لا توقفوا مسيرات العودة – بقلم : معين الطاهر

فلسطين ….
بقلم : معين الطاهر – فلسطين المحتلة  …..
نشرت “العربي الجديد” مقالتين عن مسيرات العودة الفلسطينية؛ للصديقين، عيسى الشعيبي، في 10 أكتوبر/ تشرين الأول، “مسيرات العودة الفلسطينية، ماذا بعد؟”، ومعن البياري، في 15 أكتوبر/ تشرين الأول، “أوقفوا مسيرات العودة”. وحيث فُتح هذا الملف على صفحات “العربي الجديد”، وفي مواقع إلكترونية أخرى، وتناوله كتّاب ومعلّقون ومحللون، شأن كل قضية عامة تصبح محل نقاش، فلا تهدف هذه المقالة إلى التعقيب على الزميلين بشكل خاص، بقدر ما تساهم في نقاش هذا الموضوع الحيوي والمهم، وإن يوحي عنوانا المقالتين، كما هو عنوان هذه المقالة، بالمحتوى الوارد فيها.
ثمّة إجماع لدى الزميلين، كما هو حال أغلب من ينتقد مسيرات العودة، أو يدعو إلى تقييمها، وصولًا إلى إعادة النظر في بعض أساليبها، أو الدعوة إلى إيقافها أو استمرارها، على أنّ هذه المسيرات كانت في بدايتها “فكرة كفاحية مبدعة”، وحصيلة ” قرار وطني جامع ومنسّق”. وأنّ شعاراتها بدت “عملية، واقعية إلى أبعد الحدود”، و”متماهية مع متطلبات المرحلة”، وأدت إلى “تجديد الروح الكفاحية الفلسطينية بعد تهافتٍ معيب”، و”رفعت المعنويات المتزعزعة، وأعادت بثّ صورة مشرقة عن نضال شعب لم تنكسر لديه الإرادة”، و”استعادت الاهتمام الدولي بقضية خبت أضواؤها في زحمة التطورات الإقليمية”، بل تجاوز ذلك كله ليعقد الوطنيون من “خارج الوعاء الفصائلي، رهانًا كبيرًا على تحقيق مكاسب نضالية متراكمة، يمكن البناء عليها، وتحويلها إلى منجز سياسي ضدّ الاحتلال”.
“لا يمسّ النقد بأي حال القائمين على مسيرات العودة، تخطيطًا أو مشاركة، بقدر ما يصيب الذين تقاعسوا عن نصرتها ومدّها بجميع أشكال العون”

ما سبق غيض من فيض ما كتبه الزميلان، وهو بحدّ ذاته كافٍ لمعرفة حجم الإنجاز الذي تحقق في إطلاق تلك المسيرات، ومدى أهميتها في كسر الصمت الذي أحاط بغزة عبر حصارها من العدو، والعقوبات التي فُرضت عليها من الأخ والصديق، وفي استلهام طرائق مقاومة شعبية جماهيرية سلمية في طابعها العام، يمكن أن تشكّل نموذجًا ورافعة للنضال الفلسطيني.
إذن، أين الخلاف؟ وما هو النقد الموجّه إليها، والذي جعل الرهان عليها “يتبدّد رويدًا رويدًا، فيما راحت العوامل السلبية تطغي على العوامل الإيجابية مع مرور الوقت”؟ بل ولتتحول المسيرات إلى “حدث روتيني شديد العادية”، لنصل إلى حدّ المطالبة بـ “ضرورة وقف المسيرات الأسبوعية”، و”الكفّ عن قياس مضاء المسيرات بعدد الشهداء، وإنهاء سياسة الإنكار والمكابرة والعناد، والتوقف عن لعبة الدم بالدم”.
يمكن تلخيص الدعوات إلى وقف المسيرات بما وصفه أصحابها باستئثار حركة حماس بقرارات اللجنة الوطنية العليا، وادعائها أنّ أغلب الشهداء من منتسبيها، و”اختطاف هذه الظاهرة جهارًا نهارًا”، و”توظيفها في خدمة مصالح فصائلية جزئية، غايتها تعزيز سلطة الأمر الواقع (في غزة)، ومدّها بأسباب البقاء بأي ثمن”. ويتسق مع ذلك تقديم عملية التهدئة مع العدو، ورفع الحصار عن غزة، على عملية المصالحة وإنهاء الانقسام، واعتبار التوصل إلى اتفاق التهدئة قبل المصالحة تكريسًا للانقسام وترسيخًا له.
ثمّة أسباب أخرى تتلخص في ارتفاع عدد الشهداء والجرحى والمعاقين، ومقارنة أعدادهم بسقوط قتيل إسرائيلي واحد، وتعطش الإسرائيلي لقتل الفلسطينيين، و”تآكل الزخم الإعلامي”، و”تبدّد الآمال والرهانات بشأنها”، وتراجع اهتمام الرأي العام الدولي بها، ولدى التجمعات الفلسطينية الأخرى، كون هذه الظاهرة “مجرّد فعل غزي مقطوع الصلة عن المجموع الفلسطيني الأشمل”. هنا يبدو واضحًا أنّ سهام النقد اتخذت مسارًا خاطئًا، وضلّت عن سبيلها، وأخفقت في الوصول إلى كبد هدفها. وفي هذا النقد بمجمله علتان؛ الأولى أنّه لا يمسّ بأي حال أولئك القائمين على مسيرات العودة، تخطيطًا أو مشاركة، بقدر ما يصيب الذين تقاعسوا عن نصرتها ومدّها بجميع أشكال العون. هل ننتقد أهل غزة وفصائلها لأنّ المسيرات فعل غزّي؟ أم ننتقد صمت الآخرين الذين لم يتمكّنوا، بل ولم يحاولوا، نقل مثل هذه المسيرات إلى أرجاء الضفة الغربية، حيث تمتد المسافات وتمتلأ بالمستوطنات، بحيث يمكن في كل شبرٍ منها، وعلى امتدادها، إقامة فعلٍ شبيه بمسيرات العودة الكبرى، بدلًا من تلك الفعاليات الموسمية المنسّقة مسبقًا في أغلب الأحيان، وللموضوع سقفٌ لا يمكن تجاوزه، والعاجزة عن استقطاب عشرات الآلاف، كما هو حال مسيرات العودة؟ أم ننتقدهم على تعطّش الصهاينة للقتل وضعف الزخم الإعلامي واهتمام العالم، وهو حتمًا واجبٌ على آخرين سدّ هذه الثغرة، ومخاطبة الرأي العام، وإحالة مجرمي الحرب الصهاينة إلى المحاكم الدولية؟ النقد في هذا الاتجاه هو النقد الذي يجب أن يوجهه أهل غزة، والمشاركون في مسيراتها، إلى جميع الذين تقاعسوا ولو لحظة عن نصرتها.
العلة الثانية في هذا النقد هي تقييم نجاح المسيرات من عدمه بالنظر إلى محاولة بعضهم، كما يقول المنتقدون، الاستئثار بقياداتها أو الادّعاء بحصة تزيد أو تنقص من مشاركتهم فيها، أو بحجم شهداء هذا الفصيل أو ذاك فيها. وهو نقد، وإن يصحُّ في مجال الحثّ على بناء تحالف وطني أوسع، وعلى فضيلة نكران الذات، واستيعاب مختلف الطاقات وحشد الجهد، لكنّه لا يصح للحكم على ضرورة وقف هذه المسيرات، لأنّ فصيلًا ما قد قرّر أن يوجهها بأسلوبه أو بطريقته، أو استفرد بالقرارات المتعلقة بها، فهذا كله يخضع حتمًا للمراجعة والتصويب، في حال صحته، لكنّه ليس سببًا كافيًا للدعوة إلى وقف المسيرات، فالأساس هنا هو موضوع
“الأساس هو موضوع الحراك الشعبي وصحته، وهو معيار الحكم عليه، وليس من يقف وراءه أو يدّعي ذلك”
الحراك الشعبي وصحته، وهو معيار الحكم عليه، وليس من يقف وراءه أو يدّعي ذلك. ولعل ثمّة معيارا مهما هنا، وهو حجم المشاركة الشعبية التي لم تتأثر قط بهذه الادعاءات.
اعترض آخرون على فكرة المسيرات منذ بدايتها، نظرًا لرؤيتهم أنّ ميزان القوى مع العدو، فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا، مختل تمامًا لمصلحة العدو، ما يجعل هذه المسيرات مغامرةً محفوفة بالمخاطر، وتتطلب تضحياتٍ كبرى لا يمكن استثمارها سياسيًا، فهي تضحيةٌ لمجرد التضحية، ودليلهم على ذلك الحروب التي شُنّت على قطاع غزة، وأدّت إلى تدميره وحصاره.
يدلّ ذلك على عدم إدراك تلك المتغيّرات التي حلت بالعدو الصهيوني نتيجة هبّات شعبنا وانتفاضاته المتكررة، وليس أدلّ على ذلك من عجزه عن التقدّم على الأرض، واجتياح مناطق جديدة، على الرغم من القوة الناريّة التدميرية الهائلة التي يمتلكها، وهو ما ظهر بوضوح في حروبه العدوانية أخيرا على جنوب لبنان وغزّة، وفي الارتباك ضمن قيادته السياسية والعسكرية حول سبل معالجة الوضع على الحدود مع القطاع، وهو ما لم يشهده تاريخ الكيان الصهيوني. أضف إلى ذلك أنّ في هذه الرؤية فهمًا خاطئًا لميزان القوى، إذ من المفهوم أنّ حركات التغيير والثورة، حين تقرأ ميزان القوى، والذي يكون في بداياتها لمصلحة الخصم، فإنّها تفعل ذلك من أجل تلمّس نقاط القوة والضعف، والعمل على تغييره، وليس الاستسلام له، والنظر إليه باعتباره ثابتًا لا يمكن إمالة كفته لمصلحتها، وهو ما يتفق مع سنن الحياة والكون، ويفسّر انتصار الثورات وقوى التغيير وتداول الدول.