قراءة أوّليّة في (بئر الدهشة) للروائي السوداني المعز عبدالمتعال سرّالختم – بقلم : عبد الرؤوف بابكر السيد

ابداعات عربية …
بقلم : د. عبدالرؤوف بابكر السيّد
مدخل:
الأدب بنية فاعليّة لغويّة تخيّليّة تتجاوز مدى الفاعليّة الواقعيّة، ودائما ما يجنح الكاتب خاصّة الروائي إلى تجسيد بنى الوعي المختلفة لدى شخوص مجتمع روايته بأبعاد وأدبيّات تحاكي الواقع من ناحية وتشبع خياله وروحه الفنيّة من ناحية أخرى لتصل جليّة واضحة للقارئ. والدهشة هي كسر التوقّع الذي يمكن أن يكون مبهجا ومفرحا كما يمكن أن يكون أليما قاتلا، طبيعة الحياة وعدم إلمامنا ببنية الوعي لدى الآخر هي ما تجعلنا في حالة الاندهاش بفرح يعانق السماء أو بإحباط تهوي بك الدهشة وعدم التوقّع في بئر سحيق. و(المعز) حين قدّم لنا هذه الرواية يبث الفاعليّة في القارئ من خلالها ويعرّي كلّ بنية ويصدّر بنية الوعي الخلاّق حين يقارن القارئ ما تفضي إليه كلّ بنية وعي في تعاملها مع الآخر. ذلك ما أدهشنا به الروائي (المعز عبدالمتعال في روايته “بئر الدهشة” التي صدرت في العام 2017م عن دار روافد للنشر والتوزيع بالقاهرة..
فكلّ إنسان بوصفه فاعليّة يمتلك ثلاث بُنى للوعي، تسود إحداها وتسيطر عليه، ويعي نفسه من خلالها، وتحكم كامل تصرّفاته وتبرّرها من خلال أدبيّاتها الموروثة في شتى فنون القول وخاصّة الأمثال الشعبيّة، يعي الإنسان نفسه كائنا تناسليّا همّه الإنجاب والتكاثر وحفظ النّوع ، ذلك إذا ما كان يستحوذ بنية الوعي الأوّلي (التناسلي) كالشيخ (اسماعيل) الذي قام بتعريته (عمران المخمور) في المسجد كاشفا من يتستّر بالدّين وتلعب به الأهواء والدخان ويحكم الجنس سيطرته عليه. كما يرى نفسه كائنا مادّيا همّه جمع المال واكتناز الثروة بأيّ وسيلة كانت، إذا ما احتاز بنية الوعي (البرجوازي) كالممرّض (عبدالتوّاب)، الذي قتل الحب في سبيل ثروته. أو يرى نفسه كائنا خيّرا همّه في هذه الحياة الحب والإبداع والعطاء الشامل إذا ما احتاز بنية (الوعي الخلاّق). ك(أسماء) و(والدها) والشيخ (عبدالحليم) هذه البنى الثلاث جسّدها (المعز) في “بئر الدهشة” عبر شخوص روايته. صحيح أنّ الشريحة المجتمعيّة التي اختارها الكاتب هي قرية نوبيّة في شمال السودان تعيش وتتعايش مع الطبيعة وتستلهم منها فرحها وسعادتها، كما تقابل قسوتها بطيب خاطر، إلاّ أنّ كلّ مجتمع صغر أو كبر تتصارع فيه بنى الوعي ويتجلّى الاختلاف.
وما جعل (أسماء) تقع في بئر الدهشة من حديث (عبدالتوّاب) ليس سوى اختلاف بُنى الوعي لدى كلّ، وعدم توقّعها أن يأتي هذا الحديث من حبيبها وزوجها (بنية الوعي المادّي) وأن يخشى على ماله وثروته، دون اعتبار لحجم مشاعر الحب التي تحملها له (أسماء) ، فكان أن أصيبت بإحباط ووقعت في بئر الدهشة التي أودت بحياتها.
فلسفة الحياة والموت:
جدليّة الحياة والموت التي أدهشت الإنسان منذ نشأته الأولى كانت إحدى محاور الرواية، بل عصبها، حيث ابتدأت بوفاة والدة (أسماء) عند وضوعها لابنتها، وتواصل رحيل والدها وخالتها وزوجها وخالها وأخيرا اختطفها هي بعد أن سقطت في بئر الدهشة أمام جشع حبيبها وزوجها (عبدالتوّاب). جاءت هذه الفلسفة على لسان عبدالجليل وهو يخاطب ابنته التي رحلت والدتها يوم ولادتها :
” – لم ترعبني فكرة في حياتي يا أسماء بقدر ما أرعبتني فكرة الموت، ولم تدهشني فكرة بقدر ما أدهشتني غريزة الأمومة.. كيف تنازلت فاطمة عن حياتها من أجلك؟ كيف ينتصر الموت على الحياة ؟ وتنتصر الحياة على الموت في نفس اللحظة ؟ كيف يلتقي النقيضان ويتبدّل الموت إلى حياة، وتستبدل قسوة النهاية إلى هدير الوجود ؟  كان مولدك لحظة موتها، فكان التقاء شبح الموت بسحر الحياة. والتقاء الرعب بالدهشة، وكان طعم الانتصار بقدر ما أرعبني فقد أمّك بقدر ما أدهشني جمال وجودك يا أسماء.” ص36 ، ويستمر التساؤل حول حقيقة الموت وجدليته مع الحياة ” وما الموت ؟ انفصال النفس عن الجسد وإدراك الغياب؟ أم هو الحقيقة الأزليّة التي لابدّ من مواجهتها ؟ كيف لإنسان من دم ولحم ومشاعر أن يتحوّل فجأة لكوم تراب ؟ كيف ؟ ” ص131
وفي حوار أسماء مع عبدالتوّاب:
-أعيش من أجل رشا، أخشى أن يموت أحدنا جوعا فيموت الآخر حزنا.
-لا أحد يموت من الجوع.
-لا أحد ينجو من الموت.
-أعني الموت جوعا.
-أعني الجوع موتا.
عصب الرواية كان في هذه المواجهة وهذا الصراع بين الموت والحياة ، وهذه التساؤلات التي ظلّت عصيّة على الإنسان منذ فجر البشريّة تنسج مسار وسرديّات الرواية وأحداثها وما يدهش ويحرّك الفكر لدى القارئ أنّ الحياة لا تتوقّف.
الزمكانيّة وتصوير الشخوص:
الزمكانيّة هي إحدى أهمّ الوسائل في التقنية الروائيّة، التي تجعل القارئ في بؤرة الفاعليّة الواقعيّة فتقرّب له المشهد بنقله إلى الزمان والمكان لأحداث الرواية، وقد حدّد الكاتب منذ البدء  المكان بقرية نوبيّة تقع في شمال السودان وعلى امتداد النيل، والزمان هو مطلع سبعينيّات القرن الماضي وتحديدا أيّام انقلاب “هاشم العطا” على ” جعفر النميري “. أمّا تصوير الشخوص، فقد أحكم الكاتب تصوير شخوص روايته بوصف دقيق ساعد به مخيّلة القارئ وقرّب له المشهد وهو يتابع أحداث الرواية، فرسم شخصيّة (عبدالجليل) والشيخ إسماعيل ص19، وعبدالتوّاب وأسماء ص39 وعثمان ص46 وحامد ص57 وإبراهيم ص109 ونهى ص123، كما أبدع الكاتب في تصوير الطبيعة وتجاوبها مع مجتمع القرية  ” القمر يتوهّج بالضياء ويدنو منهم ، ويتّكئ على ظلاله ويسترق السّمع، ويرتشف معهم كأسا من الخمر ويترنّح في خفوت ” ص19 كما قدّم وصفا رائعا لهذه الطبيعة التي شكّلت جزءا أصيلا من كيانهم وحياتهم ص 30- 31، فأدهشتني بجمالها وشدّني روعة وصفها أقتبسه رغم طوله لجماله:
” وفي يوم خرجت أسماء إلى الحقول، تحمل الطعام لأبيها، كان الطقس صحوا، النسيم يلثم شعرها ويمازح وجهها الجميل، يقبّل خدّها بلطف ويرسل عبره غناء العصافير، ومن هناك تبدو أشجار النخيل باسقات في شموخ، وشجيرات النخيل الصغيرة تدنو أعطافها للأرض تغازل خلايا الطمي، تستشفّ عطره المثير، والنيل يختبئ خلفها في بهاء يحمل سرّ التدفّق وسحر الخلود، يقبع آمنا، يسامر شاطئيه في حنان، وعلى صدره مركب يقوده صائد سمك، يرمي شباكه في يقين، وثور يدور حول مزارع القمح يدور حول ساقيته بصبر وعناد، حوله بقرات وافرات الضروع، وجحش مربوط بوتد على الأرض، وأشجار البرسيم واللوبيا ترسم لوحة الاخضرار على امتداد البصر، تهفهف أوراقها لحلاوة الطقس وروعة النسيم، وصوت الوابور بنبضاته السريعة المنتظمة، كأنّه قلب الطبيعة يضخّ مياه الحياة ويروي بها شرايين الأرض، ونساء من البعد يحملن أواني الإفطار لأزواجهنّ، وأطفال يسبحون على الجدول الكبير، يتراشقون بالمياه وضحكاتهم العذبة تملأ الكون بهجة وروعة ”
هذه اللوحة الفنيّة التي رسمها الكاتب بالمفردة تنطبع بهجة ولوحة حقيقيّة في ذهن القارئ ويمنح خياله حريّة الانسياب بعد هذا التجسيد الفنّي لهذه المساحة التي تدور أحداث الرواية فيها وحولها، كما تعكس إبداع الكاتب في التصوير بعدسته اللغويّة البالغة الدقّة والصفاء.
القيمة الفنيّة للرواية:
تتمثّل القيمة الفنيّة للرواية في الارتقاء بالأسلوب وسلاسة السرد حيث جعل لغتها (العربيّة) ولم يدخل (اللهجة) خلال حوارات الشخوص، واضح الهدف من أنّه يقدّم هذه اللوحة وهذه الشريحة المجتمعيّة لكلّ قارئ عربي، دون أن يقحمه في الحوارات المحليّة بلهجة قد تشكّل صعوبة أو تقلّل من جماليّات السرد.
كما أنّ عفويّة التداعي وتلقائيّته وتناغمه مع الشخوص منحها قيمة فنيّة تتجلّى في الأسلوب.
ويمثّل تجسيد بنى الوعي المختلفة داخل هذه الشريحة المجتمعيّة القرويّة قيمة فنيّة حين يجعلك تنحاز لبنية الوعي الخلاق، ومن هنا تأتي فاعليّة الرواية وقيمتها،
القيمة الفكريّة التي تشكّل عصب الرواية تتمثّل في طرح فلسفة الحياة والموت عبر تحريك عقل القارئ من خلال تساؤلات عديدة حول هذه القضيّة، حتى ينجلي هذا التناغم وتنكشف الجدليّة بينهما دون منح إجابة نهائيّة سوى الرعب والدهشة، وتظلّ الإجابة مفتوحة أمام ذهن القارئ على امتداد وعيه.
دقّة الوصف للشخوص وللطبيعة الساحرة ، ورسم لوحاته ببراعة لتساعد مخيّلة القارئ ولا تجهده في رسمها ليتفرّغ ذهنه للجانب الفكري للرواية.
ومن أبلغ ما يميّز الكاتب الحديث هو كسر التوقّع في التعبير الذي يمنحه بلاغة تصويريّة ويمتّع القارئ بين المألوف والمتآلف، ممّا منح الأسلوب جماليات فنيّة وبلاغيّة في الصياغة لا تتكئ على سطحيّة التداول، ومن ذلك مثلا:
-على حافّة الفرح جلس إبراهيم . ص99
-والهموم عمامات تلفّ رؤوسهم المحنيّة . ص105
-وتسلّق شجرة الهدوء. ص111
-والغيظ قرود تتقافز حولها . ص39
-ثمّ غطس في رمال الضّحك.
-وسيف الأسف يقطع ظلام الليل لنصفين. ص16
-هزّ عبدالجليل جذع الصمت فتساقط رطب القول. ص16
-والخجل حبل مشنقة التفّ حول لهاته فتدلّى لسانه أسفا. ص17
من  خلال هذه القراءة السريعة الأوّليّة ل ” بئر الدهشة ” أرى أنّني لم أوفها حقّها من التحليل والقراءة المعمّقة حول ما تحمله من مضامين وما تبثّه من فاعليّة وما تطرحه من صراع بين بُنى الوعي المختلفة والتي يمكن أن نجدها بذات الصراع في كلّ مجتمعاتنا حيث الغالبيّة من هذه المجتمعات مستدمجة لبنية الوعي الأوّلي (التناسلي) ذاك الذي لا يعرف من الشرف سوى شرف المرأة ، ولا يعترف بالحبّ إلا الذي يقود إلى زواج، ولا يرى في المرأة إلا وعاء للتناسل، ولا يهمّه سوى التكاثر والإنجاب، وهذه المجتمعات التناسليّة وظّفت كلّ فنون القول لصالحها حتى النصوص المقدّسة لم تسلم من التفسير وفق رؤيتها، علما بأنّها مع البنية الماديّة (البرجوازيّة)  هما بنيتا قصور وبُنى مغلقة، أمّا بنية الوعي الخلاّق فهي البنية المفتوحة التي يرى الإنسان نفسه من خلالها أنّه كائن مهمّته في هذه الحياة الحب والإبداع والعطاء الشامل. الرواية في الختام رسالة ذات فاعليّة تصدّرها للقارئ ليرى مع من تنسجم بنية وعيه، ومن ثمّ دعوة للتفكير بعمق في هذا الصراع والاختلاف بين البشر.