صدور” مزامير يوميّة” للأديب العراقيّ عباس داخل حسن عن دار” أمل الجديدة” السورية

اصدارات ونقد …
كتب الاديب في مطلعها : لم يُخلق بعد من يفكّ مغاليق الوجود .
كلّ ما هو مطلوب منّا أغنية من القلبِلكلّ الفصول .
وهذه المجموعة القصصيّة تقع في 59 صفحة من القطع المتوسط،وتتكوّن المجموعة القصصية المهداة إلى كلّ من صديقي الكاتب:إياد شاكر سبهان ورزاق داخل  من القصص القصيرة التالية: مزمور 1،مزمور2،مزمور 3،مزمور 4،مزمور5،نون،سبعة أقدام تحت سطح القمر ،دهقان ،متاهة ،تحت سقف واحد،أصل الحكاية،صلات افتراضية،رهان الكلاب الضالة،شتيمة،آلهة الشمس ،سؤال ،المشهد الأخير،صفاقة،هموم وطن،كابوس،مسار،مؤامرة،المرآة،لعنة مورفيوس،سفر الأحلام ،الواعظ،برق،قلق،أثر،مشاعر صدئة،عدوى،جوع،ضحك أشبه بالبكاء،الطابور،ديوان المظالم،أبو نواس،موت مؤجل،عشّ،حسبان،أشباح. ‘
على نيّة التقديم وذمّة الملتقّي.
وقد كتبت د.سناء الشّعلان الأديبة الأردنية ذات الأصول الفلسطينية مقدّمة هذه المجموعة تحت عنوان ‘على نيّة التقديم وذمّة الملتقّي : مزامير عبّاس داخل حسن ومساحات الألم اليوميّ ‘ حيث قالت فيها :’ لا نستطيع أن ندخل إلى عوالم المجموعة القصصيّة’ مزامير يوميّة’ للأديب العراقيّ عبّاس داخل حسن إلاّ من مساحة الإنسانيّة الطاغيّة المثقلة بحياة تعجّ بتفاصيل الألم والعجز والخيبة والانكسارات،وتمتح من ذاكرة تفيض بالحسرة على أزمان مسروقة ووطن منهوب على أيدي اللّصوص،والتفجّع من دروب ملعونة سرقته من وطنه وشعبه وذكرياته،كما سرقت الأزمان الجميلة من وطنه العراق،ولفظته هناك بعيداً في منافي الأرض حيث البرد والحزن والوحدة والحنين إلى وطن بعيد وأزمان لا تعود.
أخال أنّ عبّاس داخل حسن قد اختار المزامير لتكون جزءاً من عنوان مجموعته كي يكسر متوقع القداسة المتوهّم من الاسم،إذ إنّه يصدمنا من واقع دنس،وأفعال نجسة،بدل أن نعيش في جو مأمول من الطّهر والنّقاء،وهو يأخذ من تكراريّة الفعل المزموري- إن جاز التّعبير- كي يحيلنا إلى تراكميّة واستمراريّة أثر هذه التّرنيمات اليوميّة التي تمثّل مقطعاً واحداّ لا غير من الحياة،وهو مقطع خيبة الألم وانكسار الرّوح وألم القلب.فهذه المزامير تتكرّر جبراً في حياتنا لصالح شيء واحد لا غير،وهو خرطنا قهراً وقسراً في ألمنا وإكراهاتنا وعوالمنا المستلبة.
وقد بدأ عباس داخل حسن المزامير بعزف ترنيمات حزنه،واستدعاء مفردات ذاكرته بما فيها من أشخاص وأماكن وأفعال،وهي جميعها ترتبط مباشرة أو ترميزاً بوطنه العراق الذي يعيش فيه،وإن يعيش في مكان بعيد عنه.وهو ينطلق من ذاكرة المكان والزّمان التي تحتلّ وجدانه لينقلنا بسرعة إلى أحزان وطنه ومعاناة شعبه،وهو يقدّم قصصه في هذه المجموعة لاعباً على مفردة الوطن الإنسان والإنسان الوطن،فعندما يتحّدث عن نفسه،فهو يروي قصص الوطن الحزين،وعندما يتحدّث عن الوطن الحزين،فهو يعني بذلك كلّ إنسان في وطنه.
هو يراوح في مجوعته بين القصّة القصيرة جدّاً والقصّة الومضة،ويطعّم فسيفساء هذا العمل بأحجار فنيّة مختلفة لبناء فضاءه السّرديّ المفتوح على تأويلات كثيرة ومساحات شاسعة منهكة من التوقّعات؛فهو يستدعي المفارقة محركاً للحدث،وشكلاً للقفلة السّرديّة،كما أنّه ينطلق من توظيف الموروث السّرديّ في قصصه،وهذا الموروث السّرديّ قد يكون وليد التّاريخ،أو من شذرات القصّ الشّعبيّ أو من فتات التّراث القصصيّ العربيّ،ويجعل من القفلة القصصيّة نقطة مركزيّة لفهم القصّة واكتمال ذروتها،وتفكيك رموزها ورؤاها،كما يستسلم لتيار تداعي الذّكريات والحوار الدّاخليّ المختزل والإغراق في البوح الذي يكون على حساب حجم الحدث في بعض القصص،وهو مدفوع إلى ذلك بقوّة الانفعال الشّخصّيّ وظلال المعاناة الذّاتيّة ومحصّلة خبراته الإنسانيّة.إلى جانب أنّه يستعير الشّكل المتوالد في القصص الموروثة المنبثقة من قصّة أمّ أو محوريّة،ليجعل هذا النّمط السّرديّ المتوالد هو تفريعات على حدث واحد وفكرة جامعة،بما يمكن أن نسميّه بوحدة الموضوع في بعض القصص المتوالدة في هذه المجموعة القصصيّة.
وأيّاً كان المعمار الشّكليّ للسّرد في هذه القصّة،فإنّه ينطلق جميعاً من فلسفة الإضاءة على بعض الوجع،في حين المقصود هو الألم كلّه،ولذلك عندما يقتطف عباس داخل حسن فرعاً من الألم،فهو يومئ بكلّ تأكيد إلى الشّجرة كلّها،وبذلك هو يتوقّف عن مواقف صغيرة في مساحات حرفيّة قليلة،ولكنّه يترك لنا أن نخمّن بحدسنا الخاصّ وبتجاربنا ومعارفنا وخبراتنا وثقافاتنا إلى أيّ مدى يمكن أن نسقط هذه القصص على واقعنا،وإلى أيّ حدّ نعيش في ظلّها.
وإن فرض سؤال متوقّع نفسه علينا،وألحّ بمعرفة أسباب اختزال العام في الخاصّ والكلّ في البعض في هذه المجموعة القصصيّة،فقد تكون الإجابة متمثّلة بصراحة ووضوح في أنّ الألم والوجع والحزن أكبر وأعظم من أن يُحاط بها في سرد ما مهما بلغ وتغوّل وشمل،ولذلك جاء الاختزال في القصص على حساب الحجم لا على حساب الفكرة أو التّأويل أو الرّؤى أو المرامي.
ومن هذه الخاصّية بالذّات نستطيع أن ندرك أنّ هذه المجموعة القصصيّة هي تجربة إنسانيّة عامّة حتى وإن لبست لبوس الشّخصيّ والخاصّ والمحدّد في بعض المواضع،فهي تحمل فلسفة تجاوز الألم الشّخصيّ بافتراض أنّ الآخر يتألّم كذلك،وأن تأوّه الإنسان الواحد،هو تأوّه للبشريّة جمعاء بمعنى ما.وبذلك نستطيع أن نفهم مغزى الحكمة في هذه المجموعة،فهي مثقلة بثمار الحكمة في جلّ مواضعها،فعبّاس يلتقط الثمرة،ويضعها في حجر المتلقّي،ويترك له أن يتذوّقها على مهل،ومن يفوته أن يحزر الطَّعم،وأن يميّز الحكمة،وأن يستخلص الفكرة،فهو عندئذٍ لا يستحقّ هبة السّرد،ولا جدوى من قراءته للمجموعة سوى تحقيق متعة آنيّة محتملة الحدوث،أمّا المغزى الحقيقيّ من القصص فلا يدركه إلاّ من وعى الألم،وجرّب الحزن،وقرأ هذه المجموعة بقلبه ووعيه وضميره ووجدانه؛فهذه مجموعة قصصيّة تصلح لأن تكون صرخة إنسانيّة وتأوه قلب في إزاء مشهد إنسانيّ مؤلم،وليست حقلاً سرديّاً يقطف المتعة،ويبغي التّسلية وتزجية الوقت،أو أرضاً حالمة هانئة يقصدها المترفون المتخفّفون من الألم والمعاناة والقهر والكبت.
لي أن أزعم أنّ الأديب عبّاس داخل الإنسانيّة باذخ الحضور الإنسانيّ،ألمحي الضّمير،وافر الألم،ولولا هذا الثّالوث الاشتراطيّ لحالته الإبداعيّة في هذه المجموعة القصصيّة لما كانت بهذا الجمال،وهذه الحساسيّة والرّقة والألمحيّة والقدرة على التقاط أصغر المواقف الإنسانيّة للوقوف على بوابة التّجربة الإنسانيّة بتجلياتها جميعاً؛فهو يملك بامتياز حالة مفرطة من الحساسيّة والقدرة على الالتقاط التي تجعله مرشّحاً أكثر من غيره للألم والحنين والتوّجع والانكسار والحياة حبيس ذكرياته،وهذه الحالة هي من تملّكه قدرة استثنائيّة على بناء قصّه من شذرات الألم ومن تشظّي الوجع.وذلك دون أن يسقط في فخّ الذّاتيّة،ودون أن يغفل الإنسانيّة جمعاء في درسه الخاصّ عنها عبر ذاته.

لي أن أعلن صراحة وبثقة كاملة أنّني أعيش حالة انسجام لذيذ مع هذه المجموعة القصصيّة التي لا نستطيع أن نقرأها دون التّوافر على رصيد إنسانيّ ووجدانيّ يسمح لنا بأن ندخل إلى جوّانياتها،
ونتماهى مع دواخلها،ونحيل خاصّها إلى عامّ،وعامّها إلى خاصّ،إنّها لعبة الاختفاء في الذّات،والضّياع في الخارج،وبينهما يسكن الأجمل المفقود،وهو الفرح والسّعادة والخير،وعبّاس داخل حسن يصمّم على أن يحلم بالأجمل،وأن يلعن القبح حتى يتجلّى الجمال وافراً أمامه في عالم أرحب للبشريّة بعيداً عن تطاحنها وقبحها ومآلاتها المأساويّة،وحتى يتحقّق الحلم،ويرحل القبح،يظلّ عبّاس في رحلة مع الكلمة والقصّ إلى أن ينتصر الرّفض على الألم،ويقبر الفرح الحزن والانكسار.
‘ مزامير يوميّة’هي إحالة إلى جمعيّة التّجربة الإنسانيّة بكلّ ما فيها من خصوصيّة الفرديّة،هي حالة معيشة يحياها الكثيرون،وهي وجع يوميّ يكابده المكابدون،وهي وثيقة تجريم بحقّ كلّ من أساء إلى الأوطان،وخان ضميره،وضيّع إنسانيته وهويته،إنّها باختصار يوميّات إنسان وافر الألم والبؤس وخيبات الأمل في هذا الكوكب الذي يعجّ بالألم والقبح وترّهات الصدف وتحالفات الشّر.هي -باختصار شديد- حلمنا الباقي الأثير بأن تأتي السّعادة مهما طال انتظارها’.
وقد كتب الشاعر والروائي العراقي منذر عبد الحر عن هذه المجموعة قراءة سردية لمفاتن السرد القصصي والبناء في القصة القصيرة جدا ؛
مزامير يومية … اسئلة الشجن الفاتن

تحيلُ نصوص” مزامير يوميّة ” للمبدع عبّاس داخل حسن ، إلى الفيض الوجدانيّ المنطلق من أحزانٍ أسطوريّة يعيشها الفرد السومريّ ، المتعطّش للحياة ، وهو يغرف من أنهار الجمال مياه التعبير , الباحث عن عشبة الخلود عبثاً , المغني للفقدان ، الراحل خلف أمواجٍ تأخذ أمنياته الملقاة على جرفٍ لعوب …
هكذا أبدأ ، بهذا الانسياب التأملي ، وأنا أقرأ المزامير ، التي تفصح تقنيتها عن خطابٍ إنشاديّ سرديّ  لا ينزل إلى الاستطراد الحكائي ، ولا يصعد إلى التجريد ، بل يطلق طيور أسئلة ، تنهلُ من شكل المزامير جغرافيتها ، وتأخذ من تعبير الشجن الجنوبيّ الإنسانيّ تعبيراتها ، ثم تفتح الباب على رؤى قصيرة ، تنتمي بقوة لمفهوم القصة القصيرة جدا , فهي لقطات , وشحنات ، وحالات ، تنسج حكايات متكاملة ، ولكن بالببناء السردي عليها ، باعتبارها بؤرة دالة على  فيض من الأحداث على المتلقي التماهي معه ، والبناء الخاص منه ، حسب ما تفصح عنه دلالات كل قصة قصيرة جدا .
أحالتني ذاكرتي وأنا أقرأ القصص القصيرة التي تلت شحنات المزامير ، إلى ناتالي ساروت وانفعالاتها ، لا تشابه أو تأثّر من عباس داخل حسن , بهذه القصص ، بل لأن هذا الفن القصصي , لابد أن يحيلنا إلى المقدمة المهمة التي كتبها فتحي العشري كمقدمة لانفعلات ساروت ، وحملت عنوان” ساروت والانفعالات والرواية الجديدة” لما تضمنته هذه المقدمة  من آفاق نقديّة ، وحقول بحث في التوجهات السرديّة الحديثة ، ولعل النمطين الذين ركّز عليهما العشري ، وهما ” الشيئية” و” الباطنيّة ” ، وقد سماهما بالمدرستين ؛ أعطى الأولى تسمية” النظرة” باعتبارها تجعل من الكائنات أشياء وتتعامل معها ، فيما تلجأ الثانيّة للرؤى المستبطنة ، ورغم أن هذا التشخيص ، اعتمد التجارب الروائية المعروفة في فحصه وتطبيقه  لكنه شمل بها فن القصة القصيرة جدا ، ذلك الذي يبثُّ كشحنات حكائية ، يجمعها فضاء سردي خفيّ واحد ، على القارئ أن يسهم في الكشف عنه .
عباس داخل حسن في مجموعته المهمة ” مزامير يوميّة” لا يضع نصوصه ضمن نمط محدد من النمطين . فهو يجمع بينهما في الكثير من لمحاته القصصية ، فمثلا يقول في قصة دهقان:

“بعد الوخزة الأولى حاولَ الإطباقَ عليها بكلتا يديهِ ، باءتْ محاولتُهُ بالفشل ،نشَّها بكفِّه اليُمنى ثم اليسرى  ، خرشته في أرنبة أنفه ثانيةً
طارت أمام ناظريهِ محلقة بعيداً ، بعناد شديد . انتابه شعور قاس ٍ بالهزيمة لحدِّ القهر . ”

هذا النموذج السردي القصير ، حمل البعدين , النظري” الشيئي ” والباطني , ليعبّر عن حالة متضاربة المشاعر والأحاسيس ، موجزة الإشارة , مكتملة الشحنة ، مفتوحة الدلالة ، نعم , فالرمز متحرر من إحالة محددة ، وهذا يمنح النص قدرة على الإفاضة الجمالية والتأمل الذكي والمغامر أيضا في مثل هذا الفن الصعب ، أما الذكاء فيأتي من الاختزال والتكثيف ودقة النحت في اللغة ، وأما المغامرة , فتكمن في الإطار النظري لمثل هذا النص ، ونصوص أخرى في المجموعة .
القراءة المتأنية لنماذج أخرى من المجموعة تأخذ مديات ، يجب أن نتسع بها نظريا ، وبذلك باستطاعة الباحث والدارس المتأمل لمزامير يومية ، أن ينشيء نصا جماليا محاذيا لها ، لما تبثّه من إيحاءات متعددة ، ولما تضمره من رؤى تعبيريّة .
لذلك ستكون لي وقفة تفصيلية طويلة مع هذا المشروع ذي التميّز ، والطاقة المدهشة في جمالية التعبير والبناء .
مزامير يومية : نصوص قصيرة جدا
المؤلف : عباس داخل حسن
الناشر : دار الامل الجديدة 2018 دمشق – سوريا