ماركيز يصور بالكلمات ما تعجز عنه “المشاهد السينمائية “:

 

التصنيف : فن وثقافة (:::)

بقلم : مهند النابلسي – الاردن (:::)

عندما  يعبر  الأديب عن بؤس  المسحوقين  !

لا شك  بأن  الثورات  التي  عصفت اخيرا  بعالمنا  العربي كانت  مبررة تماما نظرا  للظلم  والبؤس  والقهر  والمعاناة المتراكمة  عبر السنين ،  التي  أدت للاحتقان  والتمرد  والثورة  على  الفساد  والطغيان  والقمع ،  وربما  لم  يأخذ  التونسي  الثائر (الشهيد )  الذي  اشعل  هذه  الثورات  حقه  من  التقدير  والتبجيل ، فقد ابتدأ  من  تونس  ثائرا  على  الاضطهاد  والمعاناة  والقهر  ،  فضحى  بذاته  وحرق  نفسه ليؤجج  ربيعا  عربيا  عارما  ويزيح  الطغاة  ويؤسس  لثقافة  جديدة في  عالمنا  العربي  البائس  ،  وبغض  النظر  عما  آلت  اليه  بعض  هذه  الثورات  من  فوضى وتخبط  واقتتال  داخلي  ،  بتاثير  الجهل  والارتزاق  والعمالة  للأجنبي ، ودخول  الانتهازيين  وتجار  اللأديولوجيات  والأديان والأوطان واستغلالهم لسذاجة  الدهماء وجهل  العامة  وضعف  وعيهم  وثقافتهم ،  مما  ادى لضياع  البوصلة أحيانا  وربما  لبعض  التيه  والتخبط ، الذي ارجو  ان  لا  يدوم  طويلا ويتحول  لفوضى “خلاقة  وغير  خلاقة ”  ! وقد  كان  ماركيز   (ساحر  الأدب في  امريكا  اللاتينية ) سباقا  في   “رؤيته الاستبصارية”  لواقع  ومستقبل  الشعوب  البائسة عندما  قال  : بأن  كل  رواية  جيدة  هي  سبر  لأغوار  العالم ! فقد  استخدم هذا  الكاتب  سحر  اللغة ليعبر  عن  ظروف  انسحاق  وضياع  انسان  أمريكا  اللاتينية ،  الذي  هو  في  نظرنا  انسان  العالم  الثالث  ، انسان  العالم  العربي . وهو  بالرغم  من  وصفه  الباهر لحياة  التعساء  لا  يميل  للادعاء بأنه  يملك علاجا  سحريا  لكل  الأمراض التي  تنهش  حياتنا ،  ففي  قصته ” أرنديرا البريئة ” وجدتها  القاسية (ومنها  استمد  اسم  مجموعته  القصصية) ، يعبر  عن  مرارة  الفقر  واليتم تحت  ظل  التسلط  والقمع “….لم  تكن  أرنديرا قد  سمعته ، ومضت تعدو  باتجاه  الريح ،  اسرع  من  الغزالة ، فلم  يستطع صوت  من  اصوات  العالم  ايقافها  ! “.

أما  في ” الثلاثة  السائرون  نياما يستشعرون  المرارة ” فيعبر  عن  الانسحاق  والعدم عندما  تصبح  الحياة  كابوسا : ” وكنا  نعلم أن  بها  من  النبض الانساني ما  يجعلها  تمضي  في  التصميم على  تصفية وظائفها  الحيوية  ، وأنها  ستمضي بصورة  عفوية  في القضاء  على نفسها …..”

ثم  ينتقل  لسيريالية  حزينة  في  قصته   “عينا  كلب  أزرق ” : مضيت  الى الباب ،  حين  امسكت  بمقبضه ، سمعت  صوتا  يتردد  على  النحو  ذاته دونما  تغيير ، قالت   ” لا تفتح  ذلك  الباب ،  فالدهليز  متخم  بالاحلام  العسيرة  الاحتمال  !” ، مشهدية  سريالية مليئة  بالمجاز المعبر ، تذكرنا بالممثل  “شون  بين”  وهو  يجتاز  بابا فوق  أرض  صخرية للولوج  للماضي  والمستقبل معا  ، وكأنه  يدخلنا  لمتاهة  وتداعيات طفولته ومستقبله في حلمه العائلي  الحميم ! ( كما  ظهر  ق في  رائعة  ترانس  ماليك “شجرة  العائلة ) .

ثم  يستعرض  “عبثية  جهد  الكادحين  ” باسلوب  تعجز عنه  أرقى المؤثرات  ” التصويرية  والصوتية   ”  عندما  يقول  : ” راح  يجدف على  هذا النحو ، وقد  انكمش  في  جلده ، بحيث  لم  يعد  يدري  من  اين  جاء  تنفس  كلب  البحر  المخيف الذي  بلغ  مسامعه  فجأة  ،  ولماذا  اصبح  الليل  اكثر  زخما  كما  لو  كانت  النجوم  قد ماتت  فجأة…..” . أما  في  قصته  “الطيب  بائع  المعجزات ”  فيستخدم  المغامرة  اللغوية  بسخرية  مليئة  بالفكاهة  السوداء  ،  ويعبر  عن  نمط  الوحشية  التي  يتعرض  لها  المعتقلين  في  كافة  معسكرات  الاعتقال  وغياهب  السجون (أيا  كانت ) :”…اخيرا  القي بي  لأتعفن  داخل  زنزانة التوبة  ، التي  كان  مبشرو  العهد  الاستعماري يصلون  بها  ويقومون  الهراقطة !” …..ثم  يسترسل  “….لكنه  جعلني  ادفع  ثمن  ذلك  الكرم  بنزع  اظافري باستخدام “كلابة” ،  ثم  ملأ فمي  بالتراب ! ” . ثم  انه  حتى  لا  ينسى  مشردي  الكوارث  الطبيعية في  عالمنا  البائس ، حيث  يقول في  قصته  “مناجاة  ايزابيل وهي  ترقب  المطر  في  ماكوندو “…لم  اكن  قد  نلت  الا قسطا يسيرا من  النوم  تلك  الليلة ،  حينما  استيقظت  فجاة  بسبب  رائحة  كريهة  ومتغلغلة  تضاهي  رائحة  الجثث  المتحللة  ….”، تشبيه يتجاوز  الواقع الكارثي ويضع  القارىء أمام الحدث المأساوي بلا مواراة ومبالغة ، وأحزن  عندما  اقارن  هذا  المشهد  القصصي الصادق والانساني  بأكاذيب  الفضائيات  الاعلامية العربية  وهي  تحاول بغباء استنطاق  شاهد  عيان  كاذب ، يحاول  بالتضخيم  والمبالغة  ان  يقنعنا بصدق أكاذيبه ! عشت  لأروي ! يستهل  ماركيز مذكراته  الشهيرة “عشت  لأروي ”  (2002)  بعبارة  بالغة  الدلالة :” الحياة  ليست  ما  يعيشه أحدنا  ، وانما  هي  ما  يتذكره ، وكيف  يتذكره  ليرويه !” ، وبالفعل فوعينا  بذكرياتنا هو  الذي  ينطبع  اخيرا  في  ذاكرتنا ، وهو  الذي يسير حياتنا  ويقود  طريقة  تفكيرنا وردات  فعلنا تجاه  أحداث  الحياة ، وقد  ساعدت القرية  العالمية  والانفتاح وثورة  المعلوماتية  والأنترنت  والفيسبوك على تطوير  الوعي  البشري ونمط  المقارنة ومستوى المعيشة والطموح، وجعل  من  الصعب  الرضوخ  للأمر الواقع و”التفكير  القدري” ، وعزز  لدى الجماهير  العربية الرغبة  بالتغيير والخروج  من  الواقع  البائس وتجاوز  المحن التي  تصنعها  يد  الانسان  بحق  أخيه  الانسان ! ونحن  كبشر ربما  نتقبل  كوارث المناخ و الطبيعة  لصعوبة  مواجهتها ولأنها  قدرية  الطابع ولا مناص  لنا لتجنبها ، وكما  يقول  ماركيز  في  مذكراته : ” ….وأقدم ما تتذكره فيها هي  جانحة الجراد التي  عاثت خرابا  في  الزروع ،  عندما  كانت  لا  تزال  صغيرة  جدا ، ولقد  كان يسمع مرور  أسراب الجراد وكانه  ريح  أحجار……وكان  على السكان المرعوبين ، أن  يتحصنوا  في  غرفهم  !” ثم  يسخر  من  الجهل  والشعوذة  قائلا  :” …ولم  يتم الحاق  الهزيمة  بتلك  الآفة  الا  بفنون  الشعوذة !”. ثم  يستطرد  في  وصف  كوارث  المناخ  قائلا  :” ….وفي  كل  وقت ، كانت  تباغتنا  اعاصير  جافة  تقتلع  سقوف  الأكواخ ، وتنقض  على  الموز  الجديد ،  وتخلف القرية  مغطاة  بغبار  كوكبي  ،  وفي  الصيف  تنكل  بالمواشي  فترات  جفاف  رهيبة ، أو تهطل  في  الشتاء  امطار  كونية  عاتية  تحول  الشوارع  الى  أنهار  مائجة  …..”وصف  سينمائي  رائع  لمحن  الطبيعة ينطبع  في  الذاكرة  ، ولكنه  يعترف  بلؤم وظلم وحقارة الممارسات  البشرية  التي  تفوق  محن  الطبيعة  تاثيرا ، والتي  يصعب  تقبلها :” ولكن  أسوأ  الجائحات وأشدها  شؤما ،  مع  ذلك ،  هي  الجائحة  البشرية  ،  فقد  قذف  قطار ،  يبدو  مثل  دمية ،  على  رمال القرية  المتوقدة ،  حثالة  مغامرين من  كل  انحاء  العالم ، استولوا  بقوة  السلاح  على  السلطة  في  الشارع  ……….”! ألا  يتشابه  هذا  الوصف  المدهش  لحد  بعيد مع نكبة  استيلاء  اليهود  والمستوطنين  العنصريين على  الأراضي  الفلسطينية ،  ومع  اختلاف  التفاصيل  ألا  تصف  هذه  التعبيرات  البليغة  واقع  الاستيطان السرطاني  في  القدس  ومدن وقرى الضفة !

وبعد ألا  تجعلك  موهبة  كتابية فذة  كهذه  تدخل  في  حالة تأمل انساني –تفاعلي ،  وترقى  بمشاعرك  واحساسيسك وتمنحك  مناعة  روحية  لتقبل ومواجهة المحن بعزيمة  ،  وللتعاطف مع المظلومين والمسحوقين والمضطهدين الحقيقيين ! ومن  قال  أن  الفن  الراقي  لا  يجب  ان  يكون  هادفا  ،  ومعبرا  عن  الروح  الحزينة  لملايين  البؤساء  في  كوكبنا “الغير  متوازن”  المليء  بالمصائب والظلم  والاجحاف ؟! وكيف  علينا  ان  نتقبل الظلم  والفساد  والطغيان في  عالمنا  العربي  بعد  ان هزت  كياننا وما  زالت  تهزنا  مشاهد الفقر والبؤس والمعاناة والتي  توجها  الراحل  “بوعزيزي” بحرق  نفسه  ولم  يعد الآن  احدا  يذكره ! والسؤال  الذي  يؤرقني هو لماذا  لا  يستغل  الشعب  الفلسطيني  المناضل  الفرصة (السانحة دوليا وعربيا )  للقيام  بانتفاضة  ثالثة تهز  الكيان  الصهيوني  المغتصب ؟ وخاصة  وانه  يعاني  من  كافة  صنوف  الاعتقال  والتعذيب  والاضطهاد  والاستيطان والتفقير والظلم ناهيك  عن  النفي  وعمليات الاغتيال ! فهل  ساعد  الانقسام  الفلسطيني والصراع  والمناورات على  كراسي الحكم والنفوذ والسلطة على تخمييد الرغبة بالانتفاضة ؟ أم  أن  ردود  الفعل الغربية  والدولية  والداعمة دوما لاسرائيل ، بالاضافة لخذلان  العرب واعلامهم (المتوقع ) ساهمت وما  زالت تساهم في تعميم  اليأس والقنوط  والاحباط !

مهند النابلسي

كاتب  وباحث  وناقد  سينمائي

Mmman98@hotmail.com

رسالة غابرييل غارسيا ماركيز لأصدقائه “لو شاء الله أن ينسى إنني دمية وأن يهبني شيئاً من حياة أخرى، فإنني سوف أستثمرها بكل قواي. ربما لن أقول كل ما أفكر به لكنني حتماً سأفكر في كل ما سأقوله.

سأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه.

سأنام قليلاً، وأحلم كثيراً، مدركاً أن كل لحظة نغلق فيها أعيننا تعني خسارة ستين ثانية من النور.

سوف أسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكلّ نيام إن وهبني الله قطعة من الحياة, لألبس لباسا بسيطا, وكنت لأستلقي على بطني تحت الشمس, تاركا ليس فقط جسدي مكشوفا و إنما روحي أيضا. يا الهي , لو كان لي قلب لكتبت حقدي على ثلج ولانتظرت الشمس أن تظهر , ولكنت رسمت بحلم ل فان جوخ فوق النجوم قصيدة ل بيندتي , و أهدي أغنية ل سيرات سرينادا للقمر , و اروي بدموعي الأزهار , مستشعرا ألم أشواكها و القبلة الحانية لبتلاتها .

الهي ! لو قيضت لي قطعة من الحياة.. لن ادع يوما يمر دون أن اخبر من أهواهم, بأني أهواهم. و سأقنع كل رجل و امرأة بأنهم المقربون إلى قلبي, وكنت لأعيش في حب للحب. كنت لأثبت للرجال مدى خطأهم حين يفكرون أنهم سيكفون عن الحب عندما يشيخون, دون أن ينتبهوا أنهم يشيخون حين يتوقفون عن الحب. للطفل كنت لأعطي أجنحة, لكني كنت لأعلمه أن يطير بنفسه. كنت لأعلم المسن أن الموت لا يأتي مع كبر السن و إنما مع النسيان.

آه كم تعلمت منكم أيها الناس …. تعلمت أن كل إنسان يرغب في أن يحيا فوق قمة الجبل, دون أن يعي أن السعادة الحقيقية هي في كيفية قياس القمة. تعلمت انه حين يقبض الطفل الوليد بكفه الصغيرة على إصبع والده, للمرة الأولى, فإنه يكون قد أوقعه في فخه للأبد. تعلمت انه يحق للإنسان أن ينظر لأخيه من عل فقط و هو يعاونه على النهوض. منكم تعلمت أشياء كثيرة جدا, بيد أن الحقيقة, بلا فائدة, ذاك أنني حين أوضع في تلك الحقيبة أكون قد أصبحت ميتا.