عندما يتحدث مؤرخ عن محقق .. عيلم من كربلاء – بقلم : د . نضير الخزرجي

دراسات ….
بقلم : د. نضير الخزرجي – لندن ….
ما من إنسان على وجه البسيطة إلا وقادته قدماه الى بلد قريب او الى بلد لم يكن ليبلغه إلا بشق الأنفس، قرُب أو بعد، والندرة النادرة مَن ولد وعاش ومات في مسقط رأسه دون أن يرى العالم الخارجي، ولكل مسافر وجهة هو موليها، ولكن القليل القليل من الكثير الكثير من المسافرين مَن يحوّل مشاهداته الى كتاب مسطور يمثل إضافة جديدة في أدب الرحلات وسمر الجلسات.
ومن أولئك القلة النادرة هو المؤرخ العراقي المعاصر الأديب الدكتور السيد سلمان هادي آل طعمة المولود في مدينة كربلاء المقدسة سنة 1935م، الذي كتب نحو 70 كتابًا معظمها في تأريخ مدينة الحسين عليه السلام وما يتعلق بها، فهذا الرجل الذي حمل همّ مدينته منذ طفولته وترجمه الى مؤلفات ومصنفات توثق حاضر المدينة وتاريخها، عهدته حاملا قلمه أينما حلّ وارتحل يوثق هنا ويؤرخ هناك، رأيته في صغري وشبابي وهو يقطع شوارع مدينة كربلاء وأزقتها التراثية التي بدأت تقرضها دودة التوسعة دون أن يُصار الى جمع التراث في متحف خاص، رأيته في دمشق سنة 2001م وهو يتأبط أوراقه، ورأيته في كربلاء سنة 2012م مكبًّاعلى مكتبته الخاصة، ورأيته في بيروت سنة 2014م حاملا كتبه، عدت ورأيته في كربلاء سنة 2016م رغم ما ألمّ به من عارض صحي فأهدانا أحد مؤلفاته الحديثة الطبع، وعندما زار لندن سنة 2005م لم أوفق لرؤيته كنت منشغلا بالإعداد لرسالة الدكتوراه في فقه السياسة، ولكني وفقت لقراءة (مشاهداتي في لندن) وهو عنوان الكتاب الذي صدر عن بيت العلم النابهين في بيروت في 120 صفحة من القطع الوزيري، وفيه وثق الدكتور سلمان آل طعمة مشاهداته في لندن منطلقا من المركز الحسيني للدراسات الذي تصدر عنه مجلدات دائرة المعارف الحسينية.
ومن رحم (مشاهداتي في لندن) أصدر بعد عشرة أعوام من تلك الرحلة اللندنية كتابه الجديد (عيلم من كربلاء في نشأته الأولى) وهو يوثق خلال إقامته القصيرة ما جرى بينه وبين مؤلف دائرة المعارف الحسينية المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، المولود هو الآخر في مدينة كربلاء المقدسة سنة 1947م، من حوارات ونقاشات ومشاهدات الكرباسي في كربلاء المقدسة منذ ولادته حتى خروجه من العراق خائفا يترقب في 28/12/1971م.

عيلم من كربلاء
للكرباسي محطات خمس في مسيرته الحياتية انطلق قطارها من كربلاء وتوقف عند محطة لندن، وبدأت المرحلة الثانية بهجرته القسرية الى إيران، والثالثة بهجرته الى لبنان، والرابعة بهجرته الى دمشق، والخامسة التي بدأت منذ عام 1986م ومازالت بإذن الله، والكتاب الذي سطرته محبرة الدكتور سلمان آل طعمه وعلّق عليه نجله الدكتور أحمد سلمان آل طعمة، صدر عن بيت العلم للنابهين في بيروت في طبعته الأولى سنة 2016م في 328 صفحة بحجم (14 × 21سم).
والكتاب كما جاء في العنوان “في نشأته الأولى” تأريخ لربع قرن قضاها الفقيه الكرباسي في ربوع كربلاء متنقلا بين حوزتي كربلاء المقدسة والنجف الأشرف دارسًا ومدرسا حتى حاز الدرجات العلمية العليا التي كانت حجر الأساس للثروة العلمية والمعرفية والفقهية التي هو عليه الآن توّجها بدائرة المعارف الحسينية في أكثر من تسعمائة مجلد، وسلسلة الشريعة في نحو ألف عنوان وكرّاس، وسلسلة الإسلام في العالم في نحو ثلاثمائة كتيب، وتفسير القرآن بنوعيه النثري والنظمي في أكثر من ستين جزءًا، ودواوين النظم في نحو ثمانية عشر ديوانا، فضلا عن العشرات من التصانيف المتفرقة في الأدب واللغة والأوزان والعروض وغيرها.
وقد أحسن المؤرخ الدكتور آل طعمة صنعًا عندما أطلق على خلاصة محاوراته مع الشيخ الكرباسي عنوان (عَيْلَم من كربلاء)، تشبيها بالبئر العميقة، لإن من معاني “عيلم” هو البئر الغزيرة الماء كلما امتاح منها الغارفون ارتفع ماؤها، وجاء التشبيه أقرب للواقع، ومصنّفات الكرباسي دالّة على نفسها بنفسها، بل دالة على شخصية هذا العيلم الذي كان في صغره وشبابه أيام الدراسة ينام الساعتين كل يومين ثم الساعتين كل يوم حتى يلتهم العلم نهما، ومنذ أربعين عاما استقر على اربع ساعات في اليوم، وحسب تعبير مؤرخ كربلاء آل طعمة: (وأثناء تواجدي في المركز الحسيني للدراسات في لندن وكثرة احتكاكي بسماحة الشيخ الكرباسي تلمست الكثير من نشاطه وحيوته والتي أشرت إليها في كتابي –مشاهداتي في لندن- وكنت فخورًا به لأنه تخرّج من معاهد مدينتي بعد أن ولد على أرضها المباركة بجوار سيدي أبي عبد الله الحسين عليه السلام .. فإن ذلك الشاب أصبح اليوم علما يُشار إليه بالبنان وبالأخص بعد أن تخرّج من معاهد العلم: كربلاء المقدسة والنجف الأشرف وطهران وقم المقدسة، وشهدت تلك الحواضر بعلميته).

تاريخ مدينة وأمَّة
من يقرأ “عيلم من كربلاء” سيجد نفسه أمام مذكرات عن تاريخ مدينة وبلد، فالكرباسي وهو يحدّث آل طعمة عن سنوات عمره في العراق إنما يستعرض جانبا من تاريخ مدينة كربلاء بخاصة والعراق بعامة، لاسيما وأن المتحدث ولد في أسرة علمية عريقة ترجع بنسبها إلى الإمام المجدد محمد إبراهم الكرباسي المتوفى في إصفهان سنة 1845م وقبره يُزار، والذي يرجع بنسبه الى علم الإسلام ورافع رايته ووالي الإمام علي (ع) على مصر الفارس الهمام مالك بن الحارث الأشتر النخعي المستشهد إغتيالًا في الدقهلية بمصر سنة 37 هـ حيث قبره هناك يُزار.
وتأتي أهمية هذه المذكرات من أهمية الفترة التي عاصرها الكرباسي وخطورتها وهو يتناولها بدقة، وهي فترة الربع الأخير من العهد الملكي والربع الأول من العهد الجمهوري، وهي فترة سقوط النظام الملكي في 14/7/1958 في انقلاب عسكري وتزعَّم فيه عبد الكريم قاسم الزبيدي الحكم، وسقوط نظام عبد الكريم قاسم في 8/2/1964م في انقلاب عسكري ومعه اليسار العراقي، وتزعم فيه عبد السلام محمد عارف الجميلي الحكم ومعه القوميون وحزب البعث، وموت عبد السلام بسقوط طائرته في البصرة في 13/4/1966م وتولي شقيقه عبد الرحمن محمد عارف الجميلي الحكم حتى 17/7/1968 حيث انقلب عليه رفاقه وأزاحوه وتولى حزب البعث الحكم كليا بواجهة الرئيس أحمد حسن البكر الصورية وسلطة صدام حسين الفعلية.
من هنا فإن قراءة العيلم هي في الحقيقة قراءة لواقع العراق في تلك الفترة الحرجة التي مازال الشعب العراقي يجر أذيالها حتى يومنا هذا، وقد أحسن المؤرخ آل طعمة صنيعا مرة أخرى عندما ألحق بالمذكرات مجموعة من الأراجيز من نظم المحقق الكرباسي التي توثق لتلك المرحلة، استلها من ديوان (مركب الألفين من شذا القرنين).
وبإزاء الجانب السياسي من صورة العراق كما تعكسها ذاكرة الكرباسي، فإن هذه المرآة تظهر الجانب العلمي والتعليمي والحوزوي والإجتماعي الذي كانت عليه كربلاء المقدسة وعموم العراق، وتظهر الأدوار المهمة التي لعبها عدد غير قليل من وجوه وأعيان وأعلام المدينة المقدسة الذين ورد ذكرهم في (العيلم) على مستوى العراق والعالم الإسلامي، بل وفي (العيلم) شخصيات فاعلة كادت أن تسحقها عجلة الغفلة لولا أن أنقذها الكرباسي من جادة النسيان الحادة بمقود الذاكرة الحادة.

صورة ناطقة
وحتى تستبين طريق الذاكرة، لابد من المرور على عناوين الكتاب، فهي بمقام الفصيل الذي يتبع أثر أمه، وفيها: (مقدمة الناشر، تقدمة، البداية، آل الكرباسي، الشيخ محمد إبراهيم الكرباسي، الشيخ محمد حسن الكرباسي، الشيخ محمد حسين الكرباسي، الشيخ محمود الكرباسي، الأستاذ كاظم الكرباسي، الأستاذ موسى الكرباسي، الولادة، من ذكريات الطفولة، النشأة، الدراسة الأكاديمية، من ذكريات الدراسة، المرجعية، الدراسة الحوزوية، العطاء العلمي، المشي إلى النجف، الشعر في ذاكرة الشباب، ممارسة الحفظ، التعمُّم، هيئة الأمر بالمعروف، الفراغ القاتل، هي الأخلاق تسقي المكارم، خرج خائفًا يترقّب، نهاية المطاف، الملاحق، الملحق الأول: أرجوزة الشيخ: إستهلال، الأجداد، هجرة الأجداد والأحفاد، الجهل والجاهلية، من النشأة إلى الهجرة الأولى 1366- 1391هـ: الولادة والنشأة، سفرةُ الحج، ذكريات، البساطة، كرم الضيافة، تسلية الأطفال، الشقيقة، الشيخ والمُلّة، السفر إلى إيران، الإلتحاق بمدرسة السبط، أجواء الدراسة، تأسيس مدرسة الإمام الصادق، الإلتحاق بالحوزة، ثورة 14 تموز، لا راحة في الحياة، العلوم القديمة، نشاطات، جراح عام الثمانين، اللثّة الدامية، ثورة 14 رمضان، الحرس القومي، ظهور صدام، الحرق هو العاقبة، ضعف الحكم، محاولات العشائر وتخوّف المرجعية، حكومة البعث، السفر إلى الشام، كربلاء والنجف، الزّواج، بطش البعث، ولادة علاء، الملحق الثاني: الصور التي ورد ذِكر أصحابها في المتن، الملحق الثاني: موجز ترجمة المؤلف ومَن ألَّف فيه، المؤلف في سطور، والكرباسي في سطور).
ومن جماليات (عيلم من كربلاء) حزمة الصور الشخصية والتاريخية ومجموعها 239 صورة، هي بذاتها تاريخ مصور عن مدينة كربلاء المقدسة وعموم العراق، تعكس في الوقت نفس قوة ذاكرة المؤلف والمحقق معًا في تشخيص من في داخل الصورة رغم بعدها الزماني السحيق الذي يعود بعضها الى ستين سنة مضت.
ومن جمالية (عيلم من كربلاء) أنها حكاية مؤرخ وأديب عن سيرة محقق وفقيه، عن مفصل زماني ومكاني، تسارعت فيها يد التوثيق لإنقاذها من جب الضياع، وما في جعبة الكرباسي الكثير الكثير من الذكريات في محطاته الخمس أوثقها وأرَّخها نثرا وشعرا، تاركا نشرها لما بعد الحياة القصيرة.
الرأي الآخر للدراسات- لندن