رسالة الفكر في زمن العدوان- بقلم : د . مجدي ابراهيم

دراسات …..
بقلم : د. مجدي إبراهيم – مصر ….
للتاريخ ضميرٌ لا ينسى النكبات. والإنسانُ هو التاريخ. الإنسانُ هو الذي يخلق الحدث. الإنسانُ هو الذي يجري عليه الحدث، وبمجموعة الأحداث المخلوقة والأحداث الجارية، يتكوَّن التاريخ؛ فلن ينفصل الإنسان عن تاريخه، ولن ينفصل التاريخ مطلقاً عن الإنسان. الإنسانُ هو التاريخ، كلاهما ذاكرة الآخر، وكلاهما ضميرُ الآخر؛ فإذا نسى الإنسان أحداثه التي صنعها بنفسه مخلوقة أو جارية، قام فيه “التاريخ” مقام الضمير بوخزاته اللاذعة؛ ليتصل من فوره بتاريخه. وإذا نسىَ التاريخ نكبات الإنسان قامت فيه “ذاكرته” حيَّة، يقظة، نشيطة، واعية، تعودُ به على بدء, لكأنها “لحظة” حصول الحدث حاضرة غير غفلانة ولا سَهْيَانة.
فما وقع بالأمس البعيد حاضرُ فيها وقريب. اللحظة التي كانت في الماضي الغائر السحيق لكأنها في الذاكرة وقعت اليوم ..!
هذه عظمة التاريخ التي هى في الوقت نفسه عظمة الإنسان المحدود.
* * *
ومن نكبات الإنسان العربي التي تحفظها ذاكرة التاريخ خبرُ كانت القنوات الفضائية بثته منذ سنوات يقول :” إن أمريكا أثناء احتلالها للعراق الشقيق استخدمت في الفالوجة الأسلحة المحرمة دولياً “، فضلاً عما كانت طالعتنا به وسائل الإعلام يومها بخبر مُرعب جاءت به جريدة الصنداى تايمز اللندنية وبالتحديد يوم 10 مارس 1998م؛ إذْ قالت الصحيفة تحت عنوان “مفاجأة عظيمة” :” إنّ القوات المسلحة الإسرائيلية قد زودت بأحدث أسلحة الدمار الشامل الكيميائية والبيولوجية، وإن طائرات سلاح الجو الإسرائيلي من طراز (F 16) تَمَّ تعديلها بحيث تحمل أسلحة كيمائية وبيولوجية، وأن طاقم سلاح الجو يتدرَّب الآن على استخدام تلك الأسلحة استعداداً للمواجهات المسلحة المحتملة ضد جيرانها العرب. وفي إطار استكمال إسرائيل جميع أنواع أسلحة الدمار الشامل وامتلاكها لعدد من القنابل النووية ومخزون استراتيجي هائل من المواد الكيمائية القاتلة والمواد البيولوجية الفتاكة، أضافت الصحيفة الإنجليزية تفاصيل هذا الخبر فأشارت إلى تركيز إسرائيل على استخدام الإيرسول البيولوجي، وهو مُعَلّق من خلايا ميكروبية، لتلويث الأرض والهواء، ولقد أنشأت لذلك معملاً للأمصال واللقاحات في منطقة “نيس زيزنا”، وهى ضاحية تقع جنوبي تل أبيب، ويتم في هذا المعمل عمل أبحاث مستمرة على إنتاج الفيروسات الممْرضة للإنسان وعلى استخدام العبوات ذاتية الدفع، وقذائف راجمات الصواريخ المحملة بالمواد البيولوجية الفتاكة فيتلوث الهواء بها ويؤدي استنشاقه إلى العدوى. هذا الخبر لا شك كان يومها مزعجاً بكل معاني الإزعاج، مقلقاً بشتى ألوان القلق التي تستولي على النفس البشرية، ناهيك عن النفوس العربية، وله دلالات قوية ومباشرة في فقدان القدرة مطلقاً بين الأمم والشعوب على تحقيق ما يُسمى اصطلاحاً في أدبيات العلوم السياسية بــ “التعايش السّلمي”؛ ولو بأدنى درجة ممكنة تتحقق من خلالها فُسْحَة ضئيلة لآمال السلام.
لم يكن انزعاجُنا وقتها لهذا الخبر يستولي على ضمائرنا حتى ليكادُ يتلفها إلا لأن له دوراً في “غيبة القيم” من حياة الإنسان بوجه عام، بمقدار ما يكون له الدور نفسه في البحث الصادق الأمين عن جذور العلاقة الوطيدة بين العلم والأخلاق؛ فكأنّ الذي يجنيه الناس من تطبيق الإنجازات العلميّة هو الفتك بالناس أنفسهم، وانقيادهم إلى الهَلَاك المُحقَّق من أسرع طريق.
وتدورُ الأيام دورتها العصيبة على الضمير العربي؛ لتفجئنا بأحداثها الدامية؛ ففي أثناء الحرب على غزة، وبالتحديد في شهر يناير (1) من 2009م تتوالى النكبات التي لا ينساها التاريخ، فإذا بإسرائيل تستخدم قنابل “الدايم” ضد الأشخاص الأبرياء العُزَّل المدنيين؛ لتصيب منهم الأطراف السفلى بالشلل التام والتدمير الكلي. في الوقت الذي استخدمت فيه قنابل “الفسفور الأبيض”؛ القابل للاشتعال ذاتياً، وهى قنابل كما يعلم الجميع محرَّمة دولياً. وفي هذا وحدة كفاية الدلالة على البطش الوحشي المجرد عن القيم والأخلاق، غير الآدمي، وعلى القوة الغشومة التي استخدمتها إسرائيل ولا زالت تستخدمها ضد الفلسطينيين في غير حُرْمَة آدمية أو أخلاق للعلم والتكنولوجيا ..!
لكأنما العلم هنا لم يعد بمستطاعه أن يرشدنا إلى حقيقة القيم الخُلقية, وأن التفوق العلمي بإنجازاته المهولة يسير في طريق مجنون بمعزل عن القيم والأخلاق، وليس في إمكان العلم أن يهدينا إلى ما ينبغي أن تكون عليه “القيم” نبيلة، وفاعلة، وإنسانية. في مقابل جمع المال والتغول الاقتصادي يجوز ما ليس بجائر في العقول والضمائر من امتصاص الدماء وشرْعَنة الإرهاب وقتل الإنسانية وحصد الأرواح.
وعليه؛ فمن الصدق أن نردد القول القديم بوجوب ألا نطلب من العلم ما لا يسوَّغ له أن يعطينا؛ إذْ العلم لا يعطينا الفضيلة الباقية، ولا يجعلنا أوفر سعادة وهناءة ولا أكثر حكمة ورشاداً, بل يقود القوي لا محالة إلى تدمير الضعيف، ويبعثُ في العقول الرشيدة خشية الفتك بالإنسانية تحت لمسة زرِّ صغير تتفجَّر من خلاله قوى عنيفة تقضي على جماعات وشعوب بأسرها. واليوم ماذا ترى؟
العالم كله تغتاله حرب بيولوجية عنيفة من جرّاء الأطماع المتوحشة وصرعات الدول الرأسمالية الكبرى .. خراب مؤكد لا شك فيه، هو ثمرة السياسات المتصارعة ونتيجة التكنيز الاقتصادي المهول.
لفت نظري تحليل الفيلسوف اللغوي المعاصر، والناشط السياسي المخضرم “نعوم تشومسكي” في مقاله بعنوان :” كورونا (Coved 19) إعادة البناء عبر التدمير”، وهو تحليل أقرب إلى الصواب منه إلى التطرف في الآراء. قدّم في هذا المقال حسب المجلة الرقمية “لانسورجي”، وهى مجلة مختصة بدراسة الحروب والأوبئة، قدّم ما يقرب من عشرة نقاط تفسراً لما يجرى في العالم الآن، سأذكر منها ست نقاط ونتابع بقيتها في المقالات القادمة. كان ممّا ذكره في النقطة الأولى أن الولايات المتحدة الأمريكية أرادت تأخير التقدم الحاصل في الصين، بهدف ألا تفقد سيادتها الاقتصادية العالمية وتحفظ بالتالي دورها المتقدّم في العالم. وثانياً : توافقت بعض القوى العالمية (وكالة المخابرات الأمريكية cIA) ومجموعة (ببلدبيرغ Group Bilderberg) وإسرائيل على الانخراط في حرب جرثوميّة (بكتيريولوجية bacteroloigigue) منخفضة الحدّ، وغير قاسية، بنشر الفيروس المختبري (covid 19) في المجال الجغرافي الصيني. وبما أن الفيروس المُوجّه ليس موجهاً بشكل مباشر للأطفال والشباب (اليد العاملة المستقبلية) ولكنه يهاجم بشراسة الأشخاص المتقدّمين في السن (اليد العاملة التي استنفذت)؛ فالحرب حرب منخفضة الحِدَّة.
وتأتي النقطة الثالثة : لتقوم فيها الولايات المتحدة الأمريكية على نشر الفيروس بالمدينة الصينة ووهان، حيث يتواجد فيها مخبر للأبحاث البكتيريولوجية حول الكورونا فيروس، وسارس فيروس، إيبولا، وبالتالي؛ تبقى أمريكا الورقة الرابحة، والحجة أمامها لاتهام الحكومة الصينية بفرضية وقوع حادث عرضي بالمختبر أدى إلى تفشي الفيروس. وبهذا تكون الولايات المتحدة قد أبعدت الشبهات عنها.
أما النقطة الرابعة التي تحدث فيها “نعوم تشومسكي”، فهى قيام استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية على نشر الفيروس في سياق زمني مناسب لخلق أزمة حادة بالصين؛ إذ كان شهر يناير الموافق للسنة الصينية الجديدة لإثارة فوضي شاملة بالصين بسبب الفيروس الجديد. في تلك اللحظة ملايين الأشخاص تنقلوا وأثروا بشكل راديكالي على جميع القطاعات المُشَكّلة لنسيج المجتمع الصيني.
ولم يكن التدبير الأول (خامساً) ضمن استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية بمعزلٍ عن إيذاء واحراج إدارة ترامب في أمريكا. وأمّا النقطة السادسة، فالبلد الذي استهدف بشكل رئيسي بعد الصين هو إيران، فقد تم إطلاق الفيروس المميت في هذا البلد من أجل شَلّ اقتصاده بشكل تام أيضاً؛ ليتأزم المجتمع من ناحية، ومن ناحية أخرى للحدّ من دور القوة العسكرية المحتملة التي تتخذها هذه الدولة بخاصةٍ ضد إسرائيل، إذ تشكل إيران خطراً عسكرياً كما هو معرو ف على إسرائيل. وأمّا العدو الآخر فهو أوربا التي لا تزال معارضة لترامب بسبب تضخم أرباحه الاقتصادية. تاريخياً؛ لم يكن غريباً على الإدارة الأمريكية أن تفعل هذا، وأكثر منه لو استطاعت، تماماً كما لم يكن ببعيد أيضاً على إسرائيل أن تستخدم هذا السلاح البيولوجي وتوافق أمريكا على استخدامه من أجل سياسة القتل والترويع وكنز الأموال.
لا شك يكشف مقال “نعوم تشومسكي” عن صراع الاقتصاد السياسي في محيط لعبة سياسية قذرة، واستغلال كشوفات العلم أسوأ استغلال، ويظهر العلاقة المركبة بين العلمي والسياسي الاقتصادي في تدمير البشر لإعادة بناء القوى الكبرى وفق ترقيع أبنيتها الاقتصادية باستخدام الحروب البيولوجية وقتل الإنسان في كل مكان.
(وللحديث بقية)

بقلم : د. مجدي إبراهيم