حاسوب الابن – بقلم : ماجد عاطف

القصة ….
قصة : ماجد عاطف – فلسطين المحتلة …
بسّط بالحاسوب وأغراضه الثانية منذ الصباح الباكر. اليوم هو الجمعة وستظهر بضائع مستعملة كثيرة. توافد الباعة الآخرون واحداً تلو الآخر، ووجدوه يحتل المساحة الأفضل: نظيفة، لا ذباب فيها ولا سوائل على الأرض أو روائح، إضافة إلى شجرة الصنوبر الضخمة التي تمد ظلها الوارف.
اقترب منه فتى من الذين يتاجرون في الأغراض المستعملة. إنه من الذين يعرفون احتياجات لها ويستطيع اصلاح المعطل منها، ويبيعها مجددا. لهذا يأتون مبكراً، للشراء بسعر رخيص.
همّ الفتى بالعبث في الحاسوب النقال وتقليبه، فدفع اصابعه.
–         أريد أن افحصه..
يحق للمشترين فعل هذا، فحص البضاعة المستعملة قبل أن يشتروها، لكن الفتى صغير، في السابعة عشرة، والحاسوب عمره أكبر منه، لعله الجيل الأول أو الثاني من الحواسيب النقالة التي وصلت البلد.
–         إنّه قديم، لن تستطيع فحصه.
–         وما الذي ينفع له إذا؟ لا سعة ولا سرعة ولا مواصفات شاشة ولا انترنت!
تبسّم له. كل ما ذكره صحيح:
–         لكل فولة كيّال.
وضحك الفتى وقال:
–         المثل يقول يا عم: فولة منقورة وكيال أعور!
–         صحيح أيضاً.
تراجع الفتى مسروراً متضاحكاً وذهب إلى بسطة أخرى يفحص ما عليها.
//
واقترب شار آخر.
–         السلام عليكم.
–         وعليكم السلام.
–         هل الحاسوب شغّال؟
لفت انتباهه فرد بحرص:
–         نعم.
–         ما هي مواصفاته؟
خاب أمله.
في الثلاثينيات، يبدو ميسور الحال، وفي يده تتدلى علاقة لمفاتيح كثيرة: سيارة ومنزل ومحلات، وأمور أخرى. طالما سأل عن المواصفات فهو يجهل الحواسيب، وينتظر أن يخبره أحد. لم يرد أن يصرّح بها، لكنه أثار فضوله، فسأله:
–          لأي شيء تريده؟
–         إنّه أثري. يصلح للمتحف أو يُباع على سبيل الاقتناء.
لا. ليس هذا ما يريده مصيراً للحاسوب، أن يعرض في مكان ما للطرفة والفرجة. عندما رآه ساكتاً، انصرف عنه.
//
وإنّه لمشتر آخر ضليع، مهندس الكترونيات سابق وآثر التجارة، يبيع ويشتري ويقتني. فحص الأغراض الأخرى عن عمد قبل أن يتوقف عند الحاسوب.
كان في عينيه اهتمام يتلألأ سرّا، فعرف أنه يخفي اهتمامه كيلا يدفع كثيراً، فبادره هو:
–         هل تريد معرفة شيء عنه؟؟
–         لا.
هذا واضح. لم يطلب حتى لمسه ولا سأل إن كان شغالاً. ومباشرة سأله:
–         كم سعره؟
كان يستطيع أن يطلب أي ثمن ما دام في حدود القيمة الفعلية، وهي هنا قيمة الحاسوب الشغّال وتاريخه معاً.
–         لأي شيء تريده؟
–         للقطع. قطعه نادره لم تعد تصنّع وأعرف عن أكثر من حاسوب من طرازه، لكن لا قطع لتصليحها. طبعا لن استفيد من قطعه كلها.
هذا آخر ما يريده للحاسوب الذي حافظ عليه منذ موت ابنه قبل تسع سنوات وابعده عن الاحتكاك والرطوبة. فقط كل اسبوع يتركه في الكهرباء مدة ساعة كيلا تفرغ بطاريته الداخلية أو يشغله كي تظل قطعه فعّالة. لا، لن يسمح بتمزيق أوصاله.
–         هل تريد بيعه يا حاج؟
–         سأل عنه أكثر من شخص وصار بيننا كلام.
أوحى له أنه التزم بوعد.
//
لما رأت الحاسوب القديم تركت صاحبتها واقتربت. جامعية كان يراها في المظاهرات تهتف بين النساء وتكاد تتعثر بجلبابها. مرّة رآهم يطاردونها لولا أن احتمت بين الناس في السوق، ثم تخلت بسرعة عن العباءة الخفيفة التي تبين أنها ترتدي جلبابا تحتها، وخرجت من مدخل آخر للسوق.
–         هل يعمل يا عم؟
–         طبعاً.
أخذت تتشاور مع الأخرى التي ترافقها وسرى بينهما الهمس الكثير. ثم اقتربت منه:
–         هل البرامج كلّها داخله؟
إنها تعرف عمّا تسأل. أخرج علبة أقراص قديمة، وهزّها في وجهها:
–         وها هو نظام تشغيله أيضاً، مع قرص إضافي للنقل!
إنها تذكّره بابنه الجامعي الذي كان ينفرد بحاسوبه القديم ويشتغل عليه تحديداً، رغم أن لديه آخر حديثاً. مات وهم يعذبونه يحاولون انتزاع الأسرار منه. عندما كان يسأله عن سبب تفضيله العمل على الجهاز القديم، كان يخبره أنه غير قابل بسبب قدمه للمتابعة، فهو بمواصفات يستحيل أن تبث محتوياته الداخلية. كان يحتاج فقط إلى استخراج الملفات –الخطيرة غالباً- قبل أن يحدّثها على حاسوب آخر، في مقهى الانترنت. تذكّر فهتف:
–         جدوا فقط حاسوبا حديثا يقبل الأخذ من الأقراص المرنة.
–         كم ثمنه يا عم؟
–         إنّه هدية.. لكم.
لم يظل هناك ما ينتظر لأجله، فبقية الأغراض لا قيمة لها يمكن تكويمها بالبساط وتركها مكانها، إلى ما بعد الصلاة.