فضاءات عربية ….
بقلم : بكر السباتين ,,,,,
قصة الرجل الطفرة ورد الاعتبار
البريطانيون الذين تطوعوا لمقاطعة الكيان الإسرائيلي لإحساسهم بالذنب بسبب وعد بلفور الذي بموجبه منحوا لليهود الحق بفلسطين، فهم الآن أحسّوا بالذنب أكثر حينما اعترف (توني بلير) مؤخراً بأن صدام حسين كان بريئاً من التهم التي ألصقت به من قبل دول التحالف التي على أساسها دُمِّرَ العراق، ذلك المنجز الصَّدّاميُّ العظيم بكل المقاييس، حينما وصل إلى مرحلة متقدمة من النمو، بناءً على جهودٍِ حثيثةٍ منه تجاوز بها الإنسان العراقيُّ الصعاب والزمن.. هذا ما أدركه البريطانيون أخيراً ليقفوا على السبب الحقيقي الذي دفع بأمريكا وحلفائها حتى يقوموا بضرب العراق متجلياً بشروع رئيس مقتدر مثل صدام حسين ببذل الغالي والرخيص لبناء العراق والشخصية العراقية الفذة.. هذا ما استهدفه العدوان الأمريكي البريطاني الصهيوني، إنه تدمير الإنسان العراقي واستنفاذ طاقته الإيجابية ومن ثم تدمير كرامته وخلق جيل لا يتذكر من تاريخه سوى الهزائم مع الذات.
إن الذين نصبوا تمثالاً لصدام حسين كان مسروقاً من الفاو إبان عاصفة الصحراء، في إحدى حدائق ثكنات الجيش البريطاني الذي ساهم بضرب العراق، وقد حموه من التدمير على يد الفئة المنتقمة من المتواطئين العراقيين مع التحالف، فقد عزوا ذلك إلى ما أبداه صدام من شجاعة في مواجهة خصومه، كأنه اعتذار لرجل تنموي لا يستحق إلا التقدير.
فقط ما عليكم إلاّ أن تقارنوا بموضوعية بين عراق العقد الثامن من القرن التاسع عشر إبّان حكم صدام حسين الذي دمره التحالف الصهيوني الغربي, وعراق ما بعد الاحتلال الأمريكي إبّان الدولة الفاشلة اليوم
إن الدعاية الصهيوعربية تقول بأن صدام حسين جزار قاتل، ومن أهم مخرجات سياساته المتهورة أنه احتل الكويت، ودمر العراق!! بينما أعداء صدام حتى بعض من جاء منهم على ظهور الدبابات الأمريكية، باتوا يعترفون بأن صدام حسين لو ظل يحكم العراق؛ لأصبح هذا البلد من دول العشرين الأغنى في العالم.
فماذا فعل صدام حسين ليبني عراقاً قوياً بكل المقاييس بعيداً عن الدعاية المغرضة المكشوفة التي لم تستطع التهام مشروعه النهضويّ آنذاك؟
ينبغي أن لا ننسى بأن صدام حسين حول العراق في زمن التخلف العربي إلى مشروع نهضويّ عملاق (في ظروف حروب إقليمية فرضت عليه) ما أثار حفيظة الغرب وأرعب الكيان الإسرائيلي، إذْ أنشأ أكبر صندوق سياديٍّ من فائض إيرادات البترول وبدأ يدعم التنمية في العراق بسخاء، فأقام البنيان والجسور والبنيات التحتية والأنفاق، والصناعات المدنية والعسكرية التقليدية، لا بل أسس لقاعدة صناعية نووية ببناء أول مفاعل نووي في العراق بمساعدة فرنسية (دمرته “إسرائيل” في تموز عام 1981)، ودعم البحث العلمي بسخاء مستقطباً لأجل ذلك أكبر العلماء العالميين إلى العراق من أمثال العالم الذري المصري يحيى المشد الذي اغتالته الموساد في باريس نهايات القرن19، والعالم الكندي (جيرالد بول) الذي ساهم في بناء المدفع العملاق وصواريخ (سكود) للعراق ، وأسس لقاعدة صناعية تكنولوجية في مجال الصواريخ وعلوم الفضاء.
وخلافاً للدول العربية آنذاك فقد صرف صدام أموال العراق لبناء الإنسان العراقي الأمر الذي أهل بلاده ليكون في مصاف الدول المتقدمة. وحينما نجح العراق في إطلاق الصاروخ العراقي الفضائي ( العابد) بنجاح، وهو أول صاروخ من صنع عربي تم إنشاءه ليحمل الأقمار الصناعية إلى مداراتها في الفضاء الخارجي، وتم صنعه من قبل هيئة التصنيع العسكري في العراق بقدرات عراقية خالصة 100 % وتم إطلاقه وتجربته بنجاح في 5 ديسمبر 1989 من قاعدة الأنبار الجوية، ومن ثم إعلانه الشهير عن استعداد بلاده لصناعة أول قمر صناعي عربي لتزويده (منظمة الاتصالات الفضائية العربية/ عربسات) بأسعار مخفضة جداً.
من هنا ينبغي أن ندرك كم أن الأمريكيين وحلفائهم وأولهم الكيان الإسرائيلي أبدوا ارتعادهم من تغوُّل صدام حسين بمشروعه النهضويّ الذي كان لو أتيح له البقاء أن يحاصر الكيان الإسرائيلي المتربص بالوطن العربي، وتحول الوطن العربي إلى منظومة دول قوية متكاملة تحت شعار كان قد أعلنه صدام حسين آنذاك بأن بترول العرب للعرب؛ فتم الإجهاز عليه من خلال عاصفة الصحراء المدمرة، حتى زلزل العراق لكي لا تقوم له قائمة بعدها، توطئة لتقسيمه إلى دويلات قومية وطائفية تدور في أفلاك إقليمية خارج فضائها العربي، وهو ما يجهز له الآن.
فكيف نفذت المؤامرة!؟
نتذكر كيف تسللت المعارضة العراقية المحمولة على الدبابات الأمريكية لضرب مشروع صدام حسين العملاق من خلال عاصفة الصحراء التي قادتها أمريكا وحلفائها، بمساندة صهيونية لوجستية مفتوحة، واشتد الأكراد الذين حصلوا على شبه استقلال ذاتي في عهده، بمقاومة مشروعه المستهدف، وبذل الجهود لإفشاله، وتأليب الرأي العالمي عليه، لتحقيق إقليم كردستاني مستقل عاصمته الاقتصادية مدينة كركوك البترولية، بتحريض استخباري إسرائيلي، فقام صدام سعياً منه لحماية مشروع العراق النهضوي (كما يفعل أردوغان الآن ضد الانقلابيين في تركيا ولو بأقل حدة ) بمعاقبة كل من يسعى لتخريب العراق، فكانت هذه المجازر ( رغم إدانتي لها من باب حقوق الإنسان) بحق كل من يدعم عدو العراق آنذاك المتمثل بكل من إيران والكيان الإسرائيلي وأمريكا التي خافت على مصالحها في الخليج، سعياً من الأخيرة لحماية الكيان الطفيلي الإسرائيلي؛ لذلك قام الغرب بقيادة أمريكا وإسرائيل بضرب مشروع العراق النهضوي بعد أن اتهموا صدام حسين زوراً بحيازته أسلحة دمار شامل (حسب اعترافات توني بلير الأخيرة) وأغروه بدخول الكويت في فخ رتب له من قبل أمريكا وحلفائها، فاقترف تلك الغلطة التي لو قامت بها “إسرائيل” لغفر لها.
وبعد هزيمة العراق آنذاك تم قتل العلماء العراقيين واصطيادهم على يد الموساد الإسرائيلي، حتى دمر العقل العراقي النهضويّ، وهكذا كانت الخاتمة المأساوية للعراق التنمية والإنسان، وخاصة اغتيال الشخصية العراقية التي كلفت صدام المليارات من الدولارات لبنائها.
أما وقد أعدم الغضنفر صدام حسين؛ فأنظر ماذا حلّ بالعراق على يد أعدائه من العملاء الذين دخلوا العراق على ظهور الدبابات الأمريكية! ألم يقتل من العراقيين أضعاف ما فعل صدام، ليس ذلك لحماية العراق المتقدم بل لتخريبه وتحويله إلى دولة فاشلة ومنطقة لتصفية الحسابات الإقليمية، يرتع فيها الفاسدون والإرهابيون والإيرانيون والموساد الإسرائيلي، كما هو الآن.. ومن ثم تحويل العراق إلى فزّاعة إقليمية لتزويد العرب بالطاقة السلبية، من أجل تحويل الدول العربية إلى مشروع تطبيعي مع الكيان الإسرائيلي، الذي كان الرابح الأكبر من تدمير مشروع صدام حسين النهضويّ في العراق.
الآن يتذكر بعض أعداء صدام، وفي أتون صراع البقاء في دولتهم العراقية الفاشلة، كيف خسروا مشروع العراق النهضويّ. وكيف قتلوا الشخصية العراقية التي بناها صدام بأموال الشعب العراقي. وكيف أنه لو استحوذ صدام حسين على ثروات العراق لنفسه، كما يفعل الحكام العرب الآن؛ لأصبح من عمالقة الخليج العربي، يشمخ بينهم بثوبه الأبيض الطويل، وحطته البيضاء المطوقة بعقال من الرفعة والشموخ، مزواج لا يكل ولا يمل من استبدال الحريم. مثلما يتذكر الشرفاء من العرب كيف الراحل صدام حسين رفض السلام مع الكيان الإسرائيلي مؤكدا حينها على أنه وبجهود عربية سيتم تحرير فلسطين خلافاً لما يفعل قادة أسلوا الآن؛ لذلك طالت صواريخه من نوع (سكود) عمق تل الربيع بما يسمى “تل أبيب”.
لذلك كان صدام حسين يدعم مادياً ومعنوياً الأسر الفلسطينية إبان الانتفاضة المباركة الأولى في الضفة الغربية وقطاع غزة، وخاصة التي يستشهد أبناؤها، خلافاً لدول الاعتدال العربي التي عوضت خسائر هذا الكيان الإسرائيلي المغتصب، والناجمة عن المقاطعة الأوربية لاقتصاده، من خلال التطبيع المعلن معه وبأقصى الطاقة الممكنة، فجاءوا بالدب إلى كرمنا.
من هنا ينبغي أن ندرك بأنه ليس العرب هم الذين ينصبون تمثال صدام في حدائقهم، بل بريطانيا التي تضرب لهذا الرجل التحية لأنها تدرك مغزى أن يكون بانياً للعراق من اللاشيء، فدمر على هذا الأساس.
العالم كله بات يضرب له التحية اعترافاً منه بأن هذا القائد الفذ ( رغم دكتاتوريته) فإنه سقط فريسة للخيانة وجبروت الغرب، والكيان الصهيوني المتربص والمتواطئين من العرب، لأنه صنع عراقاً متقدماً بات يقترب من منطقو محظورة على العرب.
فمن العار بعد كل ذلك أن نتحدث عن القبور الجماعية ونحن نشاهد غزة تدك في الجرف الصامد على رؤوس أهلها من قبل الجيش الإسرائيلي، ومخيم جنين يمسح عن الوجود، وجنوب لبنان يدمر في تموز 2006، هذا الجيش الذي أرعبه صدام حسين ذات يوم، صار يشكل الضامن للأمن العربي القومي وفق رؤية الاعتدال العربي في مواجهة التمدد الإيراني. وهل أيضاً من المنطق الحديث عن قبور جماعية ( وهي مدانة) والسيسي يذبح شعبه بعد انقلابه على حكم مرسي، على مرأى من العالم فيما يستمر في تدمير الاقتصاد المصري لتخبطه وقلة خبرته، حتى تهاوى الجنيه أمام الدولار إلى معدلات قياسية خلافاً لمشروع صدام حسين النهضويّ العملاق.
وكيف نتباكى على ضحايا صدام بينما يقتل منهم عشرات مئات الأضعاف من قبل المتقاتلين في كل من سوريا واليمن وليبيا حيث عموم حالة التشرذم التي حولت تلك البلدان إلى دول فاشلة بامتياز..
تمثال صدام حسين الذي نصب في حديقة إحدى الثكنات العسكرية الإنجليزية جاء كتحية أوروبية لرجل تنموي بنى العراق من اللاشيء فاستحق منهم ضربة ظالمة.
لكنهم هذه المرة آسفين كما يبدو على إعدام زعيم تنموي طموح كان لا يستحق إلا الثناء والتقدير.