الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في يافا عروس فلسطين – بقلم : شاكر فريد حسن

ابداعالات عربية …
بقلم : شاكر فريد حسن – فلسطين المحتلة …
يافا عروس زهت ، وحضارة سطعت في فضاء فلسطين ، واعتبرت عاصمة ثقافية لها بدون منازع . وقد شكلت مركزًا ثقافيًا وفنيًا هامًا ، ففيها أقيمت دور السينما والمسارح والأندية الثقافية والأمسيات والأنشطة الثقافية والفنية المتنوعة ، وفيها صدرت الصحف والمجلات الأدبية والفكرية ، كالجهاد والدفاع وفلسطين والكفاح والحوادث والحرية والجبل والحرية والحقوق والجريدة والمستقبل والأخبار والاقدام ونداء الارض والصراط المستقيم وصوت الحق وغير ذلك .
وزارها الكثير من الفنانين الكتاب والشعراء والمثقفين العرب ، وغنت فيها كوكب الشرق الراحلة أم كلثوم ، وأحيت عدة حفلات فيها ، بعد ان وصلت ميناءها في شراعها الخاص ، وصدح صوتها في أروقتها بحفلة ساهرة بقاعة ” أبولو ” التي ازدانت واجهتها المركزية بتمثال لها
ومن الذين زارها من الفنانين كان محمد عبد الوهاب وفريد الاطرش وأسمهان ويوسف وهبي ، ومن الشعراء والكتاب : توفيق الحكيم وعباس محمود العقاد وميخائيل نعيمة وبشارة الخوري  والجواهري وغيرهم .
وسوف أتوقف هنا مع الشاعر العراقي الكبير الراحل محمد مهدي الجواهري ، الذي جاءها زائرًا وفي قلبه حبًا وشوقًا كبيرًا لها ولبحرها وبرتقالها وأزقتها . وهو شاعر معاصر من أهم وأبرز شعراء العرب في العصر الحديث ، من مواليد العام 1899 ، وتوفي في دمشق العام 1997 . وقد انخرط في العمل السياسي وكان من مؤسسي الحزب الوطني العراقي . وقد صدرت مجموعته الشعرية الأولى وهو في الخامسة والعشرين من عمره بعنوان ” خواطر الشعر في الحب والوطن والمديح ” ، وتبع ذلك ” بين الشعور والعاطفة ” ، و ” ديوان الجواهري ” و ” بريد الغربة ” ، و ” بريد العودة ” و ” أيها الألق ” و ” خلجاتي ” وكتاب ” ذكرياتي ” .
واشتهر بقصيدته ” يا دجلة الخير ” التي قالها في الحنين إلى الوطن والاشتياق له بعد ان غادره ، وإلى دجلته وضفافها واصطفاق أمواجها .
وكان الجواهري قد أتى إلى يافا زائرًا ، بعد ان كلفته هيئة الاذاعة البريطانية في النصف الأول من الأربعينات ، لإحياء أمسية أدبية وشعرية فيها ، ولما وصلها بالطائرة ، استقبل بالترحاب ، وأقيم له حفل فخم وجميل في ” النادي العربي ” ، حضرته وجوه فلسطينية بارزة وشخصيات ثقافية وأدبية وسياسية واجتماعية اعتبارية ، وألقى قصيدته الرائعة ” يافا الجميلة ” قوبلت بالتصفيق والعيون الدامعة . ونشرت القصيدة في حينه بجريدة ” الرأي العام ” الصادرة في السادس عشر من آذار العام 1945 ، ويقول فيها :
بـ ” يافا ” يومَ حُطّ بها الركابُ
تَمَطّرَ عارضٌ ودجا سَحابُ
ولفّ العادةَ الحسناءَ ليلٌ
مُريبُ الخطو ليسَ به شِهابُ
وأوسعها الرَذاذُ السَحّ لَثْمًا
فَفيها مِنْ تحرّشَهِ اضطرابُ
و ” يافا ” والغُيومُ تَطوفُ فيها
كحالِمةٍ   يُجلّلُها    اكتئابُ
وعاريَةُ المحاسن مُغْرياتٍ
بكفّ  الغَيمِ خِيطِ  لها  ثيابُ
كأنّ الجوّ بينَ الشمس تُزْهَى
وبينَ الشمس  غَطَّاها  نِقابُ
فؤادٌ عامَرُ الإَيمانِ هاجَتْ
وساوسُهُ   فخامَرَهُ    ارتيابُ
وقفتُ مُوزّعَ النّظراتِ فيها
لِطَرفي في  مَغَانيها  انْسيابُ
وموجُ البحر يَغسِلُ أخْمَصَيْها
وبالأنواءِ تغتسلُ   القِبابُ
و ” بيّاراتُها ” ضَربَتْ نِطاقًا
يُخطّطُها كما رُسِمَ  الكتابُ
فقلت وقد أخذتُ بِسِحر ” يافا ”
وأترابٍ ليافا  تُستطابُ
” فلسطينُ ” ونعْمَ الأمُّ، هذي
بَناتُكِ كلُّها خَوْدٌ كَعابُ
أقلّتني من الزوراءِ ريحٌ
إلى ” يافا ” وحلّقَ بي عُقابُ
فيا لَكَ ” طائرًا ” مَرحًا عليه
طيورُ الجوّ من حَنَقِ غِضابُ
كأنّ الشوقَ الأرَجُ الثنايا
وفُتِّح مِنْ جِنانِ الخُّلدِ بابُ
ولاحَ ” اللُّدَّ ” مُنبسِطَا عليه
مِن الزَهَراتِ يانِعة خِضابُ
نظرْتُ بمُقْلةٍ غطَّى عليها
مِن الدمعِ الضّليل بها حِجابُ
وقلتُ وما أحيرُ سوى عِتابٍ
ولستُ بعارفٍ لِمَن العتابُ
أحقّاً بينَنا اختلَفَتْ حدودٌ
وما اختلَفَ الطريقُ ولا الترابُ
ولا افترقًتْ وجوهٌ عن وجوهٍ
ولا الَضّادُّ الفصيحُ ولا الكِتابُ
فيا داري إذا ضاقَت ديارٌ
ويا صَحبيْ إذا قلَّ   الصحابُ
ويا مُتسابِقينَ إلى احضاني
شَفيعي  عِندهم  أدبٌ    لُباب ُ
ويا غُرّ السجايا لم يَمُنُّوا
بِما لَطُفوا عليَّ  ولم   يُحابوا
ثِقوا أنّا تُوَحِّدُنا همومٌ
مٌشاركةٌ  ويجمعُنا   مُصاب
تَشِعُّ كريمةً في كل طَرَفٍ
عراقيٍّ  جُروحُكُمُ   الرغاب
يُزَكينا من الماضي تُراثٌ
وفي مُستَقْبَل جَذِلٍ نِصاب
قَوافيَّ التي ذوَّبتُ قامَتْ
بِعُذري إنها قلبٌ   مُذابٌ
وما ضاقَ القريضُ به ستمحو
عواثِرَه صدورُكم الرّحاب
لئن حُمَّ الوَداعُ فضِقتُ ذَرعًا
بِهِ، واشتفّ مُهجَتيَ الذَّهاب
فمن أهلي إلى أهلي رجوعٌ
وعنْ وطني إلى وطني إياب
وكتب الجواهري في مذكراته قائلًا عن هذه الزيارة : ” لقد كانت رحلة من رحلات العمر لا تنسى ، مع هذا – وسامحوني – ان أقول ، يا ليتني لم أرَ ( فلسطين الجنة ) ، ولو أن وشيجتي بها كانت وشيجة ( بشار بن برد ) بالأشياء والعوالم ، بالأذن لا بالعين ، فلكان ذلك أفضل ولكان وقع الفاجعة عليَّ أقل ” .
مات الجواهري وبقيت يافا شامخة صامدة ، وسيظل هو ويافا القصيدة ، الغافية على البحر ، في الذاكرة الجمعية والتاريخ الثقافي والأدبي وروايتنا الفلسطينية .