ازدواجية المعايير في ثنائيات عربية – بقلم : صبحي غندور

دراسات …
بقلم : صبحي غندور – واشنطن …
بعض الأوطان العربية يعاني الآن من تحدّيات تجمع بين خطر التدخّل الخارجي وخطر الصراعات الداخلية، بل مخاطر الحرب الأهلية. فهي هنا ثنائية مشكلة دور الخارج وانقسامات الداخل.
أوطانٌ عربية أخرى تمرّ في ظروف سياسية تبرز فيها أعطاب الحكم والمعارضة معاً. فلا الناس راضية عن الحاكم ولا هي مقتنعة أيضاً بالمعارضة البديلة. فهذه أوطان تعيش ثنائية مشكلة الحكم والمعارضة معاً.
حتّى في البلاد التي لا تعاني من ثنائية تحدّيات الخارج وانقسامات الداخل، أو من ثنائية أزمة الحكم والمعارضة، نجد في بعضها الاختلال في ثنائية ميزاني العدل السياسي والعدل الاجتماعي.
أيضاً، نلمس الآن ثنائية أزمة الهُويتين الدينية والثقافية في المجتمعات العربية، حيث أصبحت الهُويّة الإثنية وكأنّها نقيض للهُويّة القومية العربية وفي مواجهتها. كذلك أضحت الأولوية الآن للانتماءات الطائفية والمذهبية، وعلى حساب الانتماء إلى الدين الواحد والقيَم الدينية المشتركة.
هذه الثنائيات في الواقع العربي الراهن يُلازمها مرض عربي يقوم على ازدواجية المعايير، وهو مرض ليس وليد الحاضر أو الماضي القريب فقط، بل هو محصّلة لتراكم كمّي في الأوضاع السياسية على امتداد قرونٍ زمنية طويلة، نحصد نتائجه حينما تشتدّ تحدّيات الخارج إذ تظهر عندها بصورةٍ جليّةٍ أكثر مساوئ وأعطاب الداخل في مواجهة هذه التحدّيات.
فالحديث هو دائماً عن “أمَّة عربية واحدة” بينما هي في الواقع أوطان وحكومات متعدّدة، فيما المتعاملون مع هذه الأمّة العربية من قوًى إقليمية ودولية هم أمم موحّدة بكل معاني التوحّد أو التكامل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري. فلو أنّ حال هذه القوى كان شبيهاً بحال العرب الآن، لما استطاعت أصلاً أن تشكّل تحدّياً أو خطراً على غيرها. فالعرب أمّةٌ منقسمة تتعامل مع أممٍ متّحدة!!
لكن في إطار التساؤل عن كيفيّة الخروج من هذه المحنة التي تعيشها الآن الأمّة العربية، هل دور الفكر هو هامشيٌّ في العلاج المطلوب للمرض العربي المزدوج؟ لو كان الأمر كذلك، كيف نُفسِّر تحوّل مسارات أمَم بفعل أفكار سبقت نهوض تلك الأمم؟!.
حدث ذلك مع العرب أولاً حينما ظهرت الدعوة الإسلامية، ولاحقاً عندما استوعبت الخبرة العربية والإسلامية أفكار حضاراتٍ أخرى. كما حدث ذلك أيضاً مع الأوروبيين في القرون الوسطى من خلال تأثّرهم آنذاك بأفكار الفيلسوف ابن رشد، فكانت “المدرسة الرشدية” هي وراء الدعوة لاستخدام العقل بعد عصور الظلام الأوروبي وتحريك سياقات الإصلاح والتنوير. كذلك كانت لأفكار الثورة الفرنسية تأثيرات كبيرة على شعوب عديدة في العالم، وهكذا كان الأمر مع الأفكار والنظريات التي غيّرت في القرن الماضي مجرى تاريخ روسيا والصين وبلدان أخرى.
لكن هذه الحقيقة البَدَهيّة لا تأخذ الآن موقعها الصحيح في سياق التفاعلات التي تشهدها حالياً عموم البلاد العربية. فأساس العطب في الحال العربي الراهن هو في الأفكار والمفاهيم السائدة. والحديث عن الفكر لا يعني فقط النخب المثقفة في المجتمع، بل هو شامل لما يسود الأمَّة من تراث فكري ومعتقدات وعادات وتقاليد ومفاهيم لأمور الدين والدنيا، شكّلت بمجملها الواقع العربي الراهن.
كذلك، فإنّ الفكر السائد الآن في المنطقة العربية تغلب عليه الانتقائية في التاريخ وفي الجغرافيا، بحيث يعود البعض في تحليله لغياب الديمقراطية في الأمَّة إلى حقبة الخمسينات من القرن الماضي وما رافقها من انقلابات عسكرية، وكأنّ تاريخ هذه الأمَّة قبل ذلك كان واحةً للديمقراطية السليمة وللعدل الاجتماعي والنزاهة في الحكم!.
الحال نفسه ينطبق على ما تعيشه الأمَّة العربية الآن من ظواهر انقسامية مرَضيّة بأسماء طائفية أو مذهبية أو إثنية، حيث ينظر البعض إليها من أطر جغرافية ضيّقة وبمعزل عن الفهم الخاطئ أصلاً للدين أو للهويّة القومية حيث كلاهما يقوم على التعدّدية ورفض التعصّب.
أيضاً، تظهر المشكلة الفكرية بشكل حادٍّ في كيفيّة قبول بعض العرب والمسلمين عموماً لمبدأ استخدام العنف الدموي المسلّح ضدَّ مدنيين أبرياء، أينما حصل ذلك، من حكومات أو من معارضات، دون وجود ضوابط فكرية حازمة في التعامل مع هذا الأمر.
***
في مطلع القرن الماضي، ومنذ خضوع المنطقة للاحتلال أو الهيمنة الغربية، مروراً بمرحلة الثورات والانقلابات العسكرية، خضع الفكر العربي لثنائية قطبية جعلته في معظم الأحيان بحال “الفكر الآحادي” الذي يقوم على آحادية فكرية تُناقض أيّ فكرٍ آخر ..
فالفكر الليبرالي العربي المتأثّر بالغرب كان في بدايات القرن العشرين يطرح نفسه نقيضاً للدين وللهويّة القومية، في مقابل تيّارات دينية أو قومية آحادية التفكير أيضاً.
والفكر القومي العربي لم يكن واضحاً وحاسماً في ضرورة تلازمه وأهمية ترابطه مع البعد الديني الحضاري، ولا مع الممارسة الديمقراطية كأساس للتجربة الداخلية السياسية وللعلاقات القومية على الساحة العربية.
ثمّ جاءت طروحات “الفكر الإسلامي” لتتصادم في معظمها مع الهويّة القومية ومع المسألة الديمقراطية، كما استباح بعض الحركات الإسلامية استخدام العنف المسلّح ضدّ أبناء الوطن الواحد وضد المدنيين في أكثر من زمان ومكان.
وهاهي المنطقة العربية الآن تشهد ظاهرة “الفكر الديمقراطي” بمعزل عن أيّة قضية أخرى، حتّى بمعزل عن حرّية الأوطان ووحدة المجتمعات والكيانات الوطنية ورفض التدخل الأجنبي.
وهكذا انتقلت الأمَّة العربية من فكرٍ آحادي إلى آخر آحادي أيضاً، لكن في واقع يقوم الآن على “ثنائية أزمات الداخل والخارج معاً”، وتحكمه ازدواجية المعايير في التعامل مع هذه الأزمات.
ففي معظم بلدان العالم الإسلامي تزداد على المستوى الفردي ظاهرة “التديّن” واهتمام الناس بالعبادات الدينية، لكن مع ابتعادٍ كبير لهذه المجتمعات عن مبادئ الدين وقيَمه وفروضه الاجتماعية.
فأين العدالة والمساواة والشورى وكرامة الإنسان في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية؟ وأين الوحدة في هذه المجتمعات؟ أين التكافل الاجتماعي ومكافحة العوز والفقر؟ وأين دور الاجتهاد والعلم والعلماء في مواجهة الجهل وعلامات الجاهلية المتجدّدة؟ أين رفض التعصّب والتمييز الإثني والطائفي والمذهبي؟ أين المسلمون من جوهر إسلامهم، وأين العرب من كونهم “خيرَ أمّةٍ أُخرِجت للناس”، بعدما حملت رسالةً تدعو إلى الإيمان بالله الواحد وبكتبه ورسله، لا تفرّق بينهم، وتؤكّد على وحدة الإنسانية وعلى قيم العدل والمساواة بين البشر؟!
إنّ المدخل الصحيح لمعالجة هذا الواقع هو توفّر الفكر السليم الذي يقود ويحرّك طاقات القائمين به. فالأمّة العربية تحتاج الآن إلى رؤية فكرية مشتركة تحسم الخلل والتناقض المفتعل بين هُويّات مختلفة لأوطانها ولشعوبها، بحيث يتعزّز معاً، وفي وقتٍ واحد، الإيمان الديني الرافض للتعصّب والفتنة، والولاء الوطني على حساب الانتماءات الضيّقة الأخرى، وتأكيد الهُويّة العربية المشتركة في مجالات التعبير المختلفة عنها داخل المجتمعات وبين الحكومات، كما هي الحاجة أيضاً لبناء مجتمعات عربية تقوم على العدل السياسي والإجتماعي وعلى حقوق المواطنة التي لا تميز بين المواطنين.
* مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن
sobhi@alhewar.com