الوسطية والاعتدال في سيرة الانبياء والاولياء – بقلم : مريم الشمري

أراء حرة …..
بقلم : مريم الشمري ….
إن الحاجة إلى التعايش بالوسطية والإعتدال موجودة أينما وجدت علاقة بين طرفين، وهي مسؤولية مشتركة يتحملها الطرفان غالباً.
وهذا الإصطلاح قديم قدم الإنسان. فقصة قابيل وهابيل معروفة، لكنها جديدة في الوقت نفسه لتداعيات سلبيات الإنسان، والضرورات العالمية لإصلاح ثغراته وإصلاح ما يسوق من صراع المصالح بإسم الدين تارة، وبإسم صراع الحضارات تارة أخرى.
عملية التعايش تبدأ من نظرة الإنسان إلى نفسه وتقييمها، ومدى نجاحه في إقرار حالة التعايش الداخلي مع ذاته، فالذي ينظر إلى نفسه نظرة إيجابية أو سلبية بينما يقيّم الآخر بأنه سلبي أو إيجابي لايمكنه أن يتعايش مع الآخر، وكذلك المتعثر في التعايش مع ذاته في محاكاته وحواراته مع الذات للخروج بتوازن بين الإرادات الداخلية المتباينة كالعقل والضمير والنفس وما إلى ذلك، فيكون ذو شخصية بعيدة عن الإعتدال والوسطية، وهذا مما يبعد الإنسان عن التعايش، فالتعايش يبدأ من دائرة الذات ويمتد ليؤثر ويتأثر بجميع دوائر التعايش.
الكثير من الآيات والقصص ذُكرت في القرآن وهي خير دليل لوسطية واعتدال الله سبحانه لتوصيل الرسالة الى عباده من خلال أنبيائه وأوليائه ومنها قصة نبي الله داوود عليه السلام، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) سورة الأنبياء.
كان النبي داوود في محرابه وأمر حراسه ألا يسمحوا لأحد بالدخول عليه وهو يصلي، ثم فوجئ في محرابه بدخول اثنين من الرجال، خاف منهما داوود و سألهما من أنتما؟ قال أحد الرجلين:لا تخف يا سيدي.. بيني وبين هذا الرجل خصومة وقد جئناك لتحكم بيننا بالحق. قال الأول: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، وهو يريد أن يأخذ نعجتي فيكمل بها نعاجه مائة، فقال داوود لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، فوجئ داوود باختفاء الرجلين فعلم أن الله أراد أن يعلمه أن لا يحكم بين الناس إلا إذا سمع أقوالهم جميعًا، ويحكم بالعدل فسجد لله واستغفر لذنبه.
ورزق الله سبحانه النبي داوود عليه السلام بابنه النبي سليمان عليه السلام، وفي يوم من الأيام جلس داوود ليحكم بين الناس، فدخل عليه رجلان فقال الأول: أن غنم هذا الرجل دخلت حقلي وأكلت كل زرعي، وقد جئت إليك لتحكم بيننا، فسأل داوود الرجل الثاني: هل فعلت غنمك هذا؟ فقال الرجل نعم فحكم داوود بأن يأخذ صاحب الحقل غنم الرجل تعويضًا عن الزرع.
إستأذن النبي سليمان من أبيه النبي داوود (عليهم السلام) أن يقول شئ فسمح له داوود فقال عندي حكم أخر يا أبي، ليأخذ صاحب الغنم الحقل ليصلحه، ويأخذ صاحب الحقل الغنم لينتفع بها حتى يعود الحقل كما كان، فيأخذ صاحب الحقل حقله ويأخذ صاحب الغنم غنمه، قال داوود: هذا حكم عظيم يا سليمان، الحمد لله الذي وهبك الحكمة(1).
‏ليس غريبًا ونحن نؤصل لمفهوم الوسطية أن نقف على مرجعه في نصوص الشريعة؛ كونها الأصل الذي يستند ‏عليه في كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية، وهذا التأصيل يستدعي استقراء النصوص القرآنية والنبوية ‏للوقوف على استعمالاتها لهذا المفهوم من حيث الألفاظ والمعاني، وقد جاء الحديث عنه في إطار التصريح تارة ‏وفي إطار التلميح تارة أخرى، والمنهج العلمي الرصين يستلزم تتبع المواضع المتعلقة بهذا المفهوم من أجل ‏الخروج بمعنى كلي يشكل إطارًا مرجعيًا لغيره من المفاهيم ذات العلاقة، وقد أكثر أولياء الله سبحانه، من ذكر وجوب الإعتدال والوسطية في كثير من الروايات، والأدلّة على ذلك؛ ما تركه الإمام علي (عليه السلام) من أقوال ووصايا، إذ قال لواليه على مصر مالك الأشتر ما نصه: «أنصف الله، وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك ألا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان لله حربًا حتى ينزع او يتوب، وليس شيء أدعى الى تغيير نعمة الله، وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فان الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد»(2).
وها هو اليوم المحقق الصرخي يؤكد نظريته في الوسطية والإعتدال وحث الناس على التمسك والإلتزام بهذا الطريق المعتدل. حيث قال:” إتـخذنا الوسطية في قراءة التأريخ … والله أنعـم عليـنا سبحانه وتعالى واتخذنا الوسطيـّة” (3).
وفي الختام أقول: لقد كان لمصطلح الوسطية في نصوص الشريعة مجال رحب لمن أراد الوقوف على أصله ومضمونه، ولا ‏شك إن وراء ذلك مقصدًا وغاية، فالشارع الحكيم أراد من عباده أن يسلكوا هذا المنهج