روايات النساء حول التهجير: بقلم : د . فيحاء عبد الهادي

فلسطين ….
بقلم : د. فيحاء عبد الهادي – فلسطين المحتلة
«ما هاجرنا؛ إحنا ترفّعنا، والترفيع يعني تركنا مؤقتاً، حتى نتمكن من العودة، لا لا، ما هاجرنا؟!».
خديجة خليل أبو إصبع/ سلمة – يافا
رنَّت كلمات «خديجة خليل أبو إصبع» في أذني مرتين متتاليتين خلال الشهر الحالي والشهر الماضي، مرَّة بينما كنت أستمع إلى خطاب الرئيس «محمود عباس»، خلال المؤتمر السابع لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، في 29 تشرين الثاني 2016، حين أكَّد: «تجربة 48 لن تتكرر. قاعدين. قصة اللجوء لن تحصل مرَّة ثانية».
والثانية، وأنا أستمع إلى مداخلة «سيف دعنا»، ضمن المؤتمر السنوي للمركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات)، في 8 كانون الأول 2016، حين دعا إلى إعادة تعريف النكبة، معتبراً أن «قسطنطين زريق» كان أول من اخطأ حين أطلق على ما حدث العام 1948: النكبة.
لم يكن النقاش حول ما حدث العام 1948 جديداً؛ لكنَّ ما سمعته أعاد النقاش إلى الصدارة: ما الذي يعنيه استخدام مصطلح النكبة؟ وهل يهم المصطلح الذي نستخدمه في وصف ما حدث ويحدث من مفاصل رئيسة في تاريخنا؟ وإلى أي حد يجب أن يكون دقيقاً؟
*****
كشفت الرواية الفلسطينية عن زيف الرواية الصهيونية، التي تحدَّثت عن حرب «أخلاقية»، ضد عالم عربي «بدائي»، صاحبها «انتقال طوعي» لمئات آلاف الفلسطينيين، من قراهم ومدنهم، من أجل إفساح المجال للجيوش العربية الجرارة التي سوف تهجم على الدولة اليهودية «الوليدة».
كان من أهم من كشف من المؤرخين الفلسطينيين، عن تضليل الرواية الصهيونية، «وليد الخالدي»، من خلال كتابه «All That Remains» الذي ترجم إلى العربية بعنوان: «كي لا ننسى»، والذي اعتمد فيه على الوثائق الأصلية للفلسطينيين، والمذكرات والخرائط والصور والملاحق، وقدَّم وصفاً تفصيلياً للقرى الفلسطينية المدمَّرة وعددها 418 قرية.
تلاحقت جهود العلماء والمؤرخين، الذين تصدّوا للرواية الصهيونية، من أهمهم: «نور مصالحة»، – الذي وقف لدى مصطلح الترانسفير، وبيَّن أن ما تمَّ هو طرد وترحيل قسري، من خلال كتابه «طرد الفلسطينيين: مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيونيين 1882-1948»-، و»إلان بابيه»، الذي اعتمد «نموذج التطهير العرقي» (Paradigm of Ethnic Cleansing )، بدلاً من «نموذج الحرب» (Paradigm of War) كأساس وموجِّه للبحث العلمي والنقاش العام بشأن أحداث 1948.
*****
يشيع بشكل رئيس في حياتنا السياسية استخدام مصطلح النكبة، وهو مصطلح استخدم بشكل واسع بعد أن أطلقه المؤرخ القومي العربي، وشيخ المؤرخين العرب «قسطنطين زريق»، على ما حدث العام 1948، في كتابه: «معنى النكبة»، حين تمَّ طرد وتشريد أكثر من نصف سكان فلسطين التاريخية، وتهجيرهم إلى بلاد اللجوء.
ولا أعتقد أن الوصف غير صحيح؛ لأن ما حدث هو أكبر نكبة حلَّت بالشعب الفلسطيني منذ العام 1948، وهي أساس النكبات اللاحقة والممتدَّة منذ ذلك التاريخ.
لكنَّ المشكلة التي تحدَّث عنها وذكَّر بها، المؤرخ «إلان بابيه»، هي أن مصطلح النكبة لا يشي بمن اقترف الفعل، وأنه «تعبير مراوغ كونه يحيل إلى الكارثة نفسها أكثر مما يحيل إلى من أوقعها، ولماذا فعل ذلك. إن تجاهل من أوقعها قد يكون ساهم، إلى حد ما، في استمرار العالم في إنكار ما جرى في فلسطين سنة 1948، وبعد ذلك كان تطهيراً عرقياً».
*****
ما هي المصطلحات التي يستخدمها الشعب الفلسطيني في وصف ما حدث العام 1948؟
نكبة؟ ترحيل؟ طرد؟ حرب؟ تطهير عرقي؟
تستخدم النساء الفلسطينيات، – اللواتي أدلين بشهاداتهن حول أحداث التهجير العام 1948 لمؤسسة الرواة للدراسات والأبحاث – مصطلحاتهن الخاصة، النابعة من تجاربهن الشخصية المريرة، حين هجِّرن من قراهن ومدنهن، وأقمن في دول الجوار.
اتفقت روايات النساء على أن جيش الاحتلال الإسرائيلي قد لجأ إلى الطرد المنظَّم لهنَ ولعوائلهن، بوسائل عدة، منها القتل المباشر بالرصاص الحي، وقذائف الطائرات، ومنها القتل غير المباشر، بواسطة إثارة الرعب، وبث الخوف والذعر في نفوسهم، الذي سبَّبه قصف الطائرات، وضرب القذائف، والقنابل، والرصاص، وبراميل البارود، والدبابات، ومن خلال ارتكاب المجازر، وعلى رأسها مجزرة دير ياسين، من خلال الاعتراف بهذه المجازر؛ بل وتضخيمها، ما يؤكِّد أن ما حدث هو تطهير عرقي بامتياز.
استخدمت النساء عبارات دالة في وصف عملية التهجير، تدلّ على أنهن كن يحتمين من الموت القادم لمدة محددة، وأنهنَّ لم يفكرن يوماً بالرحيل؛ بل يرفضن مصطلح الهجرة:
«لم يكن قراراً بالرحيل، كان قراراً باجتناب العدوان والمجازر»، «مرق علينا هجاج»، «هجَّت العالم من هيك»، «ما شُّفنا إلاّ القيامة قامت». «طلّعونا على ذكرت إنه بدنا نرجع»، «وشّو اللي خلانا نشرد، إلاّ نسف البلاد والقتل؟ شو شرَّدنا إلاّ الخوف؟!».
نحتت «خديجة خليل أبو إصبع» مصطلحاً خاصاً، عبَّرت به عن رفض وصف خروجها من فلسطين بأنه هجرة، وأطلقت عليه مصطلحاً محدداً، هو ترفيع: «إحنا رفّعوا الحريم قبل وضلّوا الرجال والمناضلين (ترفض خديجة فكرة أن العائلة هاجرت. في المقابلة التمهيدية أجابت بغضب، عن قضية الهجرة: ما هاجرنا إحنا ترفّعنا والترفيع يعني تركنا مؤقتاً، حتى نتمكن من العودة، وتردِّد: لا لا، ما هاجرنا)».
لمّا سقطت سلمة في 25/4/1948 (تشدِّد خديجة على تاريخ سقوط سلمة، وتجحظ عيناها، وتتحجر نظرتها)، «كيف بدهم يساووا؟! اليهود طوّقت البلد على الأربع أركان، من وين بدهم يطلعوا؟ خلّوا لهم فتحة، إنه يعني زي قولة: يلاّ اطلعوا هينا فاتحين لكم طريق، من الواد اللي بينّا وبين يازور، الواد صار بينّا وبين يازور، شايفة كيف؟! فَ لمّا طلعوا بسياراتهم أخوي وابن عمتي اللي همّه لشركة الألبان، كيف بدهم ينزلوا في الواد؟ صفّوهم على الواد ونزلوا سباحة، لمّا طلعوا ووصلوا اللد».
*****
من خلال سرد رواياتهن؛ تساهم النساء الفلسطينيات في إثراء الرواية الفلسطينية الأخلاقية، وتشكيل الرواية الفلسطينية الجمعية، التي تشكِّل نقيضاً للرواية الصهيونية اللاأخلاقية.
faihaab@gmail.com
www.faihaab.com