( برافوووو) : ليلة اعتقال الجمهور

 

التصنيف : فن وثقافة (:::)

مسرحية من فصل واحد

بقلم : بكر السباتين * (::::)
أسدلت الستارة على الممثلين المنتظرين فوق خشبة المسرح.. الطاقم الفني متأهب كلٌ في مكانه..عامل البوفيه يدور بالقهوة على كادر المسرحية..المخرج ما زال يواصل البحث عن سر اختفاء الجمهور وهو يذرع المكان جيئة وذهاباً، والقلق يهاجم رأسه المصدوح.. محدثاً نفسه باستهجان وحيرة:

المخرج:   ” لا أصدق بأن يعتقل جمهور برمته”.

ثم يعطي كادر المسرحية أوامره:
المخرج:   ” انتظروني في صالة التدريب كي تستعيدوا طاقاتكم حتى نتبين من صحة الخبر الذي وصلنا للتو”.

خرجوا جميعاً من الباب الجانبي. ثم دخل عليه فجأة رجل غامض يرتدي زيَّ رجال مباحث، فيما كان المخرج يعد بعض المذكرات وهو وراء مكتبه الفاخر  في زاوية خشبة المسرح.

ظنه المخرج للولهة الأولى صحفياً.. فدار بينهما هذا الحوار:

المخرج:   ” قلت لي اختفوا”!؟

رجل المباحث:” أخرج وتأكد بنفسك”.

المخرج:   ” كلهم”!؟

المباحث:   “جميعاً”!

المخرج:” حتى الأطفال”!؟

المباحث:   ” والشيوخ أيضاً”.

المخرج:” كيف عرفت”!؟

أخرج مذكرة بتاريخ هذا اليوم سلمها للمخرج ثم قال معقباً بلهجة رسمية جامدة:

المباحث:   “أنا المسئول عن اعتقالهم”.

تساءل المخرج وفرائصه ترتعد خوفاً من هول الموقف وخاصة أنه مهدد بإغلاق المسرح نتيجة ما عليه من إنذارات وتعهدات مع الأجهزة الأمنية:

المخرج:   ” إذن!! جئت تعتقل المسرحية”!

المباحث:   ” وهل أنا مجنون حتى أحول السجن إلى مسرح!! كم أنت خبيث”!

المخرج:” وماذا تريد إذاً”!!؟

المباحث:   ” فقط أريد أن تتابعوا عملكم”.

المخرج:”تقصد!! نمثل المسرحية!! هذا هراء!! فأين الجمهور!؟”

المباحث:   ” هذه مذكرة موجهة لك بهذا الشأن! هل لديك اعتراض! فقط أريد أن أفهم السبب الذي جعل هذه المسرحية تثير شهوة الجمهور لحضورها! مما أثار غضب الأجهزة الأمنية”!!؟

المخرج:   “لا بأس.. فإن اقتنعت بنزاهتها فيما لو كانت لا تمس الدولة بسوْء!! فهل تعيد إليها جمهورها المحب”!!؟

المباحث:   “هل تقصد الإفراج عنه من السجن!! ربما !! الأمر مرهون بالنص المسرحي “!!

كان الممثل الرئيس ( وهو شريك في تأليف النص) يتنصت لما دار من حوار أثناء تسلله با لدخول إلى المشهد من الباب الجانبي!فقد كان على موعد مع المخرج فاستوقفه الحوار.. وقرر أن يجازف برؤية المسرحية من أجل الجمهور.. سيفعل شيئاً بهذا الاتجاه..قال في نفسه:

الممثل ( مع نفسه) :   “سأحذف مرتجلاً بعض العبارات المخالفة للقانون!!!نعم سأنافق الحكومة!! ألا يستحق جمهوري هذا الموقف!!!! يالله! ليتني أستطيع دق عنق هذا المستبد! ولكن… لا دواء لهذا الموقف إلا ببعض النذالة من أجل جمهور أحب مسرحه وتنفس الحرية من خلاله!

أيعقل ذلك!؟

أجل يعقل!

بعض النذالة!؟

وربما أكثر كأنه تعريض لرقبتي في وجه سيف الجلاد ليستعيد الجمهور حريته وروحه!

سيشتمك الجمهور!!؟

لكنني سأعيد الشمس إلى مضاربنا النائية في الظلام..

أنت تهذي!؟

أليس الهذيان هو الحالة التي نتحرر فيها من الخوف لأننا لو فكرنا لقتل المنطق الفكرة!! فقد قررت
ولكن!!

أسكت! انتهى الأمر فقد وصلت مكتب المخرج فلديه أوامر لي”!

ينظر المخرج جهة الباب الجانبي.. فيخاطب الممثل الذي سارع من خطواته:

المخرج:   ” حسناً أنك جئت.. لدينا زائر مهم يريد مشاهدة المسرحية.. وهي فرصة لاستعادة الممثلين حيويتهم في هذه الليلة البكماء”.

الممثل:  ” بدون دوي تصفيق”.

المخرج:   ” سنفعل ذلك من أجل استعادة أجواء التصفيق التي عودنا عليها جمهورنا العظيم”.

ثم انتبه إلى ما لفت انتباه رجل المباحث( جمهور عظيم) ومتداركاً:

المخرج:   “والمحب لحكومته الرشيدة”.

فهدأت الأجواء. ثم عقب الممثل الرئيس منوهاً:

الممثل: ” ننتظر حضرتكم في الصالة لتوجيهنا قبل البدء”.

المخرج:   ” لا بأس”.

رُتِبَتِ الأمور بعد ذلك فأجلس رجل المباحث في أول الصفوف الفارغة من المسرج وبجواره المخرج( أي الجلوس بين الجمهور الحقيقي للمسرحية)؛ ثم رفعت الستارة واشتغلت المسرحية..

تذكر المخرج الحوار الذي دار بينه وبين الممثل الرئيس وراء الكواليس حينما أطلعه على نيته المبيتة في اللعب على النصوص، قال له المخرج:
صوت المخرج يستعيد حواره مع الممثل وراء الكواليس:

” فكرة مدهشة.. وكله من أجل الجمهور.. هذه بطولة ومراوغة لا رعونة فيها.. النذالة من سمات المستبد.. وهكذا نعيد الجمهور للمسرح”.

انشغل  رجل المباحث بمشاهدة المسرحية ممعناً التفكير في تفاصيل الحوار وراصداً في النصوص كل شاردة وواردة.. ففهم وهو يبرم شاربيه معتزاً بذكائه الخارق لاكتشافه الحقيقة التي سيبشر بها رؤسائه في الدائرة. وذلك أن المسرحية موالية للحكومة تماماً.. وما التبلي عليها إلا محض افتراء.. فكتب تقريره على هذا الأساس. واستبشر المخرج خيراً بذلك.
وفي اليوم التالي ( يمكن تغيير الإضاءة مع المؤثرات الموسيقية المناسبة إيذاناً بيوم جديد) كان رجل المباحث يصافح المخرج بحرارة؛ ومبشراً:
المباحث:   ” ألم اقل لك بأنني سأضم الجمهور لمسرحيته التي أحبها فاعتقل لأجلها!.. أحب لها أن تكون كما يتمنى ( ضاحكاً)  لكنها ستخيب آماله!! !! (ضحك عالياً حتى احتبست أنفاسه) ستكون صادمة له!؟ “.
تساءل المخرج والحيرة تأكل رأسه كأنه شعر بمكيدة نصبت له:

“أين هو الجمهور إذاً ألم تعدني بالإفراج عنه!؟”

المباحث:   – لم أعدك سوى بضم الجمهور للمسرحية وهذا ما جئتك لأجله.. صدر قرار بهذا الشأن وستكون راضياً”.

المخرج:    ” هل نجهز المسرح هذا المساء لأجلهم”!!؟

المباحث:    ” بلى.. فقد أعددنا مكاناً مناسباً لعرض هذه المسرحية الهادفة على الجمهور”.

المخرج:   ” أين”!؟

المباحث:   “في السجن”

المخرج:   ” سأرفض”!!

المباحث:   “إنها الأوامر.. وكله من أجل الجمهور”.

المخرج:   “لا بأس ولكن هل هي أوامر رسمية”؟

المباحث:   ” خذ هذا الكتاب الرسمي.. فهو يحتوي على كل التفاصيل”

تناوله المخرج وراح يقرأه ووجهه يزداد عبوساً.. بينما أردف رجل المباحث هازئاً:

المباحث:    ” ألم أقل لك أنها الأوامر بإحضارك وجميع الكادر بما فيهم صبي البوفيه لعرض المسرحية في السجن!؟ وبذلك نكون قد أوفينا بالتزامنا الرامي إلى لم شمل  الجمهور بمسرحيتهم العظيمة!! نعم العظيمة بولائها الصارخ للحكومة، الرشيدة!!”

ثم ابتسم بخبث. ورد عليه المخرج بامتعاض شديد:

– “هذه مراوغة.. وتقلب في النوايا”!

المباحث:    “كلامك محسوب عليك فاحذر”!

المخرج:   “ما دامت المسرحية كما جاء في تقريركم تناصر الحكومة فلم اعتقال جمهور جاء لأجلها”!!؟

المباحث:    “الأمر بسيط.. لقد تغلغل رجالنا المخلصين بين المتزاحمين أمام شباك التذاكر قبل دخولهم المسرح؛ فتحدثوا عن مسرحية يحبونها بشغف شديد لأنها تهاجم الحكومة الفاسدة! لأجل ذلك تم استصدار أمر باعتقالهم.. نعم باعتقال الجمهور.. ففسر الأمر كما تشاء! أما أنت فعفونا عن مسرحيتك بسبب النص الموالي للحكومة بإنجازاتها العظيمة في التنمية المستدامة ومناصرة حقوق المواطن وكرامته؛ فصار من الواجب أن نعلم الجمهور كيف تكون طاعة الحاكم الذي جاء لخدمة حقوقهم المنصوص عليها في الدستور.. فقط كيلا  يقودهم المغرضون من الخارج إلى مناوأة الحكومة من خلال اتهامها بالفساد!! فمسرحيتك هي الأنسب لتعليم جمهورها ذلك!! هل لديك اعتراض!”!؟
دب الصمت بينهما.. ونفرت دمعة من عين المخرج فأوقدت شعلة في رأس الممثل الرئيس الذي ربت على كتفه متسللاً إلى أعماقه بهمسة أشعلت الأمل في عقله:
المخرج( وتقطيبة التحدي تجمع ما بين عينيه):

” سنعيد الجمهور إلى المسرحية الحقيقية دون رتوش.. المسرحية ستقول كل شيء!! ربما تضاء القناديل في رأس السجان من أجل التغيير”!

ابتسم المخرج بابتهاج وألقى أوامره للممثل الرئيس:

” أجمع لي كل كادر المسرحية في كواليس المسرح.. فلدينا ورشة عمل.. الجمهور سيلتقي بمسرحية أرادهاً!!

فصفق رجل المباحث محمساً:

“برافووووو”!.

عمان 11/4/2014
________________________________
*فلسطيني من(الأردن)

رابط المؤلف:

http://www.bakeralsabatean.com/cms/component/option,com_frontpage/Itemid,1/