التصنيف : القصة (:::)
بقلم : مهند النابلسي – الاردن (:::)
المحاضرة الرتيبة !
عكر الصرصار مزاجه ، فخفت حدة بهجته ، وارتشف قهوته الطازجة ، واستنشق نسائم الصباح العطرة ، وتمتع بزقزقة الكناري الأصفر ، وبمنظر شقائق النعمان وهي تتمايل في حديقة منزله ، ولكن قلقا راوده من لونها الأحمر الفاقع ، فتخيل جروح الحب اولا ثم تراءت له جروح عنيفة قادمة … لعن افكاره ووساوسه التي أفسدت شاعرية اللحظة ، ثم استغرب بعدئذ عندما تأمل شخصا ينظر اليه من خلال المرآة الداخلية لسيارته القديمة المتهالكة ، وتبين له بعد برهة ان هذا الشخص هو نفسه هو ! أهو رهاب الارتياب ؟ وعندما دخل لالقاء محاضرته فوجىء بقلة الحضور ، اعتلى المنصة بقامته النحيلة ووجهه الشاحب ، واندهش من العيون البلهاء الفارغة المزروعة في ذاته التائهة ، وقال في سره مستعيذا “رب احفظني من النظرات السفيهة والحسودة ” ! وبدا له الجو مشحونا بالعداء والبغض المجاني كما لو أن مادة سامة قد امتزجت لفترة طويلة بالهواء ولوثته ! كان يشعر بالارتياب والتواطؤ .
بعد الاستراحة الطويلة نسبيا ، عاد نصفهم فقط ، وكان العداء والملل قد بلغ اوجه ولم يبدأ شيء بعد ، وأصبحوا الآن يعبرون عن استياءهم الشديد بالايماءآت والعبارات المشحونة بالسخرية المبطنة ، ناهيك عن النظرات العدوانية والكشرة التقليدية ، فأعطاه ذلك تحديا جديدا لكي يستمر في محاضرته الرتيبة ، وقال في نفسه “لا بد من الانتهاء من هذه المحاضرة اللعينة !” ، ثم فاجأه عمال مركز التدريب وابلغوه بضرورة اخراج الطاولات والكراسي فورا بغرض التنظيف والصيانة ، والان فورا لو سمحت : – لأن ذلك ضروري سيدي ، ونحن ننفذ تعليمات دقيقة ! فأجاب بحدة مستاء :
-لا …لا اوافق… انتظروا حتى انهي محاضرتي أولا !
ازداد حينئذ نفور الحاضرين منه ، وبدأوا يستعدون لاسكاته ، وشعر ببريق العدوان في نظراتهم الغبية … ثم سمع تمتمات غامضة ، ولكنه بقي مصرا على اكمال محاضرته المملة -لا..لن أيأس واحبط ..فأنا روبوت بشري ، واجبي ان اشرح لذواتكم ما سبق وكان غامضا بالنسبة لي ! أنا مثقف هامشي متبجح ، وظيفتي أن اوقظ وعيكم البليد في عصر التنوير والحاسوب !
هنا شعر بتفاهته وعبثية موقفه وهو ينساق مرة اخرى وراء رغبة جامحة وغير واقعية ومزعجة لوعظ أبناء عصره ، اللذين بدوا وكانهم قابعين في غيبوبة “أهل الكهف “! ولكنه تابع بعناد واصرار :
-أنا حامل رسالة انسانية رفيعة ، مجبر على نقل معرفتي الكئيبة لاناس يجترون حياتهم ويعانون من الاقصاء والاحباط ! ثم استطرد وكانه يحدث ذاته : … ويشعرون بأهمية مزيفة ونرجسية جامحة ! وتابع بنبرة خطابية واثقة :
-هل تعلمون ايها السادة اننا نحن البشر لسنا سوى قشرة رقيقة تافهة على سطح الكرة الأرضية ، فلوغرق سكان المعمورة أجمع في البحرالأبيض المتوسط مثلا ، فهل تعرفون أيها السادة الكرام كم سيعلو منسوب المياه حينئذ ؟!
واجاب دون ان ينتظر بسخرية وتبجح العالم المطلع الوائق من كلامه :
-عشرا من مليمتر ! فقط عشر ! عندئذ طفح كيل الحضور ونفذ صبرهم ، فصرخ احدهم معترضا :
-وكيف عرفت ايها المدعي ؟ هل قمت بقياس ذلك أيها المتبجح ؟ انه مجرد افتراض تقريبي لعالم شارد مهووس ! ثم ماذا يعنينا هذا الهراء ؟ فنحن بالأساس لسنا بشرا !! مهند النابلسي