اللقاء على أرض الانتفاضة

فلسطين (:::)
بقلم : منير شفيق (:::)
الكل يتحدث عن أزمة الوضع الفلسطيني. طبعاً لا جديد في هذا الحديث. لأن ما من مرحلة مرّت بها القضية الفلسطينية، أو من بيان صدر، إلاّ وتوسّع الحديث عن الأزمة التي يمر بها الوضع الفلسطيني والقضية الفلسطينية. بل ثمة ديباجة كانت تسبق كل بيان أو خطاب، وهي تؤكد على صعوبة المرحلة ودقتها والمخاطر الشديدة التي تحّف بها.

كذا كان موضوع الأزمة هو القاسم المشترك بين كل المراحل، وإن اختلفت الظروف وموازين القوى ونوع المخاطر. الأمر الذي شكل ميلاً عاماً، إلى تحليل الوضع الفلسطيني، ولا سيما في مرحلة م.ت.ف بعد 1968، يعجّ بالتشاؤم. وقد استمر هذا الحال إلى اليوم بالرغم من المأزق الحقيقي الذي يتحوّط الكيان الصهيوني، وما راح يعانيه جيشه، وهو عماد وجوده، من حالة ضعف وتراجع. وقد ترجم ذلك بهزيمته في حروبه الأخيرة الأربع: في 2006 في لبنان و2008/ 2009، و2012 و2014 في قطاع غزة، كما تُرجم بانسحابه المذل وبلا قيد أو شرط، من جنوبي لبنان عام 2000 ومن قطاع غزة، مع تفكيك المستوطنات التي أقامها داخله، في 2005.

وأضف إلى ذلك فقدانه لدعم الرأي العام الغربي له، ودخوله في عزلة عنه، كما اتسّاع هوّة الخلاف بينه وبين الإدارة الأمريكية وعدد من الحكومات الأوروبية، ناهيك عن الانحطاط بمستوى القيادات من جهة المقاييس الصهيونية التي قام الكيان على أساسها.

هذه الحقائق التي تفرض التفاؤل الشديد بالنسبة إلى مستقبل الكيان الصهيوني المتراجع وهو الجانب الأساس في احتساب موازين القوى في الصراع مع الشعب الفلسطيني خصوصاً، والعرب والمسلمين بعامة، ولكن لا يُراد لها أن تُرى مع طغيان عادة التشاؤم المشار إليها أعلاه. فهنالك قادة ومحللون سياسيون يخجلون من أن يقدّموا تقديراً للموقف متفائلاً أو بين بين.

إن من يريد أن يقوّم مستقبل أي صراع يجب أن يلحظ أول ما يلحظ حال القوة المسيطرة فيه وعليه. فإذا كانت فتيّة صاعدة تحمل “رسالة”، أو قوية راسخة ثابتة الأركان، فعليه أن يعتبر أن الصراع طويل وطويل جداً. أما إذا كانت قد دخلت مأزقها الانحداري، وراحت الشيخوخة تدبّ في أوصالها مع كثير من السلبيات المصاحبة مثل الترف والغرور والصلف والانحطاط الأخلاقي، فعليه أن يعتبر أن الصراع قد أخذ يميل ضدها، وقد اقتربت النهاية “من دون تحديد لعدد السنين”. لأن المهم هو الاتجاه العام.

صحيح، إن كوْن حكومة نتنياهو في مأزق وأزمة، وكوْن دولة الكيان قد آذنت باتجاه الأفول، فهذا لا يعني أن الوضع الفلسطيني لا يواجه أزمة ومأزقاً هو أيضاً، ما دامت موازين القوى لم تصل إلى حد الحسم في مصلحته. فكيف إذا كانت قيادته، كما هو حالها الآن، في حالة من الاهتراء تجعل أزمة الوضع الفلسطيني أشدّ من أزمة العدو بدرجات.

محمود عباس الذي يتولى رئاسة سلطة رام الله ورئاسة اللجنة التنفيذية ورئاسة فتح، والقائد العام للأجهزة الأمنية، ما زال يعيش في الماضي الذي كان العدو الصهيوني فيه فعّالاً لما يريد، فهو لا يستطيع أن يرى مأزقه (العدو الصهيوني) في هذا الزمن وفي هذه المرحلة وما زال (محمود عباس، متمسكاً بسياسة التفاوض والتسوية بالرغم من أن أبوابهما أغلقتا في وجهه. فهو ما زال مصراُ على عدم رؤية الطريق الآخر القادر على إخراج الوضع الفلسطيني من أزمته الراهنة وتحويل الأزمة إلى انتصار. وذلك استناداً إلى القراءة الدقيقة لوضع العدو المأزوم، ولإمكان إنزال الهزيمة بالاحتلال ومستوطناته في الضفة الغربية والقدس وبلا قيد أو شرط.

لهذا لا بد من أن يَعْمى محمود عباس عن كل ذلك، وأن يركبه العناد حتى آخر نبض في عروقه. وذلك بهروبه نحو إدخال الساحة في صراع حول الدعوة للمجلس الوطني. وكيف يجب أن تتم. أو بعبارة أخرى كيف يُرَّتب البيت الفلسطيني مثلاً أكان بالدعوة إلى الإطار القيادي الذي اتفق عليه في القاهرة ليقوم بالمهمة أم بقرار ينفرد به ويجعله على قياسه.

إن “ترتيب البيت الفلسطيني” أو إعادة تشكيل م.ت.ف أو ما يُسمّى باستعادة الوحدة الوطنية، شعارات أو مطالبات غير قابلة للتحقيق ما دام محمود عباس على رأس الرئاسات التي مرّ ذكرها. والدليل أن هذا هو الذي حدث طوال الوقت منذ عشر سنوات وهو عملياً الذي يعطل دعوة الإطار القيادي المذكور، أو تحقيق وحدة وطنية. ومن ثم لا فائدة من النفخ في “القربة المثقوبة”. ومن شاء أن ينفخ في القربة المثقوبة فليحاول مرة أخرى مع عباس لعله يقتنع هذه المرة.

السؤال ببساطة: ما هي أزمة الوضع الفلسطيني من الناحية الموضوعية أولاً وليس الذاتية (لأن الذاتية فالج لا تعالج).

تتلخص الأزمة الراهنة للوضع الفلسطيني أولاً بحالة الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية، وثانياً بتهويد القدس وضمّها للكيان الصهيوني والاعتداء على المسجد الأقصى في محاولة تقسيمه زمانياً ومكانياً. وثالثاً بإطلاق كل الأسرى. ورابعاً: فك الحصار عن قطاع غزة وإبقائه قاعدة مقاومة مسلحة والأصبع على الزناد في كل لحظة.

هذه الأزمة حلها كامن فيها، ولا يحتاج إلى كثير من اللف والدوران والتنظير أو ما يُسمّى بترتيب البيت الفلسطيني، أو إعادة صوْغ ما يُسمّى المشروع الوطني الفلسطيني أو إعادة بناء م.ت.ف: لأن حل أزمة الاحتلال واستشراء الاستيطان وتهويد القدس والاعتداء على المسجد الأقصى وإطلاق كل الأسرى لا يكون إلاّ بالمقاومة والانتفاضة. فالمشروع المطلوب الذي يفرض نفسه هو: لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وتحرير الضفة والقدس وفرض إطلاق الأسرى. وهذا يعتمل كالمرجل في الضفة الغربية والقدس ولا يحتاج إلاً إلى توفر شرط الانفجار أو لحظة الانفجار. فما يُسمّى ترتيب البيت الفلسطيني أو إعادة بناء م.ت.ف سوف يتحقق إذا ما تحركت القوى الذاتية مجتمعة، أو نصف مجتمعة، أو ربع مجتمعة، وتشكّل شرط انفجار الوضع، عندئذ يكون المطلوب ليس لجنة قيادية تحضيرية وإنما لجنة تثويرية أو لجنة قيادة انتفاضة ومقاومة وكسر لحصار قطاع غزة. فذلكم الذي يرتب البيت الفلسطيني ويوحده.

وهذا لا يمكن أن يتم بالتفاهم مع محمود عباس أو مع أجهزته الأمنية. وهو ضده واسألوه. فالمطلوب من الفصائل والحراك الشبابي تنفيذ قرار وقف التنسيق الأمني بتجاوزه والتوجه إلى الصدام مع قوات الاحتلال ولا طريق إلاّ طريق الانتفاضة والمقاومة وما عدا ذلك فتغميس خارج الصحن.

فالمعركة المفتوحة الآن حول عقد المجلس الوطني أو تأجيله أو كيفية إعادة بناء م.ت.ف وما شابه كله تغميس خارج الصحن. ويكفي تجريب المجرّب مع محمود عباس. وليُستعد شعار “اللقاء على أرض المعركة” أو قل في هذه المرحلة: اللقاء على أرض المواجهة مع الاحتلال.. أرض الانتفاضة.

أما محمود عباس فالمطلوب منه أن يواصل طريق الفشل وحده بالهروب إلى عقد اجتماع للمجلس الوطني ونقل المعركة إليه بدلاً من أن تنقل إلى وقف التنسيق الأمني في الأقل. فهو غير قادر إلاّ على ارتكاب الأخطاء والتخبط. فكل ما يفعله يدفع الوضع لينفجر، ويدفع الفلسطيني لينفزر.