النِديَّةُ ومُلْكِ اليَمين – بقلم : د . سمير أيوب

فن وثقافة ….
بقلم : د . سمير ايوب – الاردن ….
مُرشدةٌ إجتماعيةٌ صديقة ، مُتطوعة تعمل ، مع جماعاتِ حِماية الأسرة ، في الأردن منذ سنين . تُحاورني كثيرا ، حول ما تُواجه من قضايا في عملها . في مقارباتٍ ، نُحاوِلُ عبرها ، فَكفكة بعض ألغاز الحياة الاجتماعية ، في هذا العالم سريع التغير .
إلتقينا صدفةً ، صبيحةَ يومٍ خريفي مُشمس ، في باحة أحد التجمعات التجارية الكبرى في عمان . سرعان ما إتفقنا ، على دردشة سريعة وفنجال قهوة ، قبل التسوق . كنا أول من دلف بوابة مقهى التجمع في ذاك الصباح . إنزوينا في الأقصى من أركانه ، ركن المدخنين . ما أن جلسنا هناك ، وقبل وصول ما طلبنا ، قهوة عربية مضاعفة ، كثيرة الغلي ، قليلة السكر ، قالت وهي تُشعل لفافتها الأولى : تعلم يا شيخي أن ليس  لي أحد ، أكلمه بقلب مفتوح غيرك . وليس لي مَنْ أسأله نُصحاً أمينا إلا أنت . ولا أستطيع أن أخاطب إنساناً في الشارع أو مكان عام مفتوح كهذا سواك . وتعلم أنك عندي إستثناء .
قلت ضاحكا مُشجِّعا : يا فتاح يا عليم ، يا رزاق يا كريم . ربنا يستر . هات ما عندك .
ضحكتْ عيناها ، وهي ترى النادلة الأجنبية ، تُهْبِطُ فناجيلَ قهوتنا ، بتؤدة أنيقةٍ أمامنا . سرعان ما راقصتْ أصابِعُها أسوار وحواف فنجالها . تحسسته بلهفة ، إحتضنته بِشَغفِ أمٍّ تُلامِسُ خدودَ طفلها الأول ، ألذي لم يأت من زواج مضى عاصفا ، كانت كل سِنيه عجافا . قبل ان تقول  ، وهي تحدق في عيني : بت ألحظ ، بين كثير من شركاء العاطفة ، حوارَ طرشان ،  الحظ في ثناياه ، أن كل أشكال عنفَ المشاعر ، في انتشارٍ يَتكرر ، يتمدد ، يتعمق ويتخفى . سواء في العلاقات المُؤَطَّرَةِ ، وتلك التي في طريقها إلى التأطير .عنفٌ لمْ تَعُدْ ترتبط صُورهُ بواقعةٍ مُعينةٍ أو حَدَثٍ مُحدد . بل تَتَّكِؤ على قُدرةِ التَّوالد الذاتي ، دون الإرتباط بموضوعٍ مُعيَّنٍ أو سياقٍ مُحدد . عنفٌ لا تَتَطابُق فيه ، ألأسبابُ الفعليةُ ، مع العباراتِ الواصفةِ لها .
ثم حولَت بصرها إلى شفتيَّ المزمومتين ، أمعنَتِ النظرَ بصمتٍ قلقٍ  ، تنتظرُ تعقيبا دون أن تسألَ شيئا .
تحسست بشفتيَّ ، بوابات فنجالي ، دون أن أتذوقه ، لإبَددَ كثيرا من ضباب الصمت الذي رانْ . ومن ثم قلت  : لِلمُبتَلينَ المُتْعَبينَ يا سيدتي ، كوداتٌ مُثقَلَةٌ بالتَّشفيرِ الفردي ، المُتَّجِهِ في الأساس ، إلى مَسكوتٍ عنهُ بَينهما . لِفَكْفَكَتِ دلالاته المُتغيرة وتأويلها ، في ظل تآكل الفواصل ، بين المألوفِ المُشْبعِ بِمعاييرِ العقل المُثلَّجِ ، وصرامةِ الأخلاقِ الخِلافيَّةِ ، وغيرِ المألوفِ المُثْقَلِ بالنَّفعيةِ الفجَّةِ ، لا بد مِنَ الإنفتاحِ على الحمولاتِ الثقافية ، ألتي تُثْقِلُ كاهلَ طَرَفَيِّ كل عنف . وتُهيلُ غُباراً كثيفا فوق الحدود المتداخلة ، في ثنايا التشاكي المُبالَغِ فيه ، والصمتِ المُريبِ المُسْتَبِد بينهما .
ناولتها قطعةً من الحلوى المرافقة للقهوة  ، وهي تقول : نعم صحيح . كلُّ التَّمَظْهُراتِ الهادئةِ أو الصاخبة في عُلاقاتِ المُتْعَبين ، مَشاكلها وحلولها المُتوقعة ، لا تأتي من فراغٍ ، ولا تصل إلا موسومةً بالمهيمنِ من عناصرِ تلك الحُمولات .
قلت مقاطعا ، وأصابعي تتخلل شعري المُشاطِئ لجبهتي  : تلك الدوامة في خطرها وفي غموضها ، توأمٌ لمثلثِ برمودا الأشهر . في لُجَجِها يظن كل طرف ، أن الآخر لا يعدو أن يكون مِمَّن مَلَكَتْ أيْمانُه . يُدانيهِ لا كشريكٍ له ، ولا حتى كَنِدٍّ .  يسعى لبسطِ سيطرتَه الماديةِ والمعنويةِ عليه . وهذا ما لا يَتِمُ الإنتباهُ إليه في الأغلب الأعم  . فيهِ تكمنُ عملياتُ هدمٍ وبناءٍ وتطوير . تَتوكأ على النفي والإقصاء . وأحيانا على شرعيةِ الإحتواء وغائية التفاعل . لفرض قواعد للسلوك المثير للفزع الكثير .
قالت وهي تقدم لي منديلا ورقيا ، لإجفف ما انسكب من ماء أمامي : هنا يا شيخي ، مِرْبَط الفرس كما يقولون . بِمَ تنصحني كمُعاونةٍ في حل بعض ما يعُرض عليَّ من صراعِ الشركاء ؟
قلت وأنا أربت بباطن كفي الأيمن ،على ظهر كفها اليسرى المسترخية بيننا : على كل وَسيط أو مُتبصر ، في التمظهراتِ المَنطوقة أو المَرئيةِ للعنف الفردي ، التسلح بكثيرٍ من الحذر . قبل ربطها بتلك الحُمولات ، المسكوتِ عنها تَعمدا ، في دهاليز تلك العلاقة . ففي ظل عقلية مُلْكِ اليَمين ، تبقى هي الأصول والمرجعيات الضابطةُ ، لسيروراتِ النموذج وإندفاعاته .
كشفُ الأغطيةِ عن قيعانِ المَشاعر وإدعاءاتها ، يبرز أن الأزمات أكثر تبعية لوساوس الجدل الدائر ، حول الأسباب المُعَطِّلَةِ للتفاهم وتلك المُحرِّرة ، ألتي ينبغي تَبَنيها والتوكؤ عليها .
الحوار بين القائلين بالنِّدية ، والقائلين بِمُلكِ اليمين ، حوارُ طرشان . بات يطغى عليه ، الإقصاء المُفْلِسِ قِيَمِيا وإنسانيا ، بشكل أكبر مما مضى . ويقلص من فرصِ تخطيه حواجزَ العُنف ، والوصول إلى درجةٍ كافيةٍ من الأمان.