السوسيولوجيا العقائدية ومركزية الصوت في قصيدة (جرس) للدكتورة أسماء غريب

اصدارات ونقد (:::)
د. عواد الغزي (:::”)
ربما يصنع الشاعر الحديث حكاية غرائبية تدلف إلى الخيال أو الحلم الواعي. وقد يكون طيف خيال منزاحا عن نسق الطيف الذي حدد ماهيته النقد العربي، إذ يرى الشريف المرتضى أن طيف الخيال يستدعي الحي ولا يمكن أن يكون للغائب قسريا حضورا في الطيف. ولكن الشاعر الحديث وهو يعوم في فكر هجين يحاول تعويم الإيديولوجيا العقائدية لتغدو سوسيولوجيا معيشة في الطيف.
إن استقراء قصيدة (جرس) للشاعرة أسماء غريب والبحث عن الإيديولوجيا الاندماجية والسوسيولوجيا المعيشة يظهر أن النص يحاول طيفيا أن يوحد الإيديولوجيا ويلملم أشتات أطرافها للخلاص إلى فكرة وجودية سنحاول الكشف عنها بالقراءة النصية.
إن تقديم الفواعل على أنهم أشخاص متماهون بالوجود الإنساني يلمح إلى صيرورتهم إبلاغا نصيا محملا بفكرة وجودية. وإن الجرس صوت يترجم ثيمة الوجود في النص:
“حينما وقفت تحت الجرس
خرج لي من دير العشق والمحبة
قطب الرهبان الكبير”
فثمة معرفة تؤكد أن نزعة الدين هي فكرة وجودية ترمي إلى وجود صحيح هو (دير العشق والمحبة)، وإن كانت الإيديولوجيا تتجه به إلى متلق خاص. وتغدو رمزية الجرس دالة على أصوات وحروف تتهجى ثيمة الوجود وتنادي بها، ولكنها تأتي على هيئة إنذار:
“وقال: انتبهي
فالجدران متآكلة
وقد يسقط عند قدميك الجرس”
إن أصوات وحروف الحياة والوجود قد باتت غير مسموعة عند الآخرين وسقوط الجرس يعني أفول المناداة بها أو هو دلالة زمنية تشي ببعد زمن سمعها والعدول عن طلبها من الإنسان، ولكن الحقيقة الإيديولوجية قارة ولا يمكن أن تتغير بتغير الزمان أو المكان:
“ابتسمتُ بعذوبة
وقلتُ: انتبه أنتَ
فالجرسُ هو
وهو لا يسقط أبدا”
إنّ الحقيقية الوجودية للإنسان إلهية الظهور والتحقيق فلا يمكن أن تتغير أو تمحا بفعل تغير الإنسان ذاته. ذلك أن الخالق ثابت العدل وحاق بالربوبية، فصوت الله لا يسقط ولا يضعف وإن ضعف الإيمان الإنساني، وكما أنه لم يكن صوت زمن بل هو صوت الاستمرارية ولم يقف قبل هذا اليوم. وقد حاول النص خلق حجاج مع الفاعل وإعادته إلى نسقه الإيديولوجي بالتذكير(انتبه أنتَ). ولم تكن بنية الحجاج ذاتية بل اتجهت إلى العمومية بوساطة السياق النصي:
“ولم يقف قبل هذا اليوم
عنده أو تحته أو قربه أحد
ولاحتى أنت أيها الراهب التقي”
وذلك ما يحيلُ إلى ماهية دلالية في بنية الحجاج، فالراهب الذي كلف إيمانيا بالاستجابة الطوعية لم يكن حاملا لها كما أن الآخرين عكفوا عنها .فتساوت الفواعل في النكوص والتبدل وتماهت فكرة التغير والتبدل عبر ثنائية: الخالق=الإنسان
إذ يمثل الله قطب الثبات والاستمرار ويمثل الإنسان فكرة التغير والتحول والتبدل.
وما إن ترشح فكرة الانوجاد الإيماني تتوحد الإيديولوجيا ويكون الصوت واحدا بوصفه إبلاغا يحمل ثيمة الوجود:
“واقرعه بكل ما أوتيت من قوة
وردد بعلو الصوت”
ولاريب أن دلالة القوة تعادل درجة اتقاد الإيمان وصيرورته مطلبا جمعيا فالقوة تجمع غفير المتلقين وتحشدهم نحو الصوت الإلهي، ولكن الصوت الإلهي لا يمايز بين المتلقي الإنسان:
“حي على الصلاة
حي على الفلاح
حي على خير العمل”
وما من شك أن الراهب والجرس نسقان إيديولوجيان مفارقان لما لصوت الله دلاليا. ذلك أن الصوت الإلهي وحداني الفكرة والدلالة، وصوت الجرس والراهب متغير الفكرة والدلالة. وثمة ما يوحد الاختلاف فالذات الإلهية واحدة وصوت الله واحد والإنسان من خلق الله، وهو واحد عبد لخالقه.
وفي ذلك يتوحد الصوت والجرس والإنسان خطابيا. وبوساطته تتوحد سياقات الخطاب للدلالة على توحد الفواعل ووحدانية الفاعل. ومن ثم يحاول الخطاب توحيد الأنساق الإيديولوجية كلها فالصوت الذي تماهى فيه الراهب والجرس والدير والخطاب والأنا والآخر يزيد في دلالة التوحد والتوحيد بوساطة استدعاء فواعل أخر تغذي الدلالة وتديم استمرارها:
“فرحت وبكيت كثيرا لهذا اللقاء
فرحت لأني رأيت مريم عند الشجرة
وبكيت لأني كلمت تحتها ابنها الرضيع”
ويحاول النص عبر المخيال الدلالي تحويل المكان إلى حاضنة فكرية توحيدية فالدير والجرس والآذان والشجرة والملائكة ومريم وابنها الرضيع (ع) يكتنفون مكان التوحيد ويحيلون إلى دلالته. ومن ثم يتجه النص إلى ربط السياقات بغية تجميع الدلالات الإيديولوجية وتوجيهها نحو سوسيولوجية الوجود لتحقيق حقيقة الانوجاد:
“إن الدير أرشيف عظيم
يكتب فيه الرسل المقربون كل شىء
كل شىء عن الشعوب والأوطان
وعن القلوب وجوارح الإنسان”
إن ماقاله الأنبياء والوصيون هو الإنسان، إنسان الله سواء أكان في الدير أم المسجد أم في العراء. وما سجله المقربون هو الإيمان بوجود الإنسان على الرغم من تعدد الحواضن المكانية. فالجرس صوت الله الأبدي الدال على ذاته بمناجاة الإنسان لأجل الإنسان . والاستجابة لصوت الله تعالى تقرر ثيمة الإيمان. وحب الخالق في الأوطان:
“والجرس أنت يا إلهي
جرس الحاء و الباء
وجرس الوعد والوعيد”
إنّ حبّ الله يجعل إنسانه واحدا وذاته وحدانية والله تعالى جعل الإيمان به وحبه قيمة إنسانية عليا يرتفع بها الإنسان ليكون قيمة إلهية عليا على اختلاف مشاربه وإيديولوجياته. ويغدو الوجود سوسيولوجيا مجتمعية معيشة تحقق العدل والمساواة.
///
هنا نص القصيدة
*
جرس
د. أسماء غريب
*
حينمَا وقفتُ تحتَ الجرسِ
خرجَ لي من ديرِ العشقِ والمحبّة
قطبُ الرُّهبان الكبِير
وقالَ: انتبهِي
فالجدرانُ متآكلةٌ
وقد يسقطُ عندَ قدميكِ الجرسُ
ابتسمتُ بعذُوبة
وقلتُ: انتبهْ أنتَ
فالجرسُ، هُوَ
وهُو، لا يسقطُ أبداً
ولم يقفْ قبلَ هذا اليومِ
عندهُ أو تحتهُ أو قربَهُ أحدٌ،
ولا حتّى أنتَ، أيّها الراهبُ التقيّ
فافتح الآن بابَ الدّير
واقرعْهُ بكلّ ما أوتيتَ منْ قوّةٍ
وردّدْ بعلو الصّوت:
حيّ على الصلاةِ
حيّ على الفلاح
حيّ على خيرِ العملِ
*
قرعَ الراهبُ الجرسَ
وأتتْ للقائي عندَ بئرِ الوفاءِ
شجرةٌ حمراء
حطّ فوقَ أغصانِها الخضراءِ
سبعونَ ملَكاً،
فرحتُ وبكيتُ كثيرا لهذا اللقاءِ؛
فرحتُ، لأنّي رأيتُ مريمَ عند الشّجرة
وبكيتُ، لأنّي كلّمْتُ تحتها ابنَها الرّضيع
*
أيّ جرسٍ هذا، يا إلهي؟
وأيّة شجرةٍ تلكَ،
أهيَ شجرةُ الحروفِ
أم شجرةُ النّفْخِ
أم سِدْرةُ الملائكةِ المُرفرفينَ
فوقَ الأغصانِ الأربعةَ عشر
أمْ شجرةُ حاجبِ الدّير النائم قُربَ البئر؟
*
إلهي،
أفِقِ الحاجبَ منْ نومِه العميقِ
فهُو وحدهُ عندهُ الجواب:
هو وحده يعرف من تكون الشجرةُ
ومن يكون الدّير والجرسُ حقا،
*
إلهي،
الحاجبُ حارسٌ وديع
يشبهُ حارسَ أهل الكهفِ
أو ربّما هُوَ.
إلهي،
الحاجبُ يقولُ:
إنّ الديرَ أرشيفٌ عظيمٌ
يكتبُ فيه الرُّسل المقرّبون كلّ شيءٍ،
كل شيء عن الشعوبِ والأوطانِ،
وعن القلوبِ وجوارحِ الإنسانِ،
أمّا الشجرةُ، فحبيبي الواقف
والشاهدُ على الأعمالِ،
والجرسُ أنتَ يا إلهي:
جرسُ الحاء والباء
وجرسُ الوعدِ والوعيدِ.