لا وجود لمؤسسات ” الصالحين ” في الإسلام!! بقلم : عبد الوهاب القرش

دراسات ….
بقلم : عبد الوهاب القرش – مصر …
في كل الأديان المنحرفة والموضوعة التي ظهرت على مدى تاريخ الإنسانية كان هناك دائماً مؤسسة دينية تراتبية، يقوم على رأسها رجال دين يصوغون المبادئ والعقائد وطرق العبادة وتفاصيل الحياة اليومية، ويسيطرون على عقول وقلوب وجيوب الناس بطرق مختلفة، وبالتحالف مع السلطة التي تتبادل معهم الاعتراف بما يضمن الاشتراك في المنفعة بالتسلط على العباد.
إن وجود مؤسسة دينية بهذا المعنى مستحيل في الإسلام، لأن نصوص هذا الدين -التي تكفل الله بحفظها من التحريف- لا تجيز وجود هذه المؤسسة، فقد أخبرنا الرسول صلى اله عليه وسلم بأنه لا كهنوت ولا رهبانية في الأمة الإسلامية ، وهو أمر يعتبره القرآن بأنه اتخاذ العباد أرباباً من دون الله يقول تعالى:{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}(آل عمران:31).. وبالرغم من محاولات الكثير من المذاهب ابتكار هذه المؤسسة بكل ما تستلزمه من مراتب وشعائر ترسيم ومبايعة وتوريث فإنها لم تنجح إلا بين أتباعها فقط، ولم تستطع احتكار الإسلام نفسه لأن النصوص المحفوظة والمعلنة والتي لا يستطيع أحد احتكارها تفضح هذه المحاولات.
إن الإسلام لا يعترف إلا بشرعية العلم الذي يُكتسب بالطلب المتاح لكل صاحب همة، وليس بالوراثة ولا بالمال ولا بالبيعة. وهو علم يتصل بالسند المضبوط بقواعد الرواية عن مصدره الوحيد وهو النبي المرسل صلى الله عليه وسلم، ويُجتهد فيه بالرأي المنضبط أيضًا بقواعد مستنبطة من فقه القرون الثلاثة الأولى التي شهد لها النبي المعصوم بالالتزام بالسنة.
إن الذين تعلموا الإسلام مصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة كانوا غير قادرين على تقبل ظهور ” مؤسسة الصالحين ” في الدين والتي تقتضي أن يبدأ الناس في التعاقب على مناصب القيادة الدينية مثلما يتعاقب الناس على العروش وكراسي الحكم ..إن الصحابة الكرام لم يكونوا يعترفون بشيء للهداية ما عدا كتاب الله وسنة رسوله..وكانوا ينتقدون عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما ينتقدون أي إنسان آخر..ولم يكونوا يتقبلون برأي الخليفة احترامًا لذاته بل حين يكون قد أثبت دعواه بالبرهان الصادق..اشتكى الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى القاضي ” شريح ” من يهودي بشأن الدرع وجاء بعبده ” قنبر ” وولده الحسين شاهدين له ، فلم يقبل شريح شهادة الحسين وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة ” ، قال:” لا ، ولكن حفظت عنك أنه لا تجوز شهادة الولد على والده “. وقد كان تصور الصحابة عن اقتداء البشر أن يُقتدى بمن مات بدلاً من اتخاذ الأحياء ” شيوخاً للقدوة ” لأن أحداً من الأحياء ليس معصوماً عن الأخطاء ، فيمكن لكل البشر ، ما عدا الأنبياء ، أن يقعوا في الفتنة في وقت من الأوقات ..و قد قال بن مسعود رضي الله عنه:” من كان مستناً فليستن بمن مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة “.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:” إياكم والاستنان بالرجال ، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار. وإن الرجل يعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة ، فإن كنتم لابد فاعلين فبالأموات ، لا بالأحياء “.
لذا عندما حاول الخليفة أبو جعفر المنصور –وكان هو السلطان الوحيد لكل مسلمي الأرض حينئذ- أن يجبر القضاة والولاة على الالتزام بكتاب واحد هو موطأ مالك، رفض المؤلف نفسه رحمه الله وقال: ” إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها”. وحتى عندما اكتمل جمع الأحاديث في قرون لاحقة لم يكن ممكناً حمل الناس على مذهب واحد، حتى لو وُجد من العلماء من يرغب بالتسلط، لأن هناك علماء آخرين لديهم من العلم ما لديه ولا يستطيع أي سلطان أن يطمس ذلك العلم ويحرّفه ليجبر الناس على الالتزام بما يقوله عالم ما يتربع على رأس مؤسسة دينية.
كذلك لم يتسيد أي عالم مهما علا شأنه على الأمة كلها، فكان هناك إمام السنة ابن حنبل وحجة الإسلام الغزالي وشيخ الإسلام ابن تيمية وفيلسوف الإسلام ابن رشد، ولكن لم يتمكن أنصار أي منهم أن يؤسسوا لهم مؤسسة دينية، مع أن كل واحد من هؤلاء وجد من يناصره من السلاطين، ولكنهم جميعًا تعرضوا أيضًا للاضطهاد السياسي في فترات أخرى، كما أن المسلمين لم يجتمعوا على سلطان واحد إلا في سنوات قليلة من عصر الخلافة الراشدة والأموية وبداية العباسية، بينما كان البابا يسيطر على كل ملوك أوروبا الذين يتنابزون بينهم سياسيًّا ويعودون في النهاية لاكتساب الشرعية من مؤسسة دينية واحدة.
إن مؤسسة ” الصالحين ” ، التي ظهرت في الأمة الإسلامية في العصور المتأخرة ، لا تقوم على برهان أو سلطان من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم..إن شيئاً من هذا النوع غريب على هيكل الإسلام..إنها تقليد ومحاكاة للأنظمة السائدة لدى الأمم الأخرى كمؤسسة الكهنوت والرهبانية التي تسللت إلى الإسلام متخفية في رداء المصطلحات الإسلامية ..إن شيئاً من هذا النوع سوف يستمر في الإسلام ما دامت “حكايات” و “مكتوبات” وتكهنات “مؤسسة الصالحين” الخرافية هي منبع الدين دون كتاب الله وسنة نبية صلى الله عليه وسلم..وفي اللحظة التي يصبح فيها كتاب الله وسنة نبيبه منبع الدين ومرجعه ستختفي هذه المعتقدات كأن لم يكن لها من وجود!!
***
المراجع:
المتقي الهندي :كنز الأعمال، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1401هـ/1981م.
ابن عبد البر:جامع بيان العلم وفضله، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية: 1414هـ – 1994م.
عبدالباري الندوي :بين التصوف والحياة ، دمشق :1962م.