المالح في زمن السكر – بقلم : شوقية عروق منصور – فلسطين المحتلة

فضاءات عربية ….
بقلم : شوقية عروق منصور – فلسطين المحتلة ….
الذاكرة ثرثارة ، تتكلم كثيراً ،  والذكريات تحمل ملامح الوجوه التي مضت ، وعلى ايقاع الزمن نطوي الكثير،  نحاول السباحة في برك العسل فنجد ان اجسادنا مثقلة بالكتمان ، من اسرار القلب الى اسرار اللحظات ، الى صورنا التي دفنت في ارشيف الماضي .
مات المخرج السوري ” خلدون المالح ” قد لا يعرفه البعض ، ولكن من كان يحدق في الشاشة التلفزيونية التي كانت تبث على نبض الأسود والأبيض ، حين كان التلفزيون ذلك الصندوق السحري ، ينتظر المشاهد اسبوعاً كاملاً حتى يشاهد حلقة أخرى ، واسبوع بعد اسبوع يتحول المسلسل العربي – الاردني ، المصري ، السوري ، اللبناني ، لم يكن لا مسلسل تركي أو مكسيكي – يتحول المسلسل العربي الى جزء من الحياة والفرح والحزن والحكايات التي يقذفها الشارع والحارة والمقهى ، ونهاية المسلسل تكون حكاية الانتظار ، في احدى القرى كان أهل القرية ينتظرون الحلقة الأخيرة من المسلسل لكن قطعت الكهرباء ، فما كان منهم الا  أن ركبوا  الحمير والعربات والسيارات وذهبوا الى القرية المجاورة حتى يشاهدوا الحلقة الأخيرة ، وقال لي احدهم بعد سنوات ،  أنه وصل الى أول بيت في القرية ودخل دون – أحم ولا دستور – وجلس على الأرض طالباً من صاحب البيت فتح التلفزيون بسرعة كي يشاهد الحلقة .
في زمن القتل والدم وارقام القتلى التي تتصاعد من فوهات المتنزهين في حدائق السياسة وفي ربيع الاستفزاز الوهابي قد يكون موت أحدهم نوعاً من ابجدية السخرية ، وانطفاء شمعة في منتصف النهار ، لكن حين يموت المبدع لا بد أن يصرخ الفراغ الذي كان متخماً بالضجيج ، وموت المخرج السوري ” خلدون المالح ” ينتهي الى الصمت ، ولكن تبقى أصابعه التي حركت الذكريات  والصور في خيالاتي .
أذكر أن والدي أول من اشترى جهاز التلفزيون في الحارة ، كانت طفولتنا تنحصر في سحر الشاشة التي تنتشلنا من اللعب في الأزقة ، فحين تعلن الساعة الساسة مساء  كنا نهرع ونعلق وجوهنا ولهاثنا وتلهفنا على الشاشة التي تأبى أحياناً أن تبقى صافية فتقرر أن تشوش ، فيأتي أبي ويخبط على الصندوق الخشبي ، حيث كان التلفزيون يتميز بصندوقه اللامع ، ولا ننسى الشرشف المطرز الذي يوضع فوقه ، وكانت أمي قد وضعت فوق الشرشف تمثالاُ لحصان اهدته لنا خالتي عندما جاءت للمباركة بشراء التلفزيون .
وعندما تعجز قبضة أبي عن ارجاع الصورة ، كانت المهمة الثانية الصعود الى السطح ثم يبدأ أبي يحرك الانتينات الخاصة بالمحطات ، وينادي بأعلى صوته – أجات المحطة – فنصرخ لا – وكنا قد حفظنا المهمة ، واحد يقف أمام شاشة التلفزيون ، وواحد يقف على الشباك وواحد يقف على الدرج المؤدي الى السطح ، وواحد يصرخ للآخر حتى تصل الصرخة الى أبي ، الذي يجد نفسه اسيراً للهواء والطقس فينزل بعد أن يشتم التلفزيون وصانعه ، وعندما كبرت عرفت أن مخترعه ” جون بيرد ” لو وضع في الحسبان شتائم أبي لما اخترعه .
موت المخرج ” خلدون المالح ” يغسل ذاكرتي ، هذا المبدع السوري الذي مات في الغربة ، جعل من ضحكاتنا طيوراً تحلق في الفضاء ،  حين كنا ننتظر مسلسل ” حمام الهنا ” غوار الطوشة مع حسني البرزان و أبو صياح ” رفيق سبيعي ” والصبي عبده وديكور الحمام الذي تجري بين أرجائه المقالب المضحكة ، في تلك اللحظات كان الفرح يلف الغرفة وينتشر في الحارة ، والضحكات تسقط على ارضية  العائلة التي تحضن الجيران والاصدقاء وفناجين القهوة والشاي ، وعندما نقيس الضحكات تكون درجة حرارة دفئها قد اقتحمت أضواء قلوبنا .
وعلى قدر بساطة المقالب التي يقوم بها المشاكس غوار ” دريد لحام ” ضد الرجل الطيب حسني البرزان  كنا نحمل هذه المقالب الى المدرسة ويكون حديثنا حول المقلب وننقسم الى مجموعتين ” جماعة غوار ” وجماعة ” حسني البرزان ” ، وتوقعاتنا عن الحلقة القادمة .
في زحمة المقالب كان اسم ” خلدون المالح ” يطل في المقدمة والنهاية ، فهو المخرج الذي يحرك ويدفع العمل الفني الى الضوء والنجاح ،  ورافقت ” خلدون المالح ” في المقالب أيضاً  عبر مسلسل ” صح النوم ” الذي ظهرت به  شخصية قائد الشرطة  ” أبو كلبشة ” والصحفي ” حسني البرزان صاحب عبارة اذا اردنا أن نعرف ماذا يدور في ايطاليا علينا أن نعرف ماذا يدور في البرازيل ” وشخصية المرأة ” فطوم ” التي أحبها ” غوار وحسني ” ثم شخصية أبو عنتر، وشخصية ” أبو رياح ” و ” باع الخيار- أبو قاسم ”  وهو ينادي طول المسلسل “اصابع البوبو الخيار”  .
بمسلسل ” صح النوم ” استطاع المخرج ” خلدون المالح ” نقل الحارة السورية من خلال فندق ” فطوم ” وكان هذا المسلسل من الأعمال الفنية الكوميدية التي دخلت العالم العربي وأثرت على مسار الكوميديا ، ودفعت الثنائي غوار وحسني البرزان الى الأضواء والتألق.
لكن بعد حرب تشرين 73 كان التحول في حياة هذا المخرج ، فقد خلع ثوب الكوميديا البيضاء التي تصنع الفرح العابر ، ليرتدي ثوب الكوميديا السوداء التي تحرك الضمائر والاحاسيس وتشير الى الوجع العربي والفساد الذي يتغلغل في الأنظمة المهيمنة  والمخابرات التي تعيش على ظلم وكبت المواطن ، لقد ملك المخرج ” خلدون المالح ” الجرأة في زمن كانت الرؤوس تنحني خوفاً ، والأقلام ترتعش ذعراً ، وقام بأعماله المسرحية والفنية مقتحماً الممنوع .
والتقى الثلاثي ” محمد الماغوط ” و ” دريد لحام ” و ” خلدون المالح ” ليسجلوا أروع المسرحيات السياسية العربية ” ضيعة تشرين ” و ” غربة ” و كاسك يا وطن ” وما زالت هذه المسرحيات  حتى اليوم تعتبر قمة من قمم الفن المسرحي العربي  الهادف الواعي الناقد .
عندما كنت أقرأ وأنا صغيرة اسم المخرج “خلدون المالح ”  أضحك على اسم عائلته التي حملت أكياس الملح فوق كاهلها حتى تسرب الى مساماتها التي نشف الملح على جلدها ، وأصبح يكتب على بوصلة العائلة ، لكن لم يحمل المخرج الملح بقدر ما حمل سكر الفرح والتفكير والنقد ، جعلنا في مسرحية ” ضيعة تشرين ” نشعر بزهوة الانتصار العسكري ” وفي مسرحية “غربة ” جعلنا نبكي على غربة شبابنا في المنافي ، وغربة المواطن العربي  في وطنه ، وفي مسرحية “كاسك يا وطن ” كان الوطن العربي المذبوح بالفساد والتآمر والخداع من الوريد الى الوريد  مجسداً في هذه المسرحية .
مات ” خلدون المالح ”  والعالم العربي يشرب كأس المرارة  يومياً ، والابداع الحقيقي هو الذي يتغلغل في تفاصيل الانسانية  ويبقى صالحاً في كل مكان وزمان ، لذلك نتذكر الحوار الذي دار بين غوار ووالده الميت  ، لأنه يسقط  على حالنا العربي  :
الاب : طمني يا ابني كيف الاحوال عندكم ؟؟؟
غوار: كله تمام يابي مو ناقصنا  شي
الاب : و الوحدة العربية ؟؟
غوار: كلنا متوحدين يابي وصرنا بلد وحده … اليوم افطرت في بغداد وتغديت في الخرطوم وعم بحكي معك من ابو ظبي ..!
الاب : الحمد لله يعني ما عاد في ابن ست وابن جاريه ؟؟؟
غوار : ابدا يا بي ..!.
الاب : وفلسطين اكيد رجعتوها لأهلها  ؟؟؟
غوار : اكيد يابي ولو ….. بعد 30 سنه نضال ما بدك نرجعها؟
الاب : واليهود المساكين شو عملتوا فيهم ؟؟
غوار: حطيناهم بمستودع وبجوز نرميهم بالبحر..!!
الاب : طيب طمني على اخواتك وامك ؟؟
غوار : يابي كل اللي حكيتلك اياه خرط بخرط .. احنا مو ناقصنا …..الا شوية كرامه … احمد ربك انه طلعلك قبر نقدر نقرأ لك الفاتحة عليه ؟
الاب مندهشا : وامك الصابره  شو صار فيها ؟
غوار : عم تشتغل غساله اتوماتيك ..!.
الاب : وولادك؟؟
غوار : بعتهم من زمان يا بي !!
الأب : ودمنا اللي ضحينا فيه وين ثمنه ؟
غوار : بالبنوك يا بي .. بالبنوك؟؟؟
و اكمل غوار قائلا: هادا البلد يابي بدي ضل عايش فيه طالما بقدر احكي اللي بدي احكيه ..  وما رح ايأس ورح ضل اصرخ واحكي للغلط غلط ..!
مات المخرج ” خلدون المالح ” صانع الأمل ( راح ضل أصرخ وأحكي للغلط علط ) تذكرت المالح في زمن السكر ..