اراء حرة ….
شوقية عروق منصور – فلسطين المحتلة …
كنت أتساءل كيف لعائلة تعيش وتنام وتأكل وتتزاوج وهي تعرف أن ابنها أو أبوها أو شقيقها أو أحد أقاربها ينام في جارور ثلاجة ينتظر المقايضة أو ينام في تربة تنتظر لفظه ، لأن تلك التربة لا تملك صفة العشق للجسد المتمرد ، بل تملك صفة محطات الطرد الجاهزة .
كنت اتساءل هل مساحة الصبر تكون بقدر مساحة الانتظار اليومي لعائلة تراقب عقارب الساعة وعقارب الاحتلال ووجوه السلطة التي تغلق دفاتر الجثث التي تقف في طابور الدفن المحترم ؟ هل صفقة الجثث مقابل الدفن ليلاً ومختصراً ، تكون صفقة الذل والحزن الذي يتكوم داخل القلب والزمن ، ويشير الى عطل في ساعة الوطن .
محكمة اسرائيلية أوصت قوات الأمن بتسليم جثامين فلسطينيين الى العائلات قبل حلول شهر رمضان ، ويؤكد رئيس المحكمة ” الياكيم روبنشتاين” أن المطلوب اخراج الجثث قبل 48 ساعة حتى لا تسلم مجمدة للأهالي ، موقف يفتح الجروح التي عبرت مناطق الوجع والبكاء واللطم والحزن المرتجف وجرعات اليأس .
في التاريخ هناك الصور العديدة التي تنمو فوق صفحات الاحتلال والاستعمار ، تسطر على الجدران ملامح الخوف والقتل والكبت والحصار والتجويع والسجون والزنازين والتعذيب ، وغيرها من لغة الظلم الاحتلالي ، لكن لم نسمع ونقرأ عن سجن الجثث ، وبقاء الجثث في خواء الزمن ، لم نسمع ونقرأ عن حبس جثث لسنوات طويلة ، حيث يُترجم العقاب الى ظاهرة فلسطينية تٌضاف الى سلسلة آلامه ، فالسلطات الاسرائيلية تُعاقب وتنتقم من العائلات التي يُقتل أبناؤها في عمليات فدائية ، تفرض عليهم الدوران في دائرة الموت الذي يبدو بقدر ما هو ملء السمع والبصر الا أنه ليس موجوداً بين أيديهم .
أوصى نتنياهو مؤخراً بعدم تسليم الجثامين وعدم دفنها ، يريد بقاء الجثث في الثلاجة ، حتى يرتفع ثمن المقايضة والمساومة ، لكن المحكمة تفرج عن الجثث بشروط ، الدفن ليلاً ، ولا يتجاوز عدد المشاركين في الجنازة عشرين أو ثلاثين شخصاً ، ودفع كفالة مالية نقدية تصل الى 50 الف شيكل حتى لا تخل العائلة بشروط الدفن ، في حال الاخلال تتم مصادرة المال .
قضية حجز الجثث قضية اسرائيلية احتلالية بامتياز منها مثلاً ، مقابر الأرقام ، التي تحتجز الجثث بالأرقام والاشارات والرموز ، وقد كشف مؤخراً عن أربع مقابر أرقام – سميت بمقابر الارقام بديلاً عن اسماء الشهداء لأنها تتخذ من الارقام عنواناً ولكل رقم ملفه الخاص تحتفظ به الجهة الأمنية المسؤولة – وهذه المقابر تحضن جثث الشهداء العرب والفلسطينيين.
من أشهر مقابر الأرقام المجاورة لجسر بنات يعقوب ، وتقع في منطقة عسكرية عند ملتقى الحدود الاسرائيلية – السورية اللبنانية ، وفيها ما يقارب 500 قبر لشهداء فلسطينيين ولبنانيين وغالبيتهم سقطوا في حرب 82 وما بعد ذلك .
هناك مقبرة أرقام تقع بين مدينة أريحا وجسر دامية في غور الأردن وهي محاطة بجدار وبوابة حديدية معلق عليها لافتة كتب عليها بالعبرية ” مقبرة لضحايا العدو ” ويوجد فيها أكثر من مائة قبر تحمل أرقاماً مثل الرقم 5003- 5107 ولا يعرف أحد هل هذه الارقام تسلسلية لقبور في مقابر أخرى .
وهناك مقبرة ” رفيديم ” التي تقع في القرية التعاونية ” كيبوتس ” رفيديم وقد أعلن سكرتير الكيبوتس على موقع المجموعة اليهودية والاسرائيلية وهو موقع يميني متطرف ، أن القرية التعاونية أقامت مقبرة خاصة لدفن الغرباء – الأعداء – وتم الاتفاق مع شركة لدفن الموتى ، ويتقاضى الكيبوتس من مؤسسة التأمين الوطني مبلغ 1000 دولار أمريكي عن كل جثة ، وبالطبع هذه تجارة مربحة أكثر من تجارة النسيج .
ومقبرة ” شحيطة ” التي تقع بالقرب من قرية وادي الحمام شمال مدينة طبريا ، وهي تضم جثامين معارك منطقة الأغوار بين عامي 1965-1975 ، وقد أعلن عدة مرات أن هذه الجثامين مدفونة في مدافن رملية قليلة العمق ، ما يعرضها للإنجراف فتظهر فيها الجثامين وتصبح عرضة لنهش الكلاب والذئاب .
قد تكون اسرائيل الدولة الوحيدة في العالم التي تفرض عقوبة الاحتفاظ في الجثة ، عقوبة رمي الأهل والعائلة في مدارات الحزن واللوعة ، تدفع العائلة الى العيش على حد جنون اللحظات المحشورة بإنتظار تنازل السيد الاحتلالي .
حين يطل من وسائل الاعلام الاسرائيلية ذلك التبجح الملفوف بمرآة الاحتلال ، وهذا التنازل بالسماح بتسليم الجثة ودفنها ليلاً ، أشعر أن عائلة الشهيد تعيش لحظات الحزن الممزوج بالخوف والترقب ، أتقاسم دوري معهم وأقف على تخوم أبجدية العجز والقهر ، واكتشف ان الشهيد الجثة يغمس غيابه في بركة دمه يومياً ، لعل هناك من يحترم أسمه .