قراءةٌ نقديّةٌ لقصيدة – أحِنُّ إلَى حَفيفِ صَوْتِكَ- للشّاعرة آمال عوّاد رضوان

 

التصنيف : اصدارات ونقد (:::)

بقلم الناقد: عبد المجيد عامر اطميزة (:::)

أحِنُّ إلى حَفيفِ صَوْتِكَ يَنْسابُ نَسيمًا رطبًا في مَعابِرِ روحي
تَجمَعُني قُزحاتُهُ إضماماتٍ فوّاحَةً
تَزدانُ بها منابر ُمَسامِعي
نَبَراتُ حُروفِكَ تُلاغِفُ جَوانِحي
أحاسيسُكَ تُسَوِّرُني
كَيْفَ أهْرُبُ وَمسافاتُ اٌلوَلَهِ
تَزدادُ نقشًا في مَسالِكِ قلبيِ؟

أشتاقُكَ أيُّها اٌلمَجنونُ
إلى ما لا نهايةٍ مِن جُنونِك
أشتاقُك
وما مِن أحَدٍ / يَراكَ شفيفًا كَمايَ
كم أُدمِنُها دِنانُ حُزنِكَ
أنادِمُها بِكَلماتٍ فيها بَعْثي المنتَظـَر
لِمَ يَتَأوَّهُ حَبيبي
واٌلنّارُ تَتَآكَلُ في دِمائِهِ ولا تَأكُلُهُ؟
أما كانَ اٌلأوْلى بِنيرانِهِ أن تَتَأوّهَ؟
حبيب قلبي/ اِفتَحْ لي قلبَك الذهبيَّ
واُسْكُبْ أحشاءَهُ عَلى راحَتيَّ
باٌلأمْسِ سَمِعْتُ وُعولَكَ/ تُناغي ظباءَ حُزنِك
آه يا رحمَ روحٍ
تَتَفَتَّقُ ولادةَ وجْدٍ في روحي: أنولدُ فينا؟
آثارُ قلبِكَ
دعني أرَمِّمْها ..أجدِّد ماءَ حَدائقِها
أجعلها ورودًا / نتراقصُ بينها شغفًا
وتَسبَحُ قناديلي / في جَداولِها اٌلشهيَّةِ
هو قلبُكَ لي
بِمائِهِ وطَمْيِهِ.. بِضِفافِهِ وأشجارِهِ
بِعَصافيرِهِ ونَحْلِهِ
أُريدُهُ بِعالمِهِ
كُلُّكَ وَكُلُّ كُلّـِكَ يَشوقُني
ولا أُريدُ اٌلشّوْقَ يُؤطّـِرُني
هُوَ صدرُكَ بَيْدَري / أدْرُسُ عَليْهِ سَنابلَ حَنيني
لن أخشى اٌجتياحَ فَيَضانِك
تُسْكِنُك قُبْلَةٌ / تُخَثـِّرُ أمواجَك
لَنْ أخشى خَطَرَ السّباحةِ فيك
واٌلاٌنْجِرافَ بشَلاّلاتِكَ اٌلنّاريَّةِ
أأسْكُبُني رَعشاتٍ
تصهرُكِ .. تُغلِّفُكَ بي ؟ !
أتكونُ دفينَ اٌنصِهاري؟ حَبيسَ أنْوِيَتي؟
أتَقْبَلُ بِكيْنونَةٍ جَديدةٍ / لا تُحَرِّرُها إلاّ بَراكيني؟
يا مَنْ أشْتاقـُكَ
دعْني أرْوي بِأمْطارِ عيني/ براريَ عَطَشِك
أُلِملمُني لكَ ظلالًا
وأشتاقُكَ أبدا

التّحليلُ الأدبيّ: أوّلُ ما يُطالعُنا في هذا النّصِّ الشِّعريِّ المُنتمي للقصيدةِ النّثريّةِ هو العنوان: (أَحِنُّ إِلى حَفيفِ صَوْتِكَ)(1).

العنوانُ مُكوّنٌ مِنْ جُملةٍ فِعليّةٍ، فِعْلُها الفِعْلُ المُضارعُ، ومِنَ الفاعلِ وهوَ الضّميرُ المُستَتِرُ”أنا”، وهذا انزياحٌ، ومِنْ جارٍ ومَجرورٍ (إلى حَفيفِ)، وَ (مِنِ مُضافٍ ومُضافٍ إليه “حفيف صوتِك”)، وجاءَ في لسانِ العَربِ: حنَّ إليهِ يَحِنُّ حَنينًا، يُقالُ: حنَّ عليهِ؛ أي عطف، وحنَّ إليهِ؛ أي نزع إليه(2).
وفي المُعجمِ الوسيطِ حَنَّ إليه: اِشتاقَ، وحنَّ عليهِ حنانًا؛ أي عطف.(3)، وفي مختارِ الصحاح، الحنين: الشّوقُ وتوَقانِ النّفس.(4)
وجاءَ في قاموسِ المَعاني: “حَفِيفُ الأشْجَارِ”: الصَّوْتُ الصَّادِرُ عَنْ تَحَرُّكِ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ. و”حَفِيفُ جَنَاحَيِ الطَّائِر”: صَوْتُ جَناحَيْهِ. و”حَفيفُ الحَيَّةِ”: صَوْتُ جِلْدِها.

وشاعرتُنا مُشتاقةٌ بأحاسيسِها العذبةِ إلى كلِّ شيءٍ في حبيبِها، حتّى أنّها توّاقةٌ لسماعِ صوتِهِ، فلا غرابةَ في ذلكَ، فهي عايَشَتْ ظروفَ النّكبةِ، وترى وتُحِسُّ بآثارِها المُدمّرةِ، في جوٍّ كئيبٍ حزينٍ تَعجَزُ عن تَغييرِهِ، تمامًا مثلما عجِزتْ كلُّ الدّولِ العربيّةِ، وأمامَ هذا الواقعِ العَصيبِ، والأوضاعِ الاجتماعيّةِ المُكبِّلةِ ليَديْها، الآسرة لحركاتِها، وفي ظلِّ واقعٍ اقتصاديٍّ يَعصِفُ بها وبأبناءِ جلدتِها، نراها تقفُ عاجزةً عنِ التّغييرِ، فتلجأُ إلى التّعبيرِ عمّا في قلبِها، وما هوَ مُختَزَنٌ في أحاسيسِها، هربًا مِن واقعٍ مُرٍّ كئيبٍ مُحزِنٍ، فتلجَأُ للكلمةِ المُعبِّرةِ وإلى ما يَعشقُهُ قلبُها، تلجأُ لغزَلٍ رقيقٍ تُلهي به ذاتَها، وتعزفُ لحنًا عذبًا رخيمًا، تُخفِّفُ بهِ عمّا في داخلِها مِن ضُغوطاتٍ تكادُ تَعصِفُ بها عصْفًا، عساها أنْ تَجِدَ المُتلقّي الّذي يُحلِّلُ ويَفهَمُ نبضَ حُروفِها.
القصيدةُ مُكوّنةٌ مِن ثمانيةِ مَقاطعَ، ففي المَقطعِ الأوّلِ تقولُ: أَحِنُّ إِلى حَفيفِ صَوْتِكَ/ يَنْسابُ/ نَسيمًا رَطِبًا في مَعابِرِ رُوحي/ تَجمَعُني قُزَحاتُهُ إضماماتٍ فوّاحَةً/ تَزدانُ بِها مَنابرُ مَسامِعي/ نَبَراتُ حُروفِكَ تُلاغفُ جَوانِحي/ أَحَاسيسُكَ تُسوِّرُني/ كَيْفَ أهْرُبُ، وَمسافاتُ الوَلهِ تَزدادُ نَقشًا/ في مَسالِكِ قلبيِ؟
فالمَطلعُ: (أَحِنُّ إِلى حَفيفِ صَوْتِكَ) وفيه تناصّ، وتعريفُهُ: يَرى ميخائيل باختن: “أنّ التّناص: تداخلُ السِّياقاتِ ووجودُ علاقةٍ بينَ نصٍّ قديمٍ وآخرَ جديدٍ.
وترى جوليا كرستيفا: “أنّ التّناصَ لوحةٌ فُسيفسائيّةٌ مِنَ الاقتباساتِ، وكلُّ نصٍّ هو تَشرُّبٌ وتحويلٌ لنصوصٍ أخرى”، وهذا المَطلعُ يُذكِّرُنا بقولِ الشّاعرِ محمود درويش: (أحنُّ إلى خُبزِ أُمّي)، وهو تناصٌّ أدبيٌّ.

تبدأ قصيدتُها بجُملةٍ خبَريّةٍ للتّعبيرِ عنْ ذاتِها وعنْ مَكنوناتِ مَشاعرِها، والمُلفِتُ للنّظرِ في حُروفِ هذا المَقطعِ هو النّاحيةُ الجَماليّةُ، في الحُروفِ وانتقائِها، وفي التّعابيرِ ومُواءَمتَها لبَعضِها، فهذا المقطعُ يَكثرُ فيهِ حُروفُ: السّين والنّون والواو، وهذهِ الحروفُ لا تَدخلُ على كلمةٍ، إلّا وقدْ جمّلتْها وأكسَبتْها روْنقًا وجَمالًا، كما يَرى الخليلُ بنُ أحمد الفراهيدي، لنقفَ عندَ كلمةِ “أحِنُّ”، فالحَنينُ كما أوضحْنا، مُرتبطٌ بالصّوتِ غالبًا، كما بيّنَتْهُ مَعاجمُ الّلغةِ، والنّونُ مُشَدّدةٌ، تَنفُثُ بها الشّاعرةُ زفراتِها الحَرّى، يَأتي بَعدَها “صوتُ الحبيب”، أمّا الأصواتُ الصّائتةُ المُهيْمنةُ في هذا المَقطعِ، فتتمثّلُ بصوتِ الألفِ، ففيهِ إطالةٌ وراحةٌ للنّفسِ في التّعبيرِ، ويَحتاجُ لزمنٍ أطولَ، كي يتسنّى للحبيبِ سماعَ ندائِهِ لمَنْ أحَبَّتْهُ واختارَتْهُ.

لقدْ ثارَ رُوّادُ الشِّعرِ العربيِّ الحُرِّ على القاموسِ الشِّعريِّ، فلمْ يَعُدْ للشِّعرِ مُعجمٌ خاصٌّ، لأنَّ “القصيدةَ لغةٌ وليستْ كلماتٍ، وما دامتْ لغةً فهي علاقاتٌ، أو بعبارةٍ أدقَّ، نظامٌ خاصٌّ مِنَ العلاقاتِ، وبما أنّها كذلكَ، فهي لهجةٌ شخصيّةٌ غيرُ مستعارةٍ”، كما يقول حجازي.

لقدِ ارتبطَ الشِّعرُ بالّلغةِ لا بالكلماتِ، بالشّاعرِ الخلّاقِ والتّجربةِ والحياةِ. الشِّعرُ رؤيا، والرّؤيا تقومُ على رؤيةٍ خاصّةٍ للحياة، وعلاقةٍ خاصّةٍ بالأشياء، تتجلّى عبْرَ علاقاتٍ لغويّةٍ خاصّة. الّلغةُ ليسَتْ صناعةً لفظيّةً يَقومُ بها الذّهنُ بعيدًا عنِ الإحساسِ بالحياةِ والعالَمِ. إنّها “نظامٌ لا يتَحكّمُ فيهِ النّحوُ، بل الانفعالُ أو التّجربة. مِن هنا كانتْ لغةُ الشّعرِ لغةَ إيحاءاتٍ، على نقيضِ الّلغةِ العامّةِ، أو لغةِ العِلمِ الّتي هي لغةُ تحديداتٍ”(5). وشاعرتُنا بذائقتِها الفنّيّةِ الخلّاقةِ أدركَتْ ذلكَ، وها هي تُسَخِّرُ هذهِ النّزعةَ التّجديديّةَ في شِعرِها، بطريقةٍ مُبتكَرةٍ.
ولْنتمَعّنْ في أفعالِ هذا المقطعِ برَوِيّةٍ، فسنرى أنّ الأفعالَ كلَّها أفعالٌ مُضارعةٌ، وتخلو تمامًا مِنْ فِعْلَي الأمر والماضي: أَحِنُّ، يَنْسابُ، تَجمَعُني، تَزدانُ، تُلاغفُ، تُسوِّرني، أهْرُبُ، تَزداد.

لقدِ اتّكأتِ الشّاعرةُ على الفِعل المضارع؛ لخلْقِ الحيويّةِ وبثِّ الرّوحِ والاستمراريّةِ. وانتقلتْ في السّطورِ الثّلاثةِ الأخيرةِ لأسلوبِ الإنشاءِ المُتمثّلِ في (كيف): كَيْفَ أهْرُبُ/ وَمسَافاتُ الوَلهِ تَزدادُ نَقشًا/ في مَسالِكِ قلبيِ ؟

والاستفهامُ خرَجَ عن مَعناهُ الأصليّ؛ ليُفيدَ التّعجُّبَ. وتتزاحمُ الصُّوَرُ الشِّعريّةُ المُبتكَرةُ في هذا المقطعِ: فالشّاعرةُ تَحِنُّ وتَشتاقُ لسماع صوتِ حبيبها، فهو كما النّسيمُ يتنسّمُهُ قلبُها بمَعابرِهِ، وصوتُ الحبيبِ يُزيّنُ مَنابرَ سمَعِها، تشْرَئِبُّ لها عواطفُ الشاعرةِ وتلعَقُها.
والتّحوُّلُ والانزياحُ يتزاحمُ أيضًا في هذا المقطعِ، وما فيهِ مِن تشبيهاتٍ وكناياتٍ واستعاراتٍ: فلِلقلبِ مَعابِرُ ومَسالِكُ، وللسّمعِ مَنابرُ كما للمَساجدِ، ونبراتُ الحروفِ تَلعقُ الجَوانحَ، كما لو أنّ للجَوانحِ لسانٌ يَلعقُ ويَأكلُ، والأحاسيسُ تُطوَّقُ، ولِلولَهِ وهو شدّةُ الحُبِّ، مسافاتٌ تُنقَشُ.
ولقدِ اختارتْ شاعرتُنا كلماتِها بعنايةٍ، فقالتْ: “الولَهُ” ولم تقُلْ: “الحُبُّ”، فـ “الولَهُ” أشدُّ مِنَ الحُبِّ، وأعمقُ تأثيرًا في القلبِ. ولقد وظّفَتِ الشّاعرةُ عناصرَ الصّوتِ والحركةِ، فمِنَ الألفاظِ والتّراكيبِ الدّالّةِ على عنصرِ الصّوتِ: حَفيفِ صَوْتِكَ، تجمَعُني، مَسامعي، نبراتُ حُروفِكَ.
ومِنَ العناصرِ المُعبِّرةِ عنْ عنصرِ الحركةِ: ينسابُ، فوّاحة، تُلاغف (تلعق)، تُسوِّرُ، أهربُ. كما وقدْ ذكَرَتِ الجزءَ (الحَرْفَ)، وأرادتْ بهِ الكُلّ (الكلمات)، مجاز مرسل علاقته الجزئيّة.

وفي المقطع الثاني: أَشتاقُكَ/ أيُّها المَجنونُ/ إِلى ما لا نِهايةٍ مِن جُنونِك/ أَشتاقُك/ وما مِن أحَدٍ يَراكَ شَفِيفًا كَمايَ/ كم أُدمِنُها دِنانُ حُزنِكَ/ أنادِمُها بِكَلماتٍ فيها بَعْثي المنتَظَر

بدأتْ شاعرتُنا هذا المَقطعَ بأسلوبٍ خبَريٍّ، مُعلِنةً شوْقَها لحبيبِها للتّعبيرِ عن ذاتِها وخلجاتِ نفسِها؛ لتنتقلَ في السّطرِ الثّاني مباشرة للأسلوبِ الإنشائيِّ المُتمثّلِ في النّداءِ، ويُفيدُ التّحبُّبَ والتّقرُّبَ للحبيبِ، وتُكرِّرُ كلمةَ (أشتاقُكَ) تأكيدًا لشوقِها، ولخَلْقِ إيقاعٍ موسيقيٍّ، ونُلاحظُ في هذا المقطعِ كلمَتَيْ (أشتاقُكَ) و(كمايَ)، فالأولى: “أشتاقُ إليكَ”، والثانيةُ: “كما إيّايَ”.

لقدْ ثارَ رُوّادُ الشِّعرِ العربيِّ الحُرِّ على القاموسِ الشِّعريِّ، فلمْ يَعُدْ للشِّعرِ مُعجمٌ خاصٌّ، لأنَّ “القصيدةَ لغةٌ وليستْ كلماتٍ، وما دامتْ لغةً، فهيَ علاقاتٌ، أو بعبارةٍ أدقَّ، نظامٌ خاصٌّ مِنَ العلاقاتِ، وبما أنّها كذلك، فهي لهجةٌ شخصيّةٌ غيرُ مستعارةٍ، كما يقولُ حجازي. لقدِ ارتبطَ الشِّعرُ بالّلغةِ لا بالكلماتِ، بالشّاعرِ الخلّاقِ والتّجربةِ والحياةِ. الشِّعرُ رؤيا، والرّؤيا تقومُ على رؤيةٍ خاصّةٍ للحياة، وعلاقةٍ خاصّةٍ بالأشياء، تتجلّى عبْرَ علاقاتٍ لغويّةٍ خاصّة. الّلغةُ ليسَتْ صناعةً لفظيّةً يَقومُ بها الذّهنُ بعيدًا عنِ الإحساسِ بالحياةِ والعالَمِ. إنّها “نظامٌ لا يتَحكّمُ فيهِ النّحوُ، بل الانفعالُ أو التّجربة. مِن هنا كانتْ لغةُ الشّعرِ لغةَ إيحاءاتٍ، على نقيضِ الّلغةِ العامّةِ، أو لغةِ العِلمِ الّتي هي لغةُ تحديداتٍ”(6)

وفي المَقطعِ مجموعةٌ مِنَ انزياحاتٍ وكِناياتٍ واستعاراتٍ وحذْفٍ: فلقدْ شبّهَتِ الحزنَ بالخمْرِ لهُ دِنانٌ، كما شبّهَتْ دِنانَ الحزنِ بالنّديمِ، ولْنَقِفْ عندَ اختيارِ الشّاعرةِ لكلمةِ (نديم): و(النَّدِيمُ): المُصاحِبُ على الشَّراب المُسامِرُ، فلم تقُلْ: الصّاحبُ أو الرّفيقُ، وقدْ أحسَنَتْ صنْعًا، فجاءتْ بلفظةِ (أُنادِمُها)، لتُوائِمَ الجُملةَ السّابقةَ عليها، وهي (دنانُ حزْنِكَ)، والجُملةُ هذهِ تُوائِمُ الإدمانَ، فمُعاقِرُ الخمْرِ يُدمِنُ عليه.

لِمَ يَتَأوَّهُ حَبِيبي/ والنَّارُ تَتَآكَلُ في دِمائِهِ ولا تَأكُلُهُ؟/ أما كانَ الأَوْلى بِنيرانِهَ أن تَتَأوّهَ؟: وفي المَقطعِ الثّالثِ تتحوّلُ الشّاعرةُ للأسلوبِ الإنشائيّ، وهو الاستفهامُ الّذي يُفيدُ تَعَجُّبَ شاعرَتِنا، مِن عدَمِ تأوُّهِ الحبيبِ لشِدّةِ وجْدِهِ بمحبوبَتِهِ، وتَرى أنَّ الأوْلى بنيرانِ الحُبِّ والشّوقِ أنْ تتأوّهَ، ففي السّطرِ الثّاني كنايةٌ عن شِدّةِ وجْدِ الحبيبِ بالمحبوبةِ الشّاعرةِ، وصَبْرِهِ على عذاباتِ الشّوْقِ والحُبِّ والحنين، فالنّارُ تتآكلُ وتتأوّهُ، وهذا تشخيصٌ وتجسيمٌ.
اِفتَحْ لي قلبَكَ الذَّهبيَّ/ واسْكُبْ أَحشاءَهُ عَلى راحَتيَّ../ بالأمْسِ؛/ سَمِعْتُ وُعُولَك تُناغِي ظِباءَ حُزنِك/ آهٍ يا رَحمَ رُوحٍ/ تَتَفَتَّقُ وِلادةَ وَجدٍ في رُوحِي: أَنُولَدُ فِينَا؟: وفي هذا المَقطعِ الرّابعِ تبدؤُهُ بأسلوبٍ خبَريٍّ، دلالةً على البوْحِ بشدّةِ حُبِّها وتَعلُّقِها بالمحبوبِ، بإعجابِها بهِ، وتختِتُمُهُ بأسلوبٍ إنشائيٍّ، وهوَ الاستفهامُ الّذي يُفيدُ التّمني. فقلبُ الحبيبِ مِنْ ذهبٍ: كنايةً عن طِيبِ مَعدنِهِ، وللحبيبِ وُعولٌ تُناغي وتُلاطِفُ، كما للأحزانِ ظِباءٌ، وللرّوحِ رحمٌ، وللحُبِّ والوَجدِ ولادةٌ، وللقلبِ أحشاءٌ، وكلُّها استعاراتٌ، وفيها الاختراقُ والانزياحُ، وتقولُ (راحتي): والرّاحةُ باطنُ اليَدِ، مجازٌ مرسل علاقته الجزئيّة.
الشّاعرةُ تنتقي كلماتِها بعنايةٍ، فتختارُ كلماتِها وألفاظَها مِنْ مُعجمٍ شِعريٍّ يُوحي بالرقّةِ، فكلمةُ (تناغي) في الّلغةِ تُغازِلُ وتُلاطِفُ، والمرأةُ تُنَاغِي الصّبيّ، أي تُكلِّمُهُ بما يُعجبُهُ ويُسِرُّهُ، ومِنَ العِباراتِ والألفاظِ الدّالّةِ على الرّقّةِ: قلبُكَ الذّهبيّ، الوُعول، الظباء، تُناغي، والرّوح.

وتقول في المقطع الخامس: آثارُ قلبِكَ دَعني أرَمِّمْها ../ أُجَدِّد مَاءَ حَدائِقَها ../ أَجعلها وُرودًا/ نَتراقصُ بَينَها شَغفًا/ وتَسبَحُ قَنادِيلي في جَداولِهِا الشّهيَّة: وتَكثُرُ في هذا المَقطعِ الانزياحاتُ، فالقلبُ الّذي أضناهُ الوَجْدُ والعِشقُ، كما البناءُ الّذي يَحتاجُ إلى ترميمٍ، وحدائقُهُ تحتاجُ لمياهٍ جديدةٍ وورودٍ تَرقصُ، كنايةً عن الجَمالِ والبهجةِ والسّرورِ، وللشّاعرةِ قناديلُ مُتوهِّجةٌ مضيئةٌ، وللعِشقِ جداولُ شهيّةُ الطّعم كما الغذاء، والفعلُ (نتراقصُ) يُفيدُ المشاركةَ في الرّقصِ بينَ الشّاعرةِ ومَنْ أحبَّتْ. وتَزخَرُ عناصرُ الحَركةِ، والّلوْن، والمَذاقِ، فالوردُ أحمرُ، والجدْولُ أزرقُ، والورودُ تتحرّكُ وتتراقصُ كماءِ الجداولِ المُنسابةِ، والجداولُ شهيّةُ المَذاقِ.

وفي المَقطعِ السّادسِ: هُو قلبُكَ لي؛/ بِمَائِهِ وطَمْيِهِ../ بِضِفَافِهِ وأَشجَارِهِ../ بِعَصافيرِهِ ونَحْلِهِ../ أُريدُهُ بِعالَمِهِ/ فَكُلُّكَ/ وَكُلُّ كُلِّكَ يَشوقُني/ ولا أُريدُ الشَّوقَ يُؤطِّرُني: يبدأ بضميرِ الشّأنِ (هو)، دلالةً على تقديرِ الشّاعرةِ لحبيبِها ولحُبِّها، وذكَرَتِ (القلب) مجاز مرسل علاقته المكانيّة، فهو مكانُ الحُبِّ والوَجْدِ، وقالت: (لي)، دلالةً على حِرصِ الشّاعرةِ أنْ يكونَ حبيبَها لها فقط دونما سواها، وتُؤكِّدُ الشّاعرةُ على ذلك، بتِكرارِها للفظةِ (كُلّ) بقولِها: فَكُلُّكَ/ وَكُلُّ كُلِّكَ يَشوقُني.

وتلجأُ الشّاعرةُ لتوظيفِ عناصرِ الطّبيعةِ: الماء، الطّمي، الضّفاف، الأشجار، العصافير، النّحل. و(تُعتبرُ ظاهرةُ الهُروبِ إلى أحضانِ الحُبِّ الدّافئِ، وإفراغِ الشّعراءِ عواطفَهُمُ المُلتهبةَ فيها، مِنَ الظّواهرِ الرّئيسيّةِ، إلى جانبِ الطّبيعةِ في الشّعرِ الرّومانسيِّ بوجهٍ عامّ.
إنّ الطّبيعةَ والحُبَّ ليسا بجَديدَيْنِ على الشِّعرِ العربيّ، لكنَّ الجَديدَ فيهما، أنّهما يَمتزجانِ بوجدانِ الشّاعرِ امتزاجًا يكادُ يَتّحِدُ فيهِ الوجودُ الخارجيُّ بالوجودِ الدّاخليِّ، فتحتملُ التّجربةُ دلالاتٍ أرحبَ مِنَ الدّلالاتِ المَألوفةِ في التّجربةِ العاطفيّةِ التّقليديّةِ، ويُصبحُ للشِّعرِ مُستويانِ: أحدُهُما مُرتبِطٌ بحدودِ التّجربةِ في الواقعِ الخارجيِّ، والآخَرُ ناطِقٌ بأشواقِ الإنسانِ العامّةِ، وإحساسِهِ بالكوْنِ والحياةِ والمُجتمعِ”. (7)

وتقولُ في المَقطعِ السّابعِ: هُوَ صدرُكَ بَيْدَري/ أدْرُسُ عَليْهِ سَنابلَ حَنيني/ لن أَخشَى اجْتياحَ فَيَضانِكَ/ سَتُسْكِنُك قُبْلَةٌ تُخَثِّرُ أَمواجَكَ/ لَنْ أخشَى خَطَرَ السِّباحَةِ فيكَ/ وانْجِرافي بِشَلاّلاتِكَ النَّاريَّة: ويبدأُ هذا المَقطعُ بضميرِ الشّأنِ (هو)؛ أي الحبيب، لأهمّيّتِهِ وتقديرِهِ في نفسِ الشّاعرةِ، ونرى أنَّ الشّأنَ مِن حيثُ الّلغةِ، هو الحالُ والأمرُ والخطْبُ الّذي لا يُقالُ، إلّا فيما يَعْظُمُ مِنَ الأحوالِ والأمورِ، فهيَ تُريدُ التّوحُّدَ معَ مَنْ تُحِبُّ.

ونلاحِظُ مُواءمةَ الشّاعرةِ بينَ الألفاظِ وحُسْنِ انتقائِها لها، كما في مثل: بَيْدَر، أدْرُسُ، سَنابل، وسنابل، فهي كلُّها ألفاظٌ دالّةٌ على المحصولِ والخيرِ.
ومنها أيضًا: فيضان، أمواج، السّباحة، انجراف، شلّالات، فهذهِ الألفاظُ تُناسبُ بعضُها بعضًا. وتختارُ في هذا المَقطعِ أفعالَ المُضارعة الدّالّةَ على استمراريّةِ الحُبِّ والحَركةِ والنّشاطِ: أَدْرُسُ، لنْ أخشى، ستُسكِنُكَ.
والمُلفِتُ للنّظرِ تِكرارُ لفظةِ (لن أخشى)، و(لن) حوّلَتْ زمنَ الفِعلِ المُضارعِ للمُستقبلِ، فهي حرفُ نصبٍ، وقلْبُ زمَنِ الفِعلِ المُضارعِ للمُستقبَلِ. كما في قولِها (ستُسكِنُكَ)، فالسّينُ دخلَتْ على الفِعلِ المُضارعِ؛ ليُفيدَ الاستقبالَ، وهذا كلُّهُ اختراقٌ في الّلغةِ والتّحويلِ، يُفيدُ العِباراتِ جَمالًا على جَمالٍ.
وفي المَقطعِ الثّامنِ: أأسْكُبُني رَعشاتٍ تَصهُركَ../ تُغلِّفكَ بي؟!/ أتكونَ دفينَ انصِهَاري/ حَبيسَ أنْوِيَتي؟!/ أتَقْبَلُ بِكيْنونَةٍ جَديدةٍ/ لا تُحَرِّرُها إلاّ بَراكيني؟!/ يَا .. مَنْ .. أَشْتاقُكَ/ دَعْني أرْوي بِأمْطارِ عَيني/ بَراريَ عَطشِكَ/ أُلَمْلِمني لكَ ظِلالًا/ وأشتاقُكَ أبدًا: وفي هذا المَقطعِ، نرى أنّ الشّاعرةَ قدِ انتقلتْ فيهِ إلى الأسلوبِ الإنشائيّ، وهو حافلٌ بهِ، بدَأتْهُ بالاستفهام: (أأسْكُبُني رَعشاتٍ تَصهُركَ.. تُغلِّفكَ بي؟!)- (أتكونَ دفينَ انصِهَاري.. حَبيسَ أنْوِيَتي؟!)_ (أتَقْبَلُ بِكيْنونَةٍ جَديدةٍ.. لا تُحَرِّرُها إلاّ بَراكيني؟!)

والاستفهامُ في كلٍّ يُفيدُ الالتماسَ.

والنّداءُ في نحو: (يَا.. مَنْ .. أَشْتاقُكَ): ويُفيد التّحبُّبَ والتّقرُّبَ مِنَ الحبيب.
والأمرُ كما في: (دَعْني أرْوي بِأمْطارِ عَيني/ بَراريَ عَطشِكَ).
ولقدْ خرَجَ الأمرُ عن معناهُ الحقيقيِّ؛ ليُفيدَ الالتماسَ.
ولقدْ تكَرَّرَتْ كلمةُ (أشتاقُكَ) في القصيدةِ أربعَ مرّاتٍ، وفي هذا المَقطعِ مرّتيْنِ:

“إنّ هذا التّكرارَ لِلكلمةِ نفسِها المُتّفقةِ في شكلِها وعددِ حُروفِها يكونُ توافُقًا صوتيًّا، وهذا التّوافُقُ الصّوتيُّ مِن شأنِهِ أنْ يُحدِثَ موسيقى داخليّةً، بالإضافةِ إلى موسيقى البيتِ، وإنَّ نغمةَ هذهِ الكلماتِ المُتكرِّرةِ، تُبرِزُ إيقاعَ النّفسِ المُنفعِلةِ والمُندهِشةِ. الكلماتُ المُكرَّرةُ ربّما لا تكونُ عاملًا مُساهِمًا في إضفاءِ جوِّ الرّتابةِ على العملِ الأدبيّ، ولا يمكنُ أن تكونَ دليلًا على ضعفِ الشّاعريّةِ عندَ الشّاعرِ، بل إنّها أداةٌ مِنَ الأدواتِ الّتي يَستخدمُها الشّاعرُ، لتُعينَ في إضاءةِ التّجربةِ وإثرائِها، وتقديمِها للقارئِ الّذي يُحاولُ الشّاعرُ بكلِّ الوسائلِ، أنْ يُحرِّكَ فيهِ هاجسَ التّفاعُلِ معَ تجربتِهِ”.(8)

إنّ تِكرارَ كلمةِ (أشتاقُكَ)، يُمكنُ أن يكونَ عنوانًا للمُتلقّي، على الكشْفِ عن البُنيةِ الدّاخليّةِ لعالَمِ النّصّ، وبالإضافةِ إلى ذلك، فإنّها شكّلتْ إيقاعًا موسيقيًّا قادرًا على نقلِ التّجربةِ، وهكذا يقومُ التّكرارُ الصّوتيُّ والتّوتُّرُ الإيقاعيّ، بمُهمّةِ الكشْفِ عن القوّةِ الخَفِيّةِ في الكلمة.(9)

—————-

الهوامش:
1. ديوانُ “بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّجُ” ، آمـال عوّاد – رضوان 12- 16 ط أولى 2005
2. اُنظر لسان العرب ابن منظور، ص 636 ، دار الحديث، القاهرة، 2002
1. المعجم الوسيط، إبراهيم أنيس ورفاقه، ص225، ط2، القاهرة
2. مختار الصحاح، الرازي159، دار الفكر العربيّ، بيروت 1973
3. مفهوم الشعر عند روّاد الشعر العربيّ الحُرّ، د. فالح علاق ص220، منشورات اتّحاد الكُتّاب العرَب، دمشق 2005
4. مفهومُ الشّعر عند روّاد الشّعر العربيّ الحُرّ، د. فالح علاق ص220، منشورات اتّحاد الكُتّاب العرَب، دمشق 2005
5. د. عبد القادر القط- الاتّجاه الوجدانيّ في الشّعر العربيّ المُعاصر ص14 .
6. اُنظر: قراءة أسلوبيّة في الشّعر الجاهليّ، د. موسى ربابعة، ص 24- 26 دار جرير، عمان، 2010
7. وانظر: الأفكار والأسلوب: دراسة في الفنّ الرّوائيّ ولغته ترجمة د. حياة شرارة 50 ، دار الشّؤون الثّقافيّة العامّة، آفاق عربيّة، بغداد، د.ت.