شؤون صغيرة (ميكانيكا شعبية) قصة ريموند كارفر – ترجمة نور محمد يوسف – سوريا

القصة ….
دراسة نقدية كرم محمد يوسف
مراجعة محمد عبد الكريم يوسف
في وقت مبكر من ذلك اليوم ، تغير الطقس وبدأت الثلوج في الذوبان في المياه القذرة. كانت خيوطه تهبط من النافذة الصغيرة العالية التي تطل على الفناء الخلفي. كانت السيارات تزدحم بالشارع في الخارج ، و الظلام بدأ يحلّ . ولكن كان الظلام يحل في الداخل أيضًا.
كان في غرفة النوم وهو يحشو الملابس في حقيبة عندما جاءت إلى الباب.
أنا سعيدة لأنك ترحل! أنا سعيدة لأنك ترحل! قالت. هل تسمعني؟
تابع وضع الأشياء داخل الحقيبة.
يا ابن الكلب ! أنا سعيدة للغاية لأنك ترحل! ثم بدأت في البكاء. لا تستطيع حتى أن تنظر في وجهي ، أليس كذلك؟
ثم لاحظت صورة الطفل على السرير والتقطتها.
نظر إليها وهي تمسح دموع عينيها وتحدق به قبل أن تعود وتذهب إلى غرفة المعيشة.
قال لها : أعيدي لي تلك الصورة.
أجابته قائلة :  فقط خذ الأشياء الخاصة بك واخرج من هنا.
لم يجبها. أقفل الحقيبة وارتدى معطفه  ثم نظر في أرجاء غرفة النوم قبل أن يطفئ النور و خرج إلى غرفة المعيشة.
وقفت في الممر المؤدي إلى المطبخ الصغير ، ممسكة بالطفل.
قال لها : أريد الطفل .
أجابته قائلة  : هل أنت مجنون؟
لا لست مجنونا  ، لكنني أريد الطفل. سأطلب من شخص أن يأتي ليأخذ أشياءه.
أجابته قائلة:  إنك لن تلمس هذا الطفل. بدأ الطفل في البكاء فأزاحت البطانية من حول رأسه.
قالت وهي تنظر للطفل : أوه .
تحرك باتجاهها.
قالت له : كرمى لله . ثم رجعت خطوة إلى الوراء داخل المطبخ.
أريد الطفل.
اخرج من هنا!
استدارت وحاولت أن تضع الطفل في زاوية خلف الموقد.
لكنه تقدم ووصل إلى الزاوية خلف الموقد وشد الطفل بيديه بقوة.
قال لها : أبعدي يديك عنه .
أجابته باكية :  ابتعد عنه ! ابتعد عنه !
بدأ الطفل الذي احمرّ وجهه بالصراخ . وخلال الشجار أوقعا أصيص الزهور المعلق خلف الموقد . حشرها على الحائط  محاولا فك قبضتها عن الطفل. ثم أمسك الطفل بقبضته وشده بأقصى ما يستطيع .
قال لها :  ابتعدي عنه .
أجابته قائلة : لا . أنت تؤذي الطفل .
قال لها :  أنا لا أؤذي الطفل.
لم يدخل نافذة المطبخ أي ضوء.  وكان وسط العتمة يحاول بيد واحدة أن يفك يديها القابضتين بينما يمسك الطفل الذي يصرخ باليد الأخرى تحت ذراعه ناحية الكتف.
شعرت أن أصابعها بدأت تُجْبَرُ أن تفتح . وشعرت أن الطفل يذهب منها .
صرخت وهي ترخي يديها : لا!
قالت إنها سوف تحصل عليه ، على الطفل .أمسكت بزراع الطفل الأخرى . أمسكت الطفل من معصمه وانحنت متكئة نحو الوراء .
لكنه لم يستسلم . شعر أن الطفل ينزلق من يديه فسحبه نحو الخلف بقوة شديدة .
وحسمت المسألة بهذه الطريقة .

دراسة نقدية
بقلم كرم محمد يوسف
ظهرت قصة ” شؤون صغيرة ” لأول مرة تحت اسم أخر هو ” ميكانيكا شعبية ” في مجلة ” بلي غرل” في عام 1978 . وقد ضمنها الأديب ريموند كارفر في مجموعته القصصية ” ما نتحدث عنه نتحدث عنه بحب ”  التي نشرت في عام 1981 ثم ظهرت مرة أخرى في مجموعة ” من أين أنادي” التي نشرت عام 1988 تحت عنوان جديد مختلف هو ” شؤون صغيرة “.
تصف القصة حالة جدال بين رجل وامرأة تتطور إلى نزاع بالأيدي حول طفلهما.
معنى العنوان ” ميكانيكا شعبية ” :
يشير عنوان القصة إلى مجلة شعبية عريقة تهتم بالعلم والتكنولوجيا والشؤون الهندسية في الولايات المتحدة اسمها ” ميكانيكا شعبية ”
معنى العنوان ” شؤون صغيرة” :
يشير إلى حالات الخلاف بين الرجل والمرأة في بيت الزوجية والتي قد تتطور أحيانا لتصبح مشكلة تؤثر على الأطفال وتهددهم وتهدد وجودهم ومستقبلهم .
المشكلات بين الأزواج كثيرة ومنتشرة ويمكن معالجتها بطرق شتى وبالوسائل الراقية الودية ، لكن الصبغة العامة لهذه المشكلات هي اللجوء إلى العنف والإهانة والتحقير . يشدد الكاتب على أن الأساليب البدائية في حل المشكلات هي الأكثر شعبية وانتشارا بين الناس . كما نلاحظ من القصة أن الكاتب لم يطلق اسما على الرجل أو المرأة أو الطفل للدلالة على أن هذه المشكلة هي مشكلة الإنسان في كل زمان ومكان .
يبدو أن الكاتب استخدم عبارة ” ميكانيكا ” عندما نشر القصة للمرة الأولى للدلالة على الرفض وعدم التوافق والإشارة إلى أن العلاقات الإنسانية في الحياة المعاصرة تحولت إلى ما يشبه المسننات التي تعمل في الآلات الصناعية من دون عواطف وهي تدور لأنها مبرمجة لتدور  . لقد أراد ريموند أن يوصل للقارئ مقدارا من الألم والشعور بالبؤس من الحياة التي يعيشها الإنسان في تفاصيل حياته. واستخدم عبارة “شؤون” عندما نشر القصة للمرة الثانية ليوصل للقارئ رسالة أمل بأن التغيير والعودة للأصول والحب هو السبيل للتخلص من جمود الحياة العصرية . العبارتان “ميكانيكا ” و”شؤون ” كلمتان لهما من الدلالة ما يكفي لنجد الجواب في السطر الأخير من القصة : “وحسمت المسألة بهذه الطريقة” .
لم يخبرنا الكاتب بوضوح ماذا جرى للطفل أو ما هو مصيره بعد هذا العراك .        لا ندري إن كان أحد الوالدين نجح في الاستحواذ على الطفل ماسكا إياه من معصمه . كلمة ” المعصم ” لها دلالتها لأنها نقطة ضعف في الجسد البشري . ونجد في موضع سابق دلالات تشير إلى ما قد يجري للطفل من خلال تحطم أصيص الزهر . فهل سيتحطم الطفل مثله . المعارك العائلية بين الأب والأم تحطم الأطفال ماديا ومعنويا وتمحو الثقة وتزرع في نفوسهم عُقدا قد تنتقل للأجيال القادمة . هل هناك أخطر من أن يكون الطفل ضحية لوالدية كل منهما يشده من طرف ؟.
إن تصرفات الوالدين لم تستطيع تجنيب الطفل الأذى ، وإذا كانت المسألة قد “حُسمت” فهذا يعني أن الصراع قد انتهى . وهذا يعطينا إشارات واستنتاجات على أن الطفل قد قتل في العراك بين الأبوين .
إن استخدام صيغة المبني للمجهول في نهاية  القصة مثير للرعب . لماذا؟ لأن الكاتب فشل في تحميل مسؤولية ما حدث للطفل لأحد الوالدين . فالكلمات المستعملة “الطريقة ” و” المسألة” و ” حُسمت ” تحمل في طياتها سلوكا إجراميا جنائيا حول ميكانيكا الوضع الحاصل أكثر من الأشخاص المتورطين بالعمل أنفسهم .
لكن ، وفي كل الأحول ، لن يستطيع القارئ أن يتجنب ملاحظة الميكانيا التي استخدمها الكاتب في قصته الجميلة . القراء الحقيقيون سيتألمون كثيرا من نهاية القصة المحزنة واللغة المستخدمة فيها .  كلمة “المسألة” مرادفة لكلمة “الناشئة” نظرا لأن الميكانيا التي استخدمها الوالدان هي من قرر و”حسم ” مصير الطفل .
شؤون صغيرة وحكمة سليمان
هناك قصة جميلة في سفر الملوك في التوراة تروي قصة سليمان الحكيم مع امرأتين تدعي كل منهما أن الطفل لها . وفي القصة نجد حلا حكيما للمشكلة عندما يقترح سليمان أنه سيقوم بقطع الطفل إلى نصفين تأخذ كل واحدة منهما نصف الطفل وبالتالي يحسم الخلاف بين المرأتين . هنا توافق المرأة المزيفة على الفور أما المرأة الحقيقية فتخاف على الطفل وتعرض أن تتخلى عنه حفاظا على حياته . وهنا يعرف الملك سليمان المرأة الحقيقية من المرأة المزيفة ويعيد الطفل لأمه .
في قصة “شؤون صغيرة ” لا نجد ثقافة الايثار لدى أي من الوالدين المحكومين بالأنانية المطلقة . في بداية القصة نجد أن الوالد يريد أن يأخذ معه صورة الطفل ولكن الأم تريد الطفل وصورته . هذا السلوك دفع الأحداث للأمام وسرّع في تأجيج الخلاف بين الوالدين وبدأ كل واحد منهما في كيل الاتهامات للأخر من دون أدنى اهتمام بالطفل وحياته  . وأثناء الحوار يتحول الوالدان من استخدام الضمير him للإشارة إلى الطفل إلى استخدام الضمير it وهذا التحول له دلالاته . أي أن الطفل تحول من إنسان حي له إرادته وحقوقه ومستقبلة  إلى شيء مادي يمتلكه الوالدان ويستحوذان عليه ويخليان عنه . لاحظ كيف صاغ الكاتب كارفر جملته الأخيرة حول الطفل قبل أن يسحبه الوالد : “تريده ، هذا الطفل”
“She would have it, this baby.”
يريد الوالدان أن يربحا المعركة بغض النظر عن الخسارة الفادحة التي قد تحصل وعندما يصر أحدهما على الفوز يعني ذلك بكل تأكيد أنه يريد أن يلحق الهزيمة بالأخر . هذا السلوك الغريب يرسم للصورة الإنسانية مستقبلا قاتما أسودا تماما كما يجري حاليا في منطقتنا العربية . فلو كان الملك سليمان أمام هذين الوالدين ، كيف كان سيتصرف ؟
العنوان الأصلي للقصة :