شيءٌ من النَّقد : الخيال الشّعريّ والعبارة الجميلة الفاضحة – بقلم : فراس حج محمد

فن وثقافة ….
فراس حج محمّد – فلسطين المحتلة …
قد تتسلّل العبارة الشّعريّة الجميلة المشحونة بالدّهشة إلى نصوص الشّعراء، إلى الحدّ الّذي قد يدفعك أن تعيد القراءة مرّتين، ولكنّك لن تتجاوز ذلك إن كنت تعرف حدود الشّعر وآليات كتابته ومنطقه الخاضع للامنطق.
هل لشاعر مثلا أن يدّعي خلاف الحقيقة حتى وإن كانت جملته مدهشة بارعة في الصِّياغة، إنّ في هذا نوعا من الاستغفال والتّسلّي بالشّعر تسلية ظريفة، لكنّها قلقة، فمع التّسليم الكامل أنّ العبارة الشّعريّة فائقة الحدّ في الخيال إلّا أنّها قد تكون قشرة معنى، ولذا فإنّها غير واقعيّة تماما أيضا. إنها “محض هراء جميل ليس أكثر”. ولكنْ، هل يجب أن يكون الشّعر واقعيّا، وألّا يتخطّى حدود المعقول؟
ثمّة أمر متناقض هنا ربّما لأول وهلة. ولتوضيح المسألة يجب أن نفرّق مثلا بين عبارة “خاطئة كاذبة” وبين التّصوير الفنّيّ الخارج من لدن شاعر يعرف أنّ الشّعر لا يُكْتَب للتّضليل الخاوي من المعنى الحقيقيّ. إنّ على الشّاعر أنْ يستند إلى “ركنٍ شديدٍ” من إحالة واقعيّة منطقيّة في تلقّي العبارة الشّعريّة وتفكيك معانيها وتأويلاتها الخاصّة، وربّما انفتحت العبارة على ما لا يُحْصى من المعاني الواقعيّة وتشير إليها، أمّا أن تكون العبارة سابحة في مطلق التّعبير دون استناد للمعنى الواقعيّ فهذا هو الوهم والتَّهويم، وهنا مقتل الشّاعر الّذي لم يكن يعرف أنّه قد تردّى وادّنى ودنا من هبائيّة الشّعر العقيم.
ليس المهمّ أن تكتب شعرا جميلا، ولكنّ الأهمّ أن تكتب شعرا يتغلغل في أعصاب القارئ، ويؤثّر في كيميائيّته الإنسانيّة لأنّه حقيقيّ، وإنْ كانت عبارته مغرقة في الشّاعرية والخيال لكنْ لا بدّ من أنْ تكون المعاني الّتي تؤدّي إليها العبارة لها صدق ما. على هذا النّحو من العمق كتب الشّعراء الكبار، درويش وأدونيس وسعيد عقل والأخوان رحباني ونزار قبّاني، وقبلهم امرؤ القيس وأبو تمام على سبيل التّمثيل لا الحصر، قصائدهم، ولو فتّشت في أشعارهم عن جمل تهويمية غارقة في جمال زائف فإنّك لا تكاد تجد من ذلك شيئا، لأنّ هؤلاء الشّعراء لم يكونوا كَتَبَةَ شعر، وإنما كانوا ذوي رؤىً شعريّة وفلسفيّة وفكريّة وجماليّة ناضجة فانعكس هذا النُّضوج على العبارة الشّعريّة النّاضجة المكتنزة، مع أنّ القارئ أحيانا يجد التباسا معنويّا، وآخر جماليّا إلّا أنّه لن يعود خاليَ الوفاض من هذا النّصّ المبهم أو ذاك، فهناك دائما مفتاح ما لكلّ نصّ، ألقاه الشّاعر بين يديه، فالتقطه القارئ ليفضّ اشتباك المعنى الملتبس، وينفعل بالجمال المدهش المعبّأ بواقعيّته الزّاهيّة بثوب عبارة شعريّة ليست خياليّة إلا بلباسها الخارجيّ، لكنّها واقعيّة حدّ المباشرة في مآلات معانيها الضّافيّة. لقد خلت قصائد هؤلاء الشّعراء من الجمل “الخاطئة الكاذبة” بكلّ تأكيد.
لعلّ مشكلة الشّعراء اليوم أو كتبة الشّعر أو من سمّوا أنفسهم شعراء على أصحّ تعبير أنّهم يشطحون كثيرا في العبارات “الخاطئة الكاذبة”، ويبحثون عن مجتزآت العبارات، وتنقصهم الرُّؤيا، لعلّ نصوصهم قد رُكّبت تركيبا واعيا، مقصود منها عبارات معيّنة مُوْدَعة في جسد النّصّ لمجرد إحداث الدّهشة الخاوية، وتناسى هؤلاء الشّعراء الكَتَبَة أنّ القصيدة دفقة نور أو صعقة كهربيّة، إمّا أن تضيء أو تحرق فقط، فلا خيار ثالث، فإذا لم تفعل القصيدة بمجملها وتفصيلات جملها وتأويلاتها أيّا من هذين الفعلين فهي ليست سوى عبارات “خاطئة كاذبة”، مع أنّها جميلة. لقد تنبّه النّقد العربيّ القديم لهذه القضية النقدية، فيما عرف بمصطلح “المبالغات الممقوتة”، وتنبّه لها كذلك النّقد الحديث أيضا، وأشار إليها كثير من النّقّاد، وأفاضوا بعرض نماذج متعددة.
إن الشّاعر الحقيقيّ سيظلّ مسكونا بالخوف مع كلّ قصيدة جديدة، خشيةَ أن تكون القصيدة مطفأة. هل يحدث أن تكون القصيدة مطفأة؟ الشّاعر الحقيقيّ يعرف متى تكون قصيدته مطفأة، فإذا لم ينجح الشّاعر بإيداع القصيدة بؤرة مُشِعَّة فلزِّيّة تمنح القصيدة المعنى الأبديّ فستنطفئ تلك القصيدة بعد حين، وربّما لم تتجاوز زمن قراءتها المتضائل في التّأثير والحضور الآنيّ.
لقد سعى الشّعراء الحقيقيّون على مدى التّاريخ وبغضّ النّظر عن مذاهبهم في القول لتكون أشعارهم خالدة مُشِعَّة، لذلك ابتعدوا عن أسر الجمل “الخاطئة الكاذبة”، وصاروا أشبه بالعرّافين والأنبياء، لهم وحيهم، ولهم أسفارهم الّتي يتلقونها من ذات لحظة شعريّة تجعل من كاتب الشّعر شاعراً عظيما. هكذا كانت النُّصوص الدّينيّة الخالدة، وهكذا يكون الشّعر الّذي لا يفنى في مسّه الجمال الحقيقيّ في قصيدة لا تفتأ تقول معانيها المتجدّدة مع كلّ قراءة جديدة. إنّ هذا يجعل الشّعر الحقيقيّ كائناً نادر الحدوث وصعب الكينونة.