طيور مهاجرة

التصنيف : القصة(:::)

بقلم : هناء عبيد – الولايات المتحدة الامريكية (:::)

.عند ذلك الشاطئ البعيد عن القرية المنسية، وقفت ممعنةً النظر في الأفق البعيد، تنتظر ذلك القارب المتهالك بصدأ السنين. كانت تسند يديها المتعبتين وجسدها المرهق بأحمال الزمن على ألواحٍ خشبيةٍ صنعتها أيادي بعض الصيادين لربط أشرعتهم الصغيرة، بينما قدماها كانتا تنغرسان في الرمال الباردة. لم تستطع عباءتها المهترئة أن تمنع اختراق برد رياح تشرين إلى عظامها الدقيقة.

عيناها الضيقتان تحيطهما خيوطٌ تطمس عمرها الربيعي. أشعةُ الشمس ضيقت عليها النظر بعينين مفتوحتين. ما زال ذهنها شارداً يحوم في الغرفة المظلمة ذات الجدران الرطبة المهترئة، وقلق يطبق على صدرها كلما تذكرت أطفال الغرفة المظلمة والجدة العجوز. لم تستمتع بهدير البحر وزرقته الخجولة، ولم يشدها منظر الأشرعة وهي تستعد لرحلة يومٍ جديد. كانت الأمواج ترتفع وتنخفض لتنكسر في نهاية دورتها عند الصخرات المترامية على الشاطئ، ترافقها نسماتٌ باردة تلفح وجهها الذي كان يلتف بوشاحها الأسود الرقيق. ما زال ذهنها شارداً عند الغرفة المظلمة حيث كان الصبية يجلسون أو ربما ينتظرون.

نصحته بعدم السفر فالأحوال قد تتبدل، والصبر قد يأتي بالفرج. لم يكن له الوطن سوى غربة مكان وزمان، حضناً لم يعد يتسع لأبنائه، شمسه أشعتها انكسرت عند نقاط مظلمة. كان يخبرها دوما أنه ضاق ذرعاً بمكانٍ لا يعدو أكثر من مقبرة تجمع أشلاء بشر. طموحه كان يتعدى لقمةً تسكت رمق جوع، أو حارةً يلهو فيها الصبية في طفولتهم، ويتسعكون فيها في شبابهم. كاد يختنق من سحب الدخان السوداء المتراكمة في كل مكان والتي لا تعرف سوى إمطار قضبانٍ تحبس الأنفاس. لم يربطه بالوطن سوى أطفاله الذين كان يرى في أعينهم غربة وطن، وحلماً مات فور ولادته.

قاربت الشمس على ملامسة وجه البحر، وتلونت بحمرة الخجل.

من الأفق البعيد الذي تسمرت عيناها نحوه، بدأ يظهر شبح نفس القارب الذي ركبه قبل عامين. مرت الساعتان عليها ببطءٍ شديد إلى أن وصل القارب إلى الشاطئ . كانت تغدق النظر بأشباحٍ بلا ملامح، يتدفقون من ظهر القارب وقد غطت عتمة الليل سعادتهم أو حزنهم.

اقترب منها رجلٌ تعرفت على ملامحه عندما انعكس على وجهه ضوءٌ خافتٌ كان ينبعث من القارب. مد إليها حقيبةَ سفرٍ صغيرة، وحفنةً من دولارات…

هناء عبيد