إن لم تنل من عدوك فعلمه رقصتك..

اصدارات ونقد(:)
بقلم : بكر السباتين (:)
رواية ” مقاش” للروائية الفلسطينية سهام أبو عواد ينتظر قريباً صدور رواية”مقاش” في طبعتها العربية الثانية عن دار دجلة حيث صدرت طبعتها الأولى في ديسمبر ٢٠١٤ .. وهي الآن قيد الترجمة إلى اللغة الإنجليزية..
ورواية”مقاش” لم تستأثر باهتمام النقاد لكونها سيرة ذاتية لمناضلة ما زالت تحمل شعلة المقاومة في قلبها، بل لأنها تجاوزت شروط السيرة التقليدية من خلال بوح تجاوزت فيه الحقيقةُ المرةُ الخيالَ.. لتنضج على ناره الهادئة تفاصيل الوجع الفلسطيني.
إذْ يتسلل الراوي إلى ذاكرة الكاتبة سهام فيبوح بتفاصيلها، مفتضحاً بذلك ما يمارسه العدو الصهيوني من انتهاكات يومية، بأدق التفاصيل المغيبة في عالم لا يكترث بالحقيقة.. علّ ضميره يلتقط ذلك الأنين المنبعث على سجيته، من قلب تلك المناضلة وهي تقاوم الظروف الصعبة، بعد أن تخلت عن طفولتها؛ لكي ترعى طفلين في عمر الزهور.. هما شقيق وشقيقة، وذلك بعد استشهاد أمها السجينة .. التي حظيت بلقاء ابنها الشهيد في سماء يظللها القادر على كل جبار..
إذْ يتجاوز هذا النص المدهش ملامح السيرة الذاتية مستحوذاً على مكانته كرواية وافية الشروط، من حيث الحدث الذي يجري كالنهر ليصب في وعي المتلقي، والمكان الذي تمثل بفلسطين وسجونها، في زمن الانتفاضة، ليأخذنا الحوار بمستوياته الخارجية والجوّانية إلى لغة البوح المشحونة بعاطفة الكاتبة والمليئة بالصور الفنية في تمازج مذهل بين الجمل الخبرية والنصوص الشعرية.. الرواية تستحق الاهتمام لأنها تحرض زهرة النور على إضاءة النهار الفلسطيني..وتصرخ في وجه المعتدي لكنها لا ترفض الآخر..
ربما لا تتأمل الضحية في هذه الرواية دحر المعتدي؛ لكنها ستعلمه الرقص على طريقتها.. ليدرك كيف يكون الخوف وهو يلتهم الأمان في رأس المتجبر الذي سينهار كبرياؤه إذا ما باغته الألم..
لذلك تكابد البطلة مشقة الانبعاث من جديد لتوقد المشاعل في الصمت البهيم.
إنها ذات الكاتبة، سهام، التي طوعت النص ليلتقط أنينها المشبع بذاكرة السجون المغيبة عن النهار.. فيما يتربص الموت بالصامدين وقد احتفظوا ببقية ما لديهم من وعي ليستنطقوا الضمير الإنساني متسائلين:
“هل جرّبتَ يوماً أن تبتلعَ صوتَ همهمة الريح القادم من كل الاتجاهات، ذلك الصوت الذي يحمل الدنيا معه… ليصير َ في لحظةٍ نبرة ألمك!
هل جرّبت ارتداءَ جلدِ الأسير المتعفّن في غياهب الزنزانة… ولا صديق له سوى القوارض!”
لكن سعاد تعصف العقل العربي كي تستنهض همته الخائرة، فترش الملح على الجراح متسائلة في ذات السياق:
“هل أدمتك رصاصة عاثت بقلب أخيكَ… فقتلتك!”
هل وقفت يوماً على حاجز يفصل بينك وبين من تحب… ثم عدتَّ أدراجكَ، وعينك خالية الوفاض ولو من نظرة عابرة؟!”
فتصرخ في وجه الريح، منبهة إلى ما سيفعل دم الشهيد، وقد ملأ المحابر بطاقة الانبعاث مع الفجر، حين تتلاقى في سمائه الأرواح المبذولة، من أجل نصر يعززه الدعاء:
“هل جرّبت أن تكتب ألمك بقلم مداده… دمُك؟”
“نعم… أنا فعلت!
لذا… إن لم تنل من عدوِّكَ اليومَ؛ فعلى الأقل علمه رقصَتك”.
وهذا البوح ليس استجداءً لعطف الضمير الإنساني المغيب في بهيم الرياء، بل جاء ليحرر القلوب الواجفة من الخوف.. فيلسع الضمائر الميتة بلظى الحقيقة المرة.. نصوص هذه الرواية يعربد في طياتها الغضب رغم الدموع التي جفت في عيني البطلة سهام، وهي تستعيد طاقة البقاء، من خلال ما كتبته في سياق نضالها الطويل.. مستذكرة أرواح الشهداء؛ كي تبعث فينا طاقة المقاومة من أجل البقاء.. حتى أنها أعادت والدتها من أسر الغياب الأبدي؛ ليستقر قلبها الشفوق في حشايا أمهات صامدات ما فتئن يواجهن الريح القادمة من كل الجهات.. فحكاية سهام صاحبة البطولة المطلقة في هذا المشهد الفلسطيني الغائب الحاضر، تختزل الصمود الفلسطيني الذي واجه مصيره وحيداً في قلب العاصفة، فلا ترى البطلة نهاية لألمها إلا بتحرير وطنها السليب من الغزاة الجاثمين عليه.. فتستعين بقلمها كي تعلم عدوها الرقص على الورق المرصع بالحرية، لتسجل إرهاصات ولادة “مقاش”علّها تظفر من ضمائرنا ولو برفّة عين..
الرسالة وصلت.. والنص شكلاً ومضموناً يستحق التقدير