف حطيني وجميل حمداوي اعتبروا القصة القيرة جدا جنسا أدبيا ،ف يحين لم تجرأ تنظيرات نقاد السرد سواء منهم (الأوروبيون أو الأمريكيون )أن تنعث “الرواية” بالجنس رغم سلطنتها على رؤوس اللوان السردية وبرغم كل نظريات السرد الحداثية التي أثيرت حولها .
وإذا اعتبرنا “النموذج” يوسف حطيني نجده في مواضع أخرى من كتابه تحدث عن القصة القصيرة جدا بأنها نوع قصصي وما يميزه عن القصة القصيرة هو عنصر “المفارقة” .ومع اعتراضنا على هذا التمييز لا يسعنا إلا الاعتراف بعنصر “المفارقة” كسمة ذات أهمية في الجنس السردي كافة، لكن عدم وجودها لاينفي انتساب النص للسرد كما يدعي حطيني بالنسبة للقصة القصيرة جدا .لأن هناك نصوصا حظيت بالاعتراف النقدي مع خلوها من عنصر “المفارقة” .
وللإشارة فلا حاجة للجمع بين “المفارقة ” كعنصر حاضر \غائب وبين “لحظة التنوير الكلاسيكية هده عنصر مفترض وقار ،ونقطة لابد من وصول السرد القصير إإليها ،لجلاء الموقف وانكشافه للمتلقي بغض النظر عن المفارقة .”  فلا يمكن إذن ربط “التنوير” ب”المفارقة” ،كما لايمكن ربط “المفارقة” بالنهايات المنفتحة على الدلالات .وعندما يستند د.حطيني على عنصر “التشابه” و”الاختلاف” فإنه يمتطيهما للتركيزعلى عنصر “الاستقلالية” ؛أي أنه لكي يؤكد على استقلالية القصة القصيرة جدا وانفرادها بجنسها يمر على بعض التشابه والاختلاف بينها وبين ألوان السرد الأخرى ،وهي نتيجة لا تتوافق منطقيا مع المقدمة التي يطرح فيها مفهوم “التشابه” خاصة “إذ التشابه بين الأشياء لا يقود إلى الاعتقاد باستقلالها وكونها جنسا قائما بذاته ! ” وحتى الاختلاف بين القصة القصيرة جدا والقصة لا يمنحها صفة الاستقلالية لدرجة “جنس أدبي ” بل “تظل شأن سواها من الفنون القصصية الأخرى (ومنها الرواية )نوعا قصصيا ضمن نظرية الجنس السردي المميز بين السمات الرئيسية والفرعية ،فليس كل اختلاف يقود إلى الاستقلال والقطيعة ،مادام ثمة اختلافات في الدرجة لاتصل إلى حد الاختلاف النوعي والتحول من الفرع إلى الأصل ،فما بالنا بالمتشابهات ؟”  .وقد ربط الباحث د.حطيني ظهور القصة القصيرة جدا بالعام 2000تزامنا مع الملتقيات المخصصة لها من جهة ومن جهة أخرى ربط الظهور أو الولادة لهذا اللون السردي بكتاب نقدي لأحمد حاسم الحسين .وهو بهذا الرأي يسدل الستار على مرحلة “تزيد عن ربع القرن ظهرت فيها نصوص ناضجة لهذا الفن القصصي”  في بلدان عربية متعددة على شكل نصوص منها ما جمع بين القصة القصيرة ومنها ما انفرد بالقصة القصيرة جدا ،ومنها ما صرح بالتسمية ومنها ما لم يصرح .ومما زاد الباحث توغلا في اللاواقعية هو فصله بين شكلين للقصة القصيرة داخل الوسط الثقافي العربي بشكل يوحي بالوقوف أمام صفين جامدين أو فريقين للكرة ،أو حزبين سياسيين بقوانين صارمة .وليس امام إبداع تلعب فيه اللغة وحدها دورا كبيرا “يصعب الوقوف فيها على حمولة دلالية دقيقة”  .
الصدور عن رؤية معيارية:
إن الخطاب النقدي المرافق للقصة القصيرة جدا مصيب في محاولته السعي إلى التنظير لكنه مع شروط الالتزام بقانون الموضوعية حتى لا يسقط في المبالغة واللامنطقية عندما يصف هذا اللون السردي ب”الفن الأكمل أو الأحدث أو الأكثر تعبيرا عن واقعنا ،أو القول بأنه جنس قائم بذاته وليس نوعا ينتمي إلى جنس السرد” . وفي بعض الأحيان يصل الأمر ببعض هؤلاء إلى ما يشبه “الوصاية على الإبداع والمبدعين”.
الانفصام بين النظرية والتطبيق :
هناك اختلاف كبير بين ما ينظرون لهوبين النماذج المختارة من النصوص التي يحاولون بواسطتها البرهنة على العناصر والمكونات التي يعتبرونها سمات بارزة وأركان لهذا اللون .إذ تفاجأنا اختياراتهم بابتعادها عما ينظرون له ،وفي بعض الأحيان ابتعاد هذه النصوص عن جنس السرد تماما.وقد يكتب أحد هؤلاء المنظرين نصوصا هي “نماذج بسيطة ،لا نرى فيها تلك اللغة الشعرية المميزة لهوية القصة القصيرة جدا أورمزيتها الموحية أو مفارقتها أفق توقع القارئ ، أو توفرها على حبكة قصصية محكمة ”   .
القصة القصيرة في مرآة الخطاب النقدي :
الحقيقة أن الخطاب النقدي المصاحب للقصة القصيرة والذي تميزبالتضارب الايديولوجي الذي نصب وجوده (مع وضد) هو الذي يعقد أمر مقاربة هذا اللون .مع أن الأمر لا يعدو أن يكون استقبالاعاديا لوليد جديد في ساحة الإبداع متفرعا عن جنس السرد الذي يضم الرواية والقصة قبله.ولاحاجة لتحديد طرف متحمس ومنظر لهذا الفن في مواجهة طرف آخر (متوقع) يحاربه ،ويمنع تواجده على ساحة الابداع .لأن من يقف أمام لون إبداعي جديد لن يكون سوى أحد من عرفهم التاريخ من محاربي التجديد والتطور .
وما القصة القصيرة جدا سوى لون سردي يقوم على نفس أسس وعناصر القصة القصيرة ،والاختلاف تحدثه “كيمياء الابداع” التي تميز كاتبا عن غيره بطريقة “توظيف التقنيات” و”نوع الحبكة” و”استخدام اللغة” بشكل يخدم الحدث السردي والمعنى الدلالي المطلوب ،وليس العناصر المجددة في التنظير الذي غالى كثيرا في الحسم بقواعد بعيدة عن الابداع وكميائه الذي “يمنح السرد القصير هويته المميزة ،من تكثيف قصصي واختزان للدلالة وحرص على تفجير المفارقة ”  . وهي عناصر لا تنتفي عن جنس السرد وإنما الفضاء السردي الضيق المساحة في القصة القصيرة جدا هوالذي فرض على هذه العناصر توظيفا خاصا داخل البنية القصصية .
وبما أن فضاء السرد القصير يحتم تكثيفا شديدا ،فإن هذا يجعل من المحتمل أن يلجأ المبدع إلى نوع قصصي آخر ” لأن الفنون الابداعية ،في جانب كبير منها ،هي استجابات لايقاع الحياة ومقتضيات الحاجة.”. وضيق الفضاء السردي القصصي ،يضيق حتى على النقاد فرصتهم في التحليل و”استغوار البنى والتشكلات والأحداث والفضاء السردي “.
المشهد  القصصي الاماراتي : الفن والمراكمة .
أ‌.عزت عمر (سوريا) :  القصة الاماراتية القصيرة ..الفن والتراكم .
عندما نتحدث عن حداثة القصة القصيرة في الإمارات فإننا نعني بذلك نشأتها المتأخرة ،لكنها استطاعت أن تختصر ما مر به الآخرون من تجارب وتستفيد منها لانطلاقتها . وكان العام 1971 الذي أعلن فيه عن “ميلاد دولة الاتحاد وتكوين المؤسسات السياسية والثقافية ” وهو يؤرخ لبداية السرد القصصي .لكن لا يمنع هذا التاريخ من احتمال وجود كتابات سابقة على هذا العهد. تشير بعض الدراسات إلى أن عبد الله صقر بقصته “قلوب لا ترحم” وضع لبنة هذا الفن .تضاف إليه نخبة من كتاب مثل :مريم جمعة فرج وشيخة الناجي وسلمى مطر سيف وناصر جبران وأمينة أبو شهاب وغيرهم . وقد حاول عبد الله صقر دخول تجربة الحداثة بمجموعته القصصية التي نشرت عام 1975 كإصدار خاص ،لكنها صودرت ومنعت من القراءة “وقد اعتقد بعض من وصلت إليه أنها قصص مترجمة من الأدب العالمي نظرا لتوجهات كاتبها وسعيه لتقديم نص يؤسس لقطيعة مع الكلاسيكية شكلا ومضمونا” .ورغم كل ما شاب المجموعة القصصية من هفوات فإنها تظل تجربة أبانت عن شجاعة الكاتب في اختراق النمط الكلاسيكي ومحاولة اللحاق بالابداعية العالمية “وعلى نحو خاص مجاراة مرحلة التمرد لدى الشباب العالمي في تلك الآونة ،والتي عبرت فيما عبرت عن جملة التحولات الاجتماعية والثقافية للحداثة فكريا وإبداعيا” .
وإذا اعتبرنا عبد الله صقر بمجموعته تسعى إلى “تفتيت زمان الاستبداد” فإن القاصة سلمى مصر سيف قد عالجت في مجموعتها هاجرمفهوم “اغتراب الشخصيات في المكان” و”الموت كحقيقة ملموسة تدفع عناصر الحياة إلى الضبابية “.وتأتي قفزة ما بعد الحداثة التي أنتجت إبداعا متفاعلا مع مستجدات الحياة كعالم الانترنيت المنفتح على ثقافات العالم ،إضافة إلى الكتب والصحافة الرقمية والتكوين الجامعي لفئة المبدعين والممتلكة للغات مختلفة .هذا كله قدم جيلا تفاعل مع ثقافات العالم مثل فاطمة الكعبي ،وروضة البلوشي ومريم الساعدي وفاطمة المزروعي .
ويمكن تسجيل بعض “طرائق السرد وفن الايصال ” على القصة القصيرة الاماراتية لما بعد الحداثة :
ـــ توظيف الزمان:
قلة الاعتماد على الزمن التصاعدي المألوف الذي استبدل “بالزمن النفسي وتقنية التداعي الحر” مما يجعل النص القصصي قابل للتفاعل مع ازمنة متعددة يتصدرها “الزمن الواقعي الذي تنطلق منه الأحداث ،وثانيها ما يمكن تسميته ب”أزمنة التداعي” التي لا تخضع للسيرورة التعاقبية وإنما أشبه بحركة حرة في أزمنة ماضية أو مستقبلية يفجرها الخيال ”
توظيف الفنتازيا والأسطورة لغايات فنية تجريبية ،ولغايات فكرية حالمة بعالم إنساني آخر .
البنية المشهدية :   هذه التقنية ظهرت عند كاتبات مثل ابتسام المعلا وفاطمة الكعبي ،وليلى البلوشي ومريم الساعدي نحو”لوحة زيتية” لفاطمة الكعبي ،حيث تمتلأ القصة بلقطات سينمائية حية .
تقنية الاسترجاع أو”الفلاش باك”
إنها تقنية مرتبطة بتوظيف الزمان في القصة القصيرة حيث يحيل على جزء من الحكاية يتصل بالأجزاء الأخرى ليكمل الحكاية .استخدمها الكتاب الاماراتيون للكشف عن الشخصية أو الحدث حيث تنطلق الشخصيات من ماضيها الخاص أو العام.
المونولوج:
هذه التقنية في القصة الاماراتية غالبا ما تستعمل في ترافق مع الاسترجاع لكنه يظل حوارا داخل السرد قد يعبر عن المستقبل أم الماضي …
د.نزهة الماموني – المغرب