هنا دمشق من القاهرة – بقلم : تميم منصور

فضاءات عربية …
بقلم : تميم منصور – فلسطين المحتلة …
لم يجد محرر ملحق ” الاهرام العربي ” طريقة لإحياء ذكرى الوحدة ال 49 التي تمت بين مصر وسوريا ، أفضل من اطلاق صرخة نداء تحمل كل المعاني ” هنا دمشق من القاهرة ” ، المعنى الحقيقي لهذا النداء خاصة في هذه الظروف الاستثنائية التي يمر بها الوطن العربي ، وبالأخص سوريا ، له دلالاته الوطنية والقومية ، ربما رأى من أطلقوا هذه الصرخة ايقاد شمعة لتبديد حلكة الظلام الذي تحول الى نفق ضيق يرفض غالبية قادة الأنظمة العربية الخروج منه .
نعم ” هنا دمشق من القاهرة ” تعني الشيء الكثير ، حيث تعيد الأمل الى النفوس والمعنويات المرهقة ، المتعبة ، لتؤكد بأن سوريا ومصر توأمان لأم واحدة ومرجعية قومية إنسانية تاريخية واحدة ، تؤكد بأن القاهرة هي حاضرة المصريين والسوريين ، وكذلك دمشق عرين العروبة وقِبلة الحضارة معاً ، أن أي لقاء بين القاهرة ودمشق يبقى مميزاً وله المردود التاريخي الهام ، يكفي أن نذكر ما هو مردود هذا اللقاء عشية معركة حطين عام 1187 ، فقد أدرك القائد صلاح الدين الأيوبي أنه بدون التلاحم السوري المصري ، لا يمكن هزيمة غُزاة المشرق العربي إبان العصور الوسطى ، الذين رفعوا شعار الصليب ، والدين بريء منهم ، وهذا ما تفعله التنظيمات التكفيرية اليوم في العراق ومصر وسوريا باسم الدين وباسم الإسلام .
هذا النداء ” هنا دمشق من القاهرة ” لا يعبر فقط عن عمق الارتباط والعلاقات بين الشعبين في أرض الكنانة وربوع الشام ، بل فيه اعتراف لدور سوريا وشعبها الى جانب مصر أثناء العدوان الثلاثي عام 1956 بعد أن قام الرئيس ” جمال عبد الناصر ” بتأميم قناة السويس ، لقد أعلن حينها عبد الناصر على الملأ بأن الدولة الوحيدة التي وقفت الى جانب مصر وطلبت الدخول في المعركة بشكل مباشر هي سوريا ، وعندما قامت الطائرات المعادية بضرب محطات الارسال لإذاعة القاهرة وصوت العروب ، بهدف اسكات صوت مصر ، توقفت إذاعة القاهرة عن البث ، عندها ظهر المعدن الحقيقي لسوريا وشعبها ، فسارعت إذاعة دمشق الى إذاعة النداء التاريخي المشهور وهو “هنا القاهرة من دمشق ” و”  هنا صوت العرب من دمشق ” بعد هذا النداء أصبحت سوريا تتحدث باسم الثورة المصرية ، وباسم الشعب المصري ، تنقل اخبار المعركة ، وتنقل خطابات عبد الناصر التي ايقظت ضمائر العمال العرب في موانىء لبنان وسوريا ، فقاموا في الحال بتفجير الخطوط التي كانت تنقل البترول من السعودية الى الموانىء المذكورة ، ولا ننسى البطل ” جول جمال ” الذي قاد طوربيد وفجر نفسه في السفينة الفرنسية المعتدية جان دارك ، وقد اطلق تاريخياً على الجيش السوري الجيش الأول والجيش المصري الثاني ، وسوريا الإقليم الشمالي ومصر الإقليم الجنوبي .
ومع ذلك فأنه من أهم العوامل التي أدت الى حسم المعركة وتوقف العدوان الإنذار الذي وجهه الاتحاد السوفياتي في حينه بقيادة ” بولغانين ” الى كل من بريطانيا وفرنسا ، بأنه اذا لم يتوقف هذا العدوان ، فأن الاتحاد السوفياتي سوف يقصف لندن وباريس بالصواريخ العابرة للقارات .
ان الخطوة التي أقدمت عليها ” صحيفة الاهرام ” وما صرح به قبل حوالي أسبوعين أحد الدبلوماسيين المصريين ، بأن مصر ترى في سوريا جزءاً لا يتجزا من أمنها وأمن العرب القومي ، كل هذا غير كاف لمسح العار الذي لحق بمصر ، بعد أن اذدنبت وانحرفت في مواقفها القومية والسياسية ، ولهثت وراء حلف تقوده أمريكا وبريطانيا وفرنسا والسعودية وقطر وبقية دويلات المسخ العربية ، لقد أقيم هذا الحلف للقضاء على محور المقاومة التي تُعتبر سوريا أحد أركانه .
ان وقوف مصر الى جانب المعسكر المعادي لسوريا ، جعلها جزءاً من المؤامرة عليها خدمة لمصالح إسرائيل العسكرية ، واستمراراً لردة السادات ، كما أن موافقة مصر على طرد سوريا من عضوية الجامعة العربية دون تردد يؤكد بأنها جزءاً من المؤامرة ، وقد قامت بذلك خدمة لملاحقة القوى المعادية للامبريالية والصهيونية والرجعية العربية ، الغريب ان النظام الحالي في مصر بقيادة الرئيس السيسي لا يزال يتخبط في مواقف مصر اتجاه سوريا خاصة ، واتجاه محور المقاومة ، فالإعلام المصري الذي تموله السعودية ، لايزال يروج بأن ايران دولة إرهابية ، خدمة لرغبات أمريكا والسعودية ، ولا يزال يعتبر ايران بأنها المسؤولة عن اثارة القلاقل في منطقة الشرق الأوسط ، اما فيما يتعلق بسوريا فإن هذا الاعلام يتعامل بخجل وتردد ضد القوى المعادية لسوريا ، يخشى من قول الحقيقة بتسمية الإرهاب باسمه ، وبأن أمريكا وتركيا والسعودية وقطر وغيرها من الأنظمة والدول ، هي التي كانت ولا تزال تقوم بتمويل القوى الإرهابية بدعم من إسرائيل .
ان تعاطف مصر المحدود مع سوريا وعدم وقوفها بقوة ضد كل القوى التي تدعم الإرهاب لن ولم يعيدها الى موقعها الطبيعي في صدارة القوى الى تحسم الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط ، ولم يعيد لها هيبتها الدولية ، كما ان تحيز النظام في مصر الى جانب عناصر فلسطينية مشبوهة لفظها الشعب الفلسطيني ، أمثال دحلان وغيره ، سيزيد من عزلتها ويقلل من وزنها في حل القضايا المصيرية في المنطقة .
أما بالنسبة لذكرى الوحدة بين مصر وسوريا ، فان هذه التجربة بحلوها ومرها لا تزال في ضمير هذه الأمة ، وان الحتمية التاريخية تفرض تكرارها ، ولكن على أسس وثوابت مدروسة ، وأهمها وجود أنظمة تمثل شعوبها مع توفير الحريات الكاملة لهذه الشعوب ، ان فشل تجربة أول وحدة عربية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية التي فرضت الوحدة على العرب سياسياً وجغرافياً ، لا يعني أن وحدة الأقطار العربية وشعوبها مستحيلة ، في نفس الوقت فأنه من غير الممكن قيام أي نوع من أنواع الوحدة الا تحت مظلة الاجماع القومي الاجتماعي التقدمي ، وليس على أساس مذهبي ، ولا يمكن قيام أي صورة من صور الوحدة دون فصل الدين عن الدولة ، لأن الحماس القومي لا يكفي ، والحماس الديني لا يوحد الشعوب .
” هنا دمشق من القاهرة ” تبقى همسة قادمة من زمن عشناه وفي أعماقنا الآمال العريضة ، وكلما غرقنا في مستنقع الحاضر نحمل قنديل ” ديوجين ” ونفتش في زوايا الذاكرة عن صور مشرقة .