الكتابة والشهادة والسلطه

 

الرابط : دراسات (::::)

حمّودان عبدالواحد / كاتب عربي يقطن بفرنسا (::::)

لا شك أنّ الكتابة مسؤولية كبرى ، ولعلّ ما يدفع إلى رؤيتها على هذا المنوال هي أنها – حسب البعض – موقف أخلاقي والتزام بالقيم الإنسانية العليا كأنْ تكون صوتا للمظلوم وتعبيرا عن هموم المنبوذين والمهمّشين ووسيلة للتطلع نحو الغد وبناء مستقبلٍ كفيل بإعادة الكرامة والابتسامة إلى المحرومين من أبسط حقوقهم على وجه الأرض. ومن مفارقات الكتابة أنها تتجاوز بكثير هذا التصور المعياري وتتعدّاه إلى أبعد ما يحلو لنا أن نتمثّلَه لِ ” سهولته “، إذ يمكنها أن تفرز نفسَها وتولَد بحق من خلال علاقاتها الوثيقة بالبعد الروحي للإنسان في مستواه الفردي والجماعي على السواء ، وتبقى لصيقة بالجذور الأنطولوجية للحياة والأشياء والعناصر وكل المخلوقات.

ننطلق– في الإطار الاستدلالي لفكرتنا حول ماهية الكتابة كنوع من العلاقة الروحية –  من مبدأ فحواه أنّ كلّ ما هو موجود قد تمكّن منه حقُّ ” القول ” المبدئي المقرِّر ل ” كينونة ” الحياة و ” صيرورة ” التاريخ و ” تطور ” الإنسان ولا نمثّل نحن معشر البشر إلا محاولة ” النطق ” بهذا ” القول ” الفاعل المريد الأول. ويضعنا هذا المبدأ أمام مشكلة كبيرة يستعصي حلُّها بالفكر العقلاني. ويمكن صياغة هذه المشكلة ، التي تثير تساؤلات حول طبيعة دوْرنا وحدود أو مدى وظيفتنا في الحياة بالنظر إلى حريتنا ، في السؤال التالي : هل يعني هذا المبدأ أننا نحاول بالضرورة فقط إعادة ” القول ” المبتدأ ب ” التلفظ ” به أو بوجهٍ من وجوهه أو صدًى من أصدائه الموغلة في أعماقنا وجذور لاوعينا ؟ وإذن ، هل يمكن أن نسلّم بأنّه ليس من حظ حريتنا الإنسانية إلا اختيارنا بدافع إرادة خاصة تكرار ما ” قيل ” والمصادقة عليه من خلال أسلوبِ من أساليب ” التلفظ ” به أو شكل من أشكال ” التصرّف ” اتجاهه ؟

الكتابة ، في معناها البعيد عن النفعية والمصلحة الشخصية والحاجة ، هي قبل كلّ شيء ” تجرّد ” من المادة ، ومن أعباء الجسد وقيوده المُذِلّة. وهي معاً تحرّرٌ من غرائز النفس المستبِدة المتزايدة ورغبتها في الظهور واستعراض بريقها ومفاتنها وجمالها. وهي ، من هذا المنطلق ، بإمكانها عن طريق البحث والتساؤل ومحاولاتها تتبّع آثار الأشياء والوقوف على أصولها أن ترفع الحجابَ عن حقائق جوهرية بالنسبة لوجود الإنسان ومجيئه إلى الحياة. هكذا تقود الكتابة باعتبارها تجربة استبطانية وعملية استكشافية إلى  إحساس فطري وشعور طبيعي يكمن فينا إلى الأبد – كلنا نعرفه لكننا نسيناه –   ويرجع إلى مرحلة ما قبل تاريخنا البشري يقول : نحن ، كنفخة روحية ، ككلمة إبداعية من الرب ، قبل أن نوضع في قالب آدمي وندخل صراعَنا الزمكاني التراجيدي مع ” نسبية ” آدميتنا ، عبادُ الخالق المبدع المطلق. نحن – كموجودين – نشأنا عبادًا ، وبدأنا رحلتَنا الداخلية والخارجية ، الفردية والجماعية بأداء ” شهادة ” كان لزامًا علينا أن نحترمها.

الشهادة ؟ أية شهادة ؟ وما علاقتها بموضوع الكتابة ؟ تصب كل أنواع الشهادة في هدف واحد ألا وهو الإقرار بحقيقة الشيء ووجوده ، بواقع ” الحقيقة ” أو حقيقة الواقع . لكن ، كيف تحصل الشهادة ؟  كباقي ما يقوم به الانسان في حياته ، تتحقق الشهادة بطرق مختلفة ، إذ يمكنها أن تتجلى عن طريق ” لسان ” حال الشاهد  أي من خلال سلوكه وتصرفه، بإرادة ووعي أو دون ذلك. كما يمكن لها أن تتخذ شكلا آخر يتمثل في ” النطق ” بها فتُنجَز بواسطة الكلام اللفظي الصوتي المسموع أو الكلام اللفظي المكتوب .

والشهادة ، سواء كانت حالية أو لغوية – شفهية أو مخطوطة –  تسعى لتحقيق الانسجام الطبيعي المفقود بين ” الوجود ” و ” الحق والحقيقة “. بمعنى آخر ، كل شهادة هي ” نطق ” واعتراف بصدق الإرادة الكامنة وراء ” القول ” الأول الفاعل الخالق . وكل شهادة بهذا المعنى هي محاربة للعبث والكذب والتلاعب بالحقيقة . وكل شهادة هنا تدخل في تعارض مطلق مع ” النزعة السلطوية الاستبدادية ” التي تطبع بني آدم لمّا يتنافسون على الحلول مكان ” الحقيقة ” لتحقيق ذواتهم الإنسانية. و ” الشاهد ” هنا كالشاعر أو الصوفي أو الباحث في حقل الفلسفة الخالدة هو ابن زمانه ، وهمُّه الأكبر أن يكون “حاضرًا ” فيه ، أمام ” الحدث ” وفاعلا فيه ومتفاعلا معه. وعليه تكون الشهادة ” حضورًا ” فعليا لمواجهة كل محاولات نفي الحدث و ” تغييبه ” أو إفراغه من ” حقيقته ” أي ليس فقط من مضمونه وجوهره ، بل خاصة من وقوعه وأسبابه الموضوعية والوسائل التي أنتجته وأدت إليه.

فكما أن كلّ الكائنات الغير إنسانية من حيوان وطير وجماد ونبات ، وكل المخلوقات الأخرى المرئية واللامرئية ، الأصغر حجما والأكبر ، الأقرب منا والأبعد تؤدي – كل حسب طبيعتها وحالتها – شهادة على ” حقيقة وجودها ” و ” حقيقة مُبْدعها ” ، فكذلك العباد. بماذا أجَبْنا ، نحن بني آدم ، الربَّ حين أخذ من ظهورنا ذُرّياتِنا وأشهدنا وإيّاهم على ” أنفسنا ” بخصوص ربوبيته ؟ أي بماذا أجَبْناه لمّا أخذ علينا العهدَ بأنه ربُّنا وأن لا إله غيره ؟ ألم نُقِرّ – على حد تعبير اللغة القرآنية التي تحيطنا بجانب من علم الغيب – بحقيقة هذا العهد بيننا وبين ربّنا فقُلنا : ” بلى شَهِدْنَا ” ؟ ثم ، ألم نلتزم مُسبّقاً ، وبعد أن كشف الربُّ لنا عن سيناريو أفعالنا الدنيوية ، أن نعترف : ” يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ” ؟

إنّ الأمانة الكبرى التي حملناها تكمن بالأساس في ” الشهادة ” على أننا عباد أي عابرون وخلفاء فقط. نحن عباد عابرون لأننا لسنا باقين أو خالدين إذ أن الخلود والبقاء والدوام هو من خصائص وجه الربّ ذي الجلال والإكرام. ونحن عباد خلفاء لأننا لا نملك في العمق على وجه الأرض شيئا حتى ولو سخّر الربُّ لنا كثيرا ممّا خلق وجاد به علينا رحمة من عنده. وليس من صالحنا أن نسعى لامتلاك شيء ما لأنّ هلاكَنا الروحي موجود بالضبط في هذا النوع من السعي الذي قد يوقعنا في الفخ الإنطولوجي الدنيوي الذي يمكن له أن يدفع بنا إلى تقديس ما يُخيّلُ لنا أننا نملكه فنتحوّل عبادًا لِسراب المِلْكية. هذه المِلكية التي كثيرا ما تكلم عنها جان جاك روسو واعتبرها ، منذ أن بدأ الإنسانُ يفكر في تعمير الأرض باحتلالها وحيازة أجزاء منها لنفسه وتعيين قِطعٍ منها له وحده دون الآخرين ، علامة على بداية سقوطه. فبدأت فطرةُ الإنسان وحريتُه الطبيعية الأولى تتغير فتسرّبت إليها عناصرُ الفساد مع ظهور ثقافة المِلْكية التي فرضت الحدود والحواجز ، وباعدت بين الإنسان وأخيه ، وقادته إلى نزاعات وحروب فشرع في نقض العهد بينه وبين ربّه ! أخطر ما في ثقافة المِلْكية يظهر بجلاء في منطق ” أريد دائما أكثر مِمّا عندي ” ، الشيء الذي يؤدي إلى لهفة التحصيل والتكديس ونزعة التوسع والجري وراء كل إضافة وزيادة ! وهذا الخطر يتجلى أكثر في تمكين جشع الرأسمالية من احتلال حيز كبير من أرواحنا والسماح لفيروس نزعة الحرية دون حدود من السيطرة على حياتنا ، على حدّ تعبير سمير أمين ! ببساطة ، يعتقد الإنسان في سعيه للامتلاك والتملك أنه سيملك المال والأرض والثروات والسلطة وأشياء أخرى ، لكنه يقع ضحيةَ ما يريد امتلاكَه حيث يجد نفسَه عبداً ” مملوكا ” في قبضة ما ظنّ أنها ممتلكاتُه ، فيعيش قلقًا محاصَرًا مقهورًا ومضطهَدًا من طرفها. بمعنى آخر ، إننا إن أعطينا الفرصة والسلطة للأشياء أن تملكنا فسنكون قد أعطيناها الحق لكي تكون ” شاهدة ” علينا وضدنا !

وهذا ما تؤكده ممارسة السلطة في غالب الأحيان حيث يمكن للشعور بامتلاكها أن يقود إلى إغفال فخ سقوط صاحبها في نفي هويته الروحية الأولى كعبدٍ تمتدّ جذورُه بعيدا في علاقته بالرب. ينسى صاحب السلطة هذه الحقيقة ويغفل عنها ، فلا يكتفي بإرادة استحواذه على الأرض بل قد يبغي امتلاكَ العباد فلا يتردّد في نقض العهد بينه وبين ربّه فيتجرأ على منافسته في ربوبيته ويشق عصى الطاعة مدّعياً ( متخيلا ) : ” أنا ربكم الأعلى “. وما زالت ، منذ غرق فرعون ، هذه الثقة العمياء بوعود السلطة الكاذبة اللامحدودة تتابع أخطاءها ، فكم من فرعونٍ وطاغيةٍ بصيغة المفرد أو الجمع ، شرقا وغربا – في زمن الإنترنت – يعتقد أن المواطنين سيبقون ساكنين أمامه إلى الأبد ، مطأطئي رؤوسهم ك “غنم ” ومسلّمين له قدَرَهم وحياتهم ك ” غنائم “. كم من فرعون شرقي وغربي يعتقد في نطاق تصوره للسياسة الخارجية الناتجة عن استبداده بالسلطة وامتلاكه للأموال وخيرات البلاد أنه قادر على ” إيتاء الملك لِمن يشاء ونزعه مِمّن يشاء “.

وإذا كان التعريف العام للسياسة يقدّمها على أنها فنُّ الممكن ، فإن الساسة – حين يسكنهم شيطانُ الاستبداد ويتنكّرون لميثاقهم والتزامهم بعهد الخلافة في تسيير شؤون الأرض كعباد – يتحوّلون إلى مجانين فيطلبون ” المستحيل “. وهذا ما حاول ألبير كامو التعبير عنه جزئياً في مسرحية ” كاليكولا ” بتقديم صورة تمثيلية توضح العلاقة القائمة بين الطغيان والتجبّر في ممارسة السلطة وبين طلب المستحيل. ألم يعلن ” كاليكولا ” ، هذا الامبراطور الروماني المستبد ، عن رغبته في امتلاك ” القمر ” ؟ ألم يصبح شقيًّا لأنه راهن على سعادته بإرادة امتلاك شيءٍ مستحيل انتهى بالاستحواذ على عقله وجميع قواه النفسية فسلبه راحتَه وتحول إلى كابوس مرعب يطارده باستمرار ؟ ألم تُطوى صفحةُ حكمه بقتله مذلولا مهانا ؟

بين فعل ” الشهادة ” – كإنجاز أولي مؤسس لخاصية ” عبوديتنا ” – المفقود لأننا ضيعناه ونسيناه بابتعادنا عن وعينا بأنفسنا  ككائنات موجودة تلقت أمرَ الخلق وصادقت عليه وشهدت به  ، وبين رغبة ” التنكر لها في سبيل الجلوس على  ” كرسي الحكم ” والبقاء فيه إلى الأبد ، تاهت تقريبا كلّ الإنسانية في صراعات نفي الآخر في سبيل إثبات الذات و” تقديسها “. ولما أصبح الانسان فارغا من خاصية العبودية الأولى التي تعني بالأساس نوعا من المعرفة الروحية التي وضعها الرب فينا ، بدأ من جراء جهله بجوهره ينظر إلى الكون والحياة والآخرين بغطرسة وكبرياء وكأنه الإله ! وها هو دمه – بعد فساد طبيعته الأصلية – يُراق عنادا وطغيانا وتجبرا ، ويشهد بالخطأ الجسيم الذي ما زال يتابعه منذ أن قتل قابيلُ هابيل.

ولنتأمّل في الحالة الرهيبة المقيتة التي وصلت إليها المنطقة العربية والإسلامية اليوم ! نزاعات دموية حول النفوذ والسلطة والزعامة بين أبناء الوطن الواحد ! تناحر فتاك مستمر بفعل الطائفية والجهل والفقر! تسييس الدين وتديين السياسة ! الإسلامويون والعلمانيون كلهما في هذا سواء ! الحقد والكراهية مسيطران ! العنف والفوضى دائمان ! تسابق عبثي لافت نحو تدمير البلاد وقتل العباد وتحطيم المؤسسات وتفتيت النسيج الاجتماعي !   لنعترف إذن – هنا في الدنيا قبل الآخرة – أن هذه الحالة الانتحارية الجماعية التي يعرفها العرب والمسلمون اليوم في مصر وسوريا وليبيا والعراق وبلدان أخرى ، هي أكبر ” شاهد ” على غفلتهم وعماهم أي نقضهم للعهد الرباني الأول وعدم التزامهم به !