الاحمر

 

الرابط : القصة ب(::::)

قصة : افنان القاسم – باريس (::::)

كان كاييه، هندي الأمازون، يرصد الغابة الخضراء التي كانها عالمه، من أعلى شجرة جوز، ويرى الجرافات الهائلة على قدم وساق، وهي تحمل جذوع الأشجار المقطوعة، وترميها في شاحنات ضخمة يتصاعد دخان أسود من مداخن محركاتها. كان يشعر بالتقوض، كما لو كان هو الجذع الذي يتقوض، وبالانهيار، كما لو كان هو العالم الذي ينهار. لم يكن يرى المناشير الكهربائية في أيدي جبابرة يضعون على رؤوسهم القبعات كرعاة البقر، إلا بعد أن تتهاوى القامات الخضراء. وهم من بعيد، كانوا يبدون كخشب الظلال. كم كان يحب القامات الخضراء، كما لو كان يحب نفسه، وكم كان يحسد الأمازون على مداعبته لأصابع أقدامها، كما لو كان يحسد نفسه. كل الطيور التي كانت له صديقة، أولها اليَعْجَمِيّ، ذلك الطائر من طيور الأمازون التي كانت منذ كان الأمازون، ذابت في الهواء، كل الفراشات التي كانت له عدوة، أولها الزرقاء، تلك المجسدة للروح الشريرة، امحت ألوانها، كل الزواحف التي كانت له أخوات، أولها الإغوانة، تلك العظاءة العاشبة، نفدت بجلدها، كل الحيوانات التي كانت له أخوة، أولهم اليّغْوَر، ذلك النمر المرقط، أضربت عن الطعام، ثم تضورت جوعًا، حتى أن الدُّلفين الورديّ ترك الماء العذب للجذوع الخشنة، وفضل الموت بعيدًا. كان كاييه لا يريد الموت، بعد أن غادر كل أفراد قبيلته، كالدُّلفين الورديّ بعيدًا. بدت سحابة من الغبار الأحمر من أقصى الطريق، فوقف كاييه بطوله، وهو في أعلى شجرة الجوز، ليتأكد من أنها السيارة أربعة-أربعة. تأخرت السيارة عدة أيام عن إحضار ما يأكلونه وما يشربونه، بعد أن استحالت لديهم كل إمكانية في الحصول على الطعام والشراب، من غابة الألف قوس قزح وسهم. هب إلى النزول، وهو يزلق، وتتكسر العروق مع احتكاكها بجسده. عندما وجد نفسه يقف على الأرض، صاح بساو، زوجته، بلغتهم، لغة الكايابو التي لهم: توقفي عن إسقائه الجعة! كانت تسقي بارا، رضيعها ذا السبعة أشهر، الجعة من رضّاعة، وثدياها المصبوغان بألوان المنون يتدليان ميتان، تحت عنق غطته عقود الخرز الأحمر. لم تستجب ساو، فأوضح كاييه: السيارة أربعة-أربعة لن تلبث أن تصل. أبعدت ساو الرضّاعة عن فم الطفل، فصاح بأعلى صوته، وأخذت تند عنه حركات المتشنج. عادت الأم تسقي ابنها الجعة، وبارا يتراخى، وهو يفتح عينيه، ويغمضهما، ككل الثملين. توقفت السيارة أربعة-أربعة على مقربة من العائلة الهندية، وفي الحال، قفز سائقها، وهو يمسح الرطوبة عن جبينه، ويهمهم: خراء! استدار ليخرج صندوقًا مليئًا بالطعام، فآخر، فدزينة من قناني الحليب، وثلاث دزينات من قناني الجعة. هذه آخر مرة، همهم الرجل قبل أن يعود إلى المِقْوَد، لا أريد أن أجدكم هنا، بقيتم أم ذهبتم، عدة أيام وتصل الجرافات. سحب كاييه ريشة حمراء كان يغرزها في أنفه، وقدمها له، فتردد الرجل في أخذها. تأمل كاييه، وتأمل ساو، وتأمل بارا، رضيعهما الثمل. كانت حيرته كبيرة أمام كل تلك المكابرة الفطرية، كمكابرة شجرة موقرة. انتزع الريشة الحمراء، وهو يجمجم “و… خراء!”، ركب سيارته، وغادر المكان.  أفرغت ساو جعة الرضّاعة في حلقها على بكاء البي بي، وسارعت إلى ملئها بالحليب، لكن الصغير رفض الشرب. عض كاييه طرفًا من سجقٍ وقع عليه في الصندوق، وذهب ليأكله مع قنينة جعة، وهو يهمهم: لقد جعلتِ منه سكيرًا، هذا المُدَرَّع. جرعت ساو الحليب دفعة واحدة، وملأت الرضاعة بالجعة، فسكت الرضيع حال وضعها في فمه، وهو لا يتوقف عن جرع الكحول حتى أغفى. اقتربت بقرتهم الضامرة ذات السنام، فقطع كاييه، بسكينه المعقود بخيط حول خاصرته، قطعة سجق أكلتها بنهم. تناولت عن الأرض قنينة جعة كاييه بين أسنانها، وأفرغتها في حلقها. أرادت قطعة سجق أخرى، فأعطاها، وطبطب على رقبتها لتذهب. بعد أن وضعت ساو ابنها في سريره المعلق، فتحت قنينة جعة، وجلست تحتسيها هناك، تحت شجرة، وهي لا تنظر إلى شيء. بدا عليها أنها تستمتع بزوال الأشياء، واضمحلال الوجود. راحت تبتسم، وزوجها يرمقها، دون أن يسره ذلك. دار بوجهه إلى الناحية الأخرى، حيث جذور الأشجار الناتئة كأصابع الشياطين. في المساء، وصلتهم أصوات موسيقى، وضحكات فتيات، وصيحات سكارى، فصعد كاييه إلى أعلى شجرة الجوز، ونظر إلى البيوت المتحركة للعمال ومقطوراتهم في قلب الطريق التي يشقونها، والمصابيح ترشق أشعتها، فتبين الغابة، وهي تميد في الخراب والدمار. كانت الفتيات أهليات، اختلط ضحكهن ببكاء الصغير بارا، فصاحت ساو بزوجها: لا يريد أن يشرب الحليب! لم يرد كاييه عليها، كان يضحك لضحك الفتيات، وهن يفلتن من أحضان أصحاب قبعات رعاة البقر، فيركض هؤلاء من ورائهن، وبأيديهم قناني الجعة. كان بعضهم يسقط على هذه أو تلك فوق جذع ضخم، وبعضهم يلهث عند حافة الجحيم. مع صراخ بارا، تبتعد أصوات الموسيقى، وتبتعد ضحكات الفتيات، وتبتعد صيحات السكارى. ماذا أفعل، يا كاييه؟ صاحت ساو بعد أن عيل صبرها أمام رضيعٍ يفضل الجعة على الحليب، فاضطرته إلى النزول. حمل ابنه كما لو كان يحمل قارضًا من القوارض، وأخذ يجبره على جرع الحليب حتى كاد يخنقه. انتزعت ساو الطفل منه، وهي تنبر: تكاد تقتله! كانت بقرتهم السنامية لا تنام مثلهم، فذهب كاييه بالرضّاعة إليها، لكنها، هي الأخرى، رفضت شرب الحليب، وعضت بأسنانها قنينة جعة تريده أن يفتحها لها. ليس لكِ، عادت ساو إلى الصياح، للصغير، وخلصتها القنينة. للصغير، تهكم كاييه، ستقتلينه، والصغير لا يتوقف عن البكاء. عندما بدأ البي بي بشرب الجعة، ولم يعد يصرخ، علت أصوات الموسيقى، وضحكات الفتيات، وصيحات السكارى. أخذ كاييه يرقص كيفما اتفق له الرقص، فضحكت ساو عليه. تعالي، قال لها، وهو يشدها، لكنها لم تأت. واصلت إفراغ الجعة في فم الرضيع، وهي تضحك. ألقى كاييه الرضيع الثمل أرضًا، وأخذها بين ذراعيه، وهي لا تتوقف عن الضحك. راحا يرقصان كيفما اتفق لهما الرقص، ويضحكان كيفما اتفق لهما الضحك، وراحا يقبلان بعضهما، وهما يرقصان، وهما يضحكان. تناولت البقرة ذات السنام بأسنانها الرضّاعة نصف الملأى بالجعة من فم الطفل الضائع مع أحلامه، وأفرغتها في فمها. ألقت ساو عنها ثوبها البدائي، واستمرت وكاييه ترقص، وتضحك، وتقبله، ترقص، وتضحك، وتقبله، ترقص، وتنعق، وتقبله. تركها تفك العقدة الرابط بها عضوه، وجرها إلى أرجوحة النوم.  في صباح اليوم التالي، وجدا بارا، ابنهما، ميتًا، فصاحت ساو، وناحت، إلا أن كاييه بقي هكذا، مهيبًا، سيد نفسه، دون أن يرف له جفن، وكأنه بموت طفله استعاد شجاعته التي فقدها. حمل صغيره، وذهب حتى وسط الجرافات الممسوسة في عقلها، وألقاه بين أذرعها، دون أن يأبه به أحد من واضعي قبعات رعاة البقر. عند عودته إلى كوخ الأعشاب المستسلمة بين أصابع الرماد وأوراق الموز المحبورة بين أسنان الجفاف، وجد كاييه ساو، زوجته، تطفو في بحيرة من الدم. كانت قد قطعت عرق رسغها بحطام قنينة جعة، فحاول إنقاذها بالصمغ والوحل. ماتت بين أصابعه، وعند ذلك، ارتعد كالطفل، واهتز كالوتر، وتهاوى كالسهم. كان الرعب، ولم يكن الحزن. دخل شرطه، الشرط الأخير من تجربته الإنسانية. بقي هكذا، وكأنه تحجر، وغدا تمثالاً لا ينطقُ، لا يخفقُ، تمثالاً يقوم طوال الزمن، مذ كان زمن، بانتظار أن يدب في عروقه دبيب الحياة. اقترب الخلق الهدام منه، واقترب. اقترب الخلق الهدام. الهدام لكل شيء لا لبعض شيء في سبيل الخلق. الإنهاء على البيئة. على النظام البيئوي. الدخول في مرحلة عدم الرجوع إلى الوراء. الإصرار على الاستمرار. الخلق الهدام. عزمت المناشير الكهربائية على الهجوم بأسنان الجحيم التي لها، ولكن بسبب وجود كاييه لم تحقق ما عزمت عليه، وتوقفت الجرافات الممسوسة في عقلها عن القيام بعملها على أكمل وجه.

* * *   اخترقت السيارة أربعة-أربعة الطريق غير المعبدة، وهي تثير الغبار الأحمر من ورائها. كانت فيها ثماني نساء أهليات، وجوههن مصبوغة، صدورهن عارية، أثداؤهن ضخمة، عليها عقود من الخرز كثيرة، وكان الناظر إليهن يتمنى لو يطبع قبلة على حلماتهن. كانت الرطوبة تنبثق من مسام الأشياء إلا من مسامهن، فمسح السائق جبينه، وهو يهمهم: خراء! وجرع من قنينة، للحرارة التي لا تنخفض، بعض الماء. وصل إلى المطار الأقرب من ورشتهم، فرأى أن الطائرة الصغيرة كانت هناك، وهم، من بابها العريض، كانوا ينزلون بيانو كبيرًا على كف جرافة، بينما العازفات الثماني يعملن كل ما بوسعهن على أن يتم ذلك كما يردن. كن يتكلمن كلهن في وقت واحد، وكان السائدُ في الأجواء تنافرَ الأصوات. توقف السائق تحت أنف الطائرة، فغادرت الهنديات السيارة، وكذلك السائق الذي صاح بالربان، وهذا يطل من كوته: اعتن بالبضاعة جيدًا. لمس قائد الطائرة بإصبعين جبينه، وهو يبتسم. هيا، فلتصعدن، طلب السائق من النساء الأهليات، وهو يمسح الرطوبة، ويهمهم: خراء! أخرج الربان ذراعه من الكوة، وهو يقبض على شيء، فتقدم السائق لتناوله. هذا ما طلبه باتش كاسيدي، قال الربان، وهو يفتح قبضته. تلقف السائق عينًا زجاجية ضخمة، وألقى: هل أمه عوراء، هذا الخراء؟ قل له نسيت الملبس. جاء دور إنزال الحقائب الموسيقية، فقفص دجاج كبير، فخنزير لم تهتم الموسيقيات بأمره، فكيس بطاطا. صناديق الجعة والحليب ضعوها في سيارتي، صاح السائق بالحمالين. التفتت العازفات، ورحن يتأملن السائق. أنت من سيقودنا إلى الورشة؟ سألت أصغرهن حجمًا. أنا من سيقودكن إلى الورشة، أجاب السائق. أقدم نفسي، رئيسة الفرقة، نيويورك نيويورك. نيويورك نيويورك، همهم السائق دون أن يبدو أقل رد فعل على وجهه. تابعت نيويورك نيويورك، وهي تشير إلى أحداهن: هذه واشنطن، وهذه شيكاغو… فأوقفها السائق، أنا شيت (خراء)، ومعرفة أسماء الخراء التي لكنّ لا تهمني. أرسلت الفتيات صيحات الاستنكار، وهن يمسحن الرطوبة عن وجوههن. من الأفضل لكنّ، سيداتي، أن تصعدن في الأربعة-أربعة، قال شيت، ولكن، قبل ذلك، ها أنا أخبركن، جهاز التكييف معطل. عدن إلى الصياح، وصعدن في السيارة، ليتكدسن كالسردين في جوفها. ستلحَقُ بي، صاح شيت بسائق الجرافة قبل أن يأخذ مكانه من وراء المِقْوَد، فلمس هذا بإصبعين جبينه. أنا لا أحب السردين المعلب، رمى سائق الأربعة-أربعة، وهو يلتفت إلى الوراء. ومن جديد، أرسلت العازفات صيحات الاستنكار. لن تكون الطريق طويلة، همهم شيت.

* * *

بيلي بيل. كان بيلي بيل، رئيس الورشة، الأشقر، الأزرق، المبتسم دومًا وأبدًا، يضع على رأسه قبعة راعي البقر فوق أرياش الهنود، وهو يثني امرأة أهلية على طاولة في بيته المتحرك، ويمارس معها وقوفًا، في الوقت الذي يخاطب فيه سهم، زوجها الجالس على مقربة منه. كان بيلي بيل يبتسم، فتشع نابه اليسرى الماسية: قل لمنقار، رئيسكم، سأعمل كل ما بوسعي على إبعاد كاييه دون أن ألحق به أقل أذى، هذه كلمة شرف من طرفي. ثم لنفسه، وهو يواصل الممارسة والابتسام: لماذا هذا لا يأتي، يا دين الرب؟ فيضاعف من حركته. قل له بيلي بيل عندما يَعِد يفي. يا دين الرب! يا دين الرب! سأبعده عن أسنان المناشير وأفواه الجرافات. قل له بيلي بيل سيبعده، وبالطريقة الأكثر حضارية عندنا. يا دين الرب! يا دين الرب! يا دين الرب! راح يلهث، ويواصل الابتسام، وفي الوقت ذاته يرى من النافذة السيارة أربعة-أربعة تدخل الورشة، إلى أن تساقط على ظهر المرأة. اعتدل، ونابه الماسي يشع، وطبع على الردف الربانية قبلة صغيرة. التفت إلى سهم، وهو يقفل سرواله، ويمسح جبينه: لكن إذا لم أنجح في إبعاد هذا المجنون، فالذنب لن يكون ذنبي، قل لمنقار، رئيسكم. رمى له حفنة دولارات، وسهم يقول بغضب: فليذهب كاييه إلى الجحيم! تفاجأ بيلي بيل، وابتسم ابتسامة عريضة لأنه لم يفهم شيئًا. بدأ الرجل يتكلم بدارجة الكايابو، وعيناه تقدحان شررًا، تارة يكشف عن ثديي زوجته، وتارة يكشف عن ردفيها، فيجيبه بيلي بيل بدارجة الكايابو، والضوء يشع من كل أسنانه، تارة يغطي ثديي المرأة، وتارة يغطي ردفيها. كان للهندية ثديان كبيران، وردفان جميلان، ولم يتفق الرجلان. قبل أن يغادر بيلي بيل البيت المتحرك، رمى لسهم حفنة دولارات أخرى، وكأنه نسي أن المرأة زوجته: ها أنا أدفع لك، إذا كانت لديك رغبة.  كانوا كلهم هناك لاستقبال العازفات: روكي ورامبو التوأمان الضخمان، الأول مسئول عن المناشير، والثاني مسئول عن الجرافات. روكي، رامبو، أنتما على أحسن وجه؟ رمى بيلي بيل وكله ابتسام أول ما جاءت عيناه في عينيهما. الحياة جميلة وكل هذه الرطوبة الخراء؟ وكأنه ذكرهما بمسح الرطوبة عن وجهيهما. كل هذا بسببه، قال روكي، وهو يشير إلى رامبو، ويصرف أسنانه، فتبين نابه اليسرى الذهبية. كل هذا بسببه، قال رامبو، وهو يشير إلى روكي، ويصرف أسنانه، فتبين نابه اليمنى الذهبية. كان كل منهما يكظم غيظه من الآخر، وبيلي بيل يضحك عليهما. تدخل باتش كاسيدي، طبيب الورشة، المسماع على كتفه، وقصده إبراز نابه اليمنى الماسية. السعادين أكثر منكما ذكاء، قال للتوأمين. أكثر منهما ذكاء، باتش كاسيدي، أبدى بيلي بيل تعجبه، هذا كثير، أتساءل أحيانًا إذا ما كانت هناك حيوانات أقل ذكاء من السعادين. هناك، قال لوكي لوك، مساعد بيلي بيل، وهو يفتح فمه عن أسنانه القاطعة العليا الذهبية، قبل أن يتلعثم، ويكاد يقع دون أن يمسه أحد: الديناصورات. الديناصورات، قال بيلي بيل، وهو يقهقه. هل سمعت ما يقوله لوكي لوك؟ توجه رئيس الورشة، بيلي بيل، بسؤاله لصاحب الورشة، روكفلر، الديناصورات. ديناصورات قفاي، لفظ العجوز روكفلر بلسان المتعجرف القذر دومًا وأبدًا، وهو يكشر نفورًا، فتبين أسنانه القاطعة العليا الماسية. انظروا إلى كل هذه الديناصورات، يا أصدقائي، هتف بيلي بيل، وبنات الفرقة الموسيقية يتقدمن منهم. ليس هناك أجمل من هذه الديناصورات! أهلاً بكن في غابات الأمازون، صاح رئيس الورشة، وهن على بعد عدة أمتار منه، ونابه الماسية تشع كما لم تشع من قبل. وصلن، وهن يكركرن، فسلم عليهن بيلي بيل بحرارة، وهو يقول لكل واحدة: بيلي بيل، بيلي بيل، بيلي بيل… وهكذا فعل عند تقديمه كل من كان باستقبالهن. أشارت نيويورك نيويورك إلى نفسها: أنا رئيسة الفرقة، نيويورك نيويورك، العازفة على البيانو، ليصيح بيلي بيل بمن معه: هل رأيتم، يا أصحاب؟ ها أنا أجيئكم بنيويورك، أجيء بنيويورك إلى عقر أمازونكم! نيويورك نيويورك، أعادت الفتاة، وهي تغنج. نيويورك نيويورك، أعاد بيلي بيل، وهو يرفع إصبعين، بمعنى مرتين. هذه واشنطن. واشنطن، أعاد الرجل الأشقر، وهو يلمس قبعته لمسة خفيفة. وهذه شيكاغو. شيكاغو. وهذه سان فرانسيسكو. سان فرانسيسكو. وهذه إنديانابوليس. إنديانابوليس… كان شيت قد أخذ مكانًا من وراء معلمه، فهمس في أذنه: إنديانابوليس الخراء! وهذه هارفارد. هارفارد. وبسرعة: هارفارد؟ هارفارد. هارفارد كهارفارد؟ هارفارد كهارفارد. يدرّسون الموسيقى في هارفارد؟ يدرّسون كل شيء إلا الموسيقى في هارفارد. ولماذا هارفارد؟ كن صبورًا، يا حبيبي، وسأقول لك. سأكون أكثر من صبور، يا حبيبتي، بما أنك تطلبينه أنت مني. شكرًا، سيد بيلي بيل، قالت، وهي تغنج. بيلي، قال، وهو يجذب ريش الهنود كمن يجذب أحدهم شاربه. بيلي، قالت، وهي تطلق كركرة كمن يضرب أحدهم على أصابع البيانو. وهذه ساكرامنتو. ساكرامنتو. وهذه لاس فيغاس. لاس فيغاس، هل تذكر، روكفلر، لاس فيغاس؟ كيف لا أذكر لاس فيغاس، وكل نقودي القذرة التي ربحتها، أيها اللص؟ قال صاحب الورشة بلهجة مترفعة. لا تكلمني هكذا، روكفلر، قال بيلي بيل بابتسامة واسعة. لا أكلمك هكذا؟ لا تكلمني هكذا. لا أكلمك هكذا كيف؟ بلهجتك المترفعة هكذا، أوضح بابتسامة واسعة، ونابه الماسية تطلق شعاعًا أسود، لهجتك المترفعة، نيك ماماك! لهجتي المترفعة، نيك ماماي! نيك ماماك! نيك ماماي! نيك… ماماي! ماماك! ماماي! وعن هارفارد، ماذا، يا حبيبتي؟ أرادت الكلام، لكن لوكي لوك سأل، وهو يكاد يقع على الأرض دون أن يمسه أحد: أين توجد هارفارد؟ انفجر بيلي بيل ضاحكًا، وألقى: في جوف ديناصور! فضحكوا كلهم ما عدا شيت. ديناصور الخراء، همهم. ماذا تقول، شيت؟ أقول ديناصور الشيت، بابا. كان في مثل عمره، في الثلاثينات من عمره، ويدعوه بابا. ديناصور الشيت، شيت؟ كما تقول، بابا. إذن، يا حبيبتي… الواقع أن كل واحدة منا اختارت المدينة التي جاءت منها لقبًا، أوضحت نيويورك نيويورك، مع قليل من الغنج، ثم مع كثير من الغنج، إنه الاسم الفني الذي لنا. يا لها من فكرة، روكفلر. تقصد أن نعمل الشيء نفسه مع أولئك القذرين الأهليين؟ سأل الرجل الثري بعجرفة. أنا لا أقصد شيئًا، روكفلر، نيك ماماك! نيك ماماي! نيك… وتوجه إلى الآنسات: سيرافقكن لوكي لوك إلى بيوتكن المتحركة لترتحن، سيداتي، اليوم خمر وغدًا موسيقى. انفجر يضحك، وكل من كان معه، بينما شيت يهمهم: اليوم خراء وغدًا خراء. لكن… قال باتش كاسيدي، قبل ذلك، أود لو أعرف شيئًا. تود لو تعرف شيئًا مثل ماذا، باتش كاسيدي، نفخ بيلي بيل دون أن ينسى الابتسام. خراء! خراء! أعاد شيت. راح الطبيب يلمس العازفات من أثدائهن، وبالمسماع يريد أن يفحصهن، وهؤلاء يكركرن، ويهربن. جاء جمع من هنود الأمازون جعلهم يقفون حائرين، تعثر لوكي لوك، فحالت العازفات دون وقوعه. خراء! خراء! همهم شيت. كان الأهليون يسحبون عنزة تبين أنها حامل، وصبي يحمل رأس ولدها. صرخت العازفات، وهن يدرن وجوههن إلى الناحية الأخرى، بينما دفنت نيويورك نيويورك وجهها في صدر بيلي بيل، فأسعده ذلك. ما هذه سوى كرة، قال رئيس الورشة، وهو يفتح فمه عن ابتسامة واسعة، واسعة جدًا، جعلت القصيرة نيويورك نيويورك ترى ضرسًا ماسية للأشقر الأزرق لما رفعت رأسها إليه. باتش كاسيدي، انظر ما الذي يريدونه، يا دين الرب! نبر بيلي بيل، وهو يبتسم. كلمهم الطبيب بلغة الكايابو، وهو يعاين الحيوان، ثم ما لبث أن هتف بروكي ورامبو ليحملا العنزة إلى عيادته المتنقلة، والعنزة يسيل الدم من مهبلها. هل هو طبيب بيطري؟ سألت نيويورك نيويورك. طبيب من كله، أجاب بيلي بيل. من كله؟ من كله. بعد عدة دقائق سمع الجميع صوت العنزة الوليدة، فحيرهم الأمر، وهي لا رأس لها. لكن ما لبث روكي ورامبو أن خرجا، أحدهما يحمل عنزة وليدة برأس، والثاني عنزة وليدة بدون رأس. ابتسموا كلهم، وهنأوا أنفسهم. عاد باتش كاسيدي بالعنزة الأم، ووضعها قرب صغيرها، فأخذت تلعق هذا مرة، والرأس المفسوخ مرة. خلال ذلك، سلخ الهنود العنزة الوليدة القتيلة، وأفرغوها. رموا الأحشاء لكلابهم، وعلى نار أشعلوها، راحوا يشوون الجسد الصغير. عمل جميل، باتش كاسيدي، همهم بيلي بيل. عمل خراء، بابا، همهم شيت، وهو يشير إلى أحدهم كان يسحب تمساحًا معصوب العين. لي عندك شيء لم تعطني إياه، قال باتش كاسيدي للسائق، والعازفات يصرخن خوفًا من التمساح هاربات. إنه مدجّن، أوضح بيلي بيل، وهو يضحك منهن. مدجّن قفاي، همهم روكفلر. إنه مدجّن، أعاد لوكي لوك هاربًا. ها هو، قال شيت، وهو يضع العين الزجاجية في يد الطبيب. والملبس؟ لقد نسيه. ها هم يأتون بالببغاء، همهم باتش كاسيدي على مرأى أسرة أهلية تتقدم من بعيد، وهي تحمل قفصًا. دغدغ الطبيب التمساح كما لو كان يدغدغ كلبًا، وضع رأسه بين فكيه، وقبله من فمه، ثم خلع الضماد، وفي الفجوة ألقى العين الزجاجية، عين زرقاء كعين بيلي بيل. هذا توأمي، هتف رئيس الورشة مفتتنًا. هذا توأمك، بابا، همهم شيت قبل أن يقذف: خراء! أما أنتم، قال باتش كاسيدي للأسرة الهندية، فلم يحضروا لي الملبس، والببغاء تردد: ملبس! ملبس! ما لها الببغاء؟ سألت نيويورك نيويورك، وهي تفتح القفص، وتخرج الطائر. ملبس! ملبس! لقد فقدت النطق، قال بيلي بيل مقلدًا إياها: ملبس! ملبس! ولكنها تتكلم! لم تعد تعرف قول سوى هذه الكلمة التي تكررها مرتين، أوضح باتش كاسيدي. ملبس! ملبس! ولماذا الملبس؟ عادت نيويورك نيويورك تسأل. وصفته لها كعلاج لتستعيد صوتها. لدي هذا، قالت رئيسة الفرقة الموسيقية، وهي تخرج من حقيبتها الصغيرة علبة علكة اختطفتها الببغاء بمنقارها، وراحت تلوكها بنهم. أعادت نيويورك نيويورك الببغاء إلى أذرع أصحابها، وهؤلاء يأخذون من فمها إلى أفواههم، بينما الكل يضحك سعيدًا، والتمساح “ينبح”، ويهز ذيله، كما تهز ذيولها الكلاب.

* * *  وصلت الجرافة بالبيانو وباقي حملها، فتضاعفت الحركة في الورشة. العازفات أخذن بالتمرن، والطباخون أخذوا بإعداد الطعام، والعمال أخذوا بنصب خيمة كبيرة، جعلوا فيها من الجذوع طاولاتٍ ومقاعدَ. نادوا على بيلي بيل ليرى كيف الدجاج نُتف ريشه، وهو حي، والخنزير انتُزع جلده، وهو ميت. وكما هي عادته، لَطَّفَ رئيس الورشة من الجو بدعاباته وابتساماته. كان كل همه أن تحبه نيويورك نيويورك، لكنه لم يكن يعرف كيف يفعل. دعاها إلى جولة أمازونية، على القدمين. وهما في وسط الطريق، قذف في روعها أن قاطورًا سيهاجمها، ومن الذعر، ألقت بنفسها بين ذراعيه، فغصبها قبلة، تبعتها صفعة. وكانت النتيجة أن فرت رئيسة الفرقة، وبيلي بيل ينادي من ورائها: نيويورك نيويورك.  على مائدة العشاء، فاجأ المدعوون الهنود الجميع، وهم يتزينون بأرياش الدجاج إلا منقار، رئيسهم، فهو لأَنَفَتِهِ ونُبلِهِ، لم يفعل كالباقين، واكتفى بجلد الخنزير لكتفيه غطاءً مهيبًا. أشرف روكي على توزيع أطباق المشوي، ورامبو على توزيع أطباق المقلي. كاد لوكي لوك يقع في المجمرة دون أن يمسه أحد، بينما لم يتوقف باتش كاسيدي عن فحص النساء الأهليات ذات الأثداء الضخمة. دفع سهم زوجته بين يدي الطبيب، وهو يكشف تارة عن ثدييها، وتارة عن ردفيها، ويصرخ بلغة الكايابو التي لهم. أفهمه باتش كاسيدي أن ثدييها في طبيعتهما كبيران، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئًا من أجلها. عاد سهم يكشف عن ردفيها، فأخبره الطبيب أن بيلي بيل يحبهما هكذا. راح الرجل بالمرأة يصيح، ويقول على مسامع الجميع أن لا حظ له، والكل يضحك عليه. ألقى روكفلر نظرة ازدراء على الناحية التي قعد فيها الهنود، وعنهم، اختار مكانًا بعيدًا، وهو يهمهم: القذرون! روكفلر، نيك ماماك! همهم بيلي بيل، وكله ابتسام. نيك ماماي! همهم روكفلر، وكله اكفهرار. كل هذا خراء، بابا، همس شيت في أذن بيلي بيل. ماذا؟ سأل بيلي بيل، وهو يود من كل قلبه لو يحصل على قبلة من شفتي نيويورك نيويورك مقابل نابه الماسي. كل هذا. كل هذا ماذا؟ كل هذا. خراء، نبر بيلي بيل، وهو يبالغ في الابتسام لنيويورك نيويورك. وليثير في قلبها الغيرة، ذهب يجلس وسط العازفات اللواتي رحن يلمسن بأناملهن قبعته وأرياشه وسترته “الأميريندية” التفصيل لمسًا خفيفًا، وهو يبدو أسعد الناس في أدغال الأمازون. بعد قناني الجعة، ثمل الكل مع الكل، أمريكيين وهنودًا، وتخدر الكل مع الكل، وضحك الكل مع الكل، ورقص الكل مع الكل، ونام الكل مع الكل، إلا شيت. بقي شيت يردد: شيت، شيت، وهو يشرب الجعة، ويمسح الرطوبة. هل صحيح ما تقول؟ سألت نيويورك نيويورك. صحيح ما أقول، أجاب بيلي بيل. يا ليت يكون لي صدر مثلهن، تنهدت عازفة البيانو، وهي تشد ثدييها الصغيرين بيديها. لكني أحبك هكذا، همهم بيلي بيل، وهو يطبع قبلتين صغيرتين على حلمتيها. وأنا لا، صاحت بعصبية.

* * *  في قلب الدمار والخراب، ليس بعيدًا عن كاييه، الرابض بقمة شجرة الجوز، كانت الفرقة الموسيقية تعزف “جزيرة الموتى” لرحمانينوف، أمام مجموعتين من المشاهدين، مجموعة للهنود، ومجموعة للأمريكيين. كان الضرب على البيانو يرق أو يجل، والآلات الموسيقية الأخرى تتساوق مع الضرب على البيانو، فتُسمع رقرقة الماء في الأمازون، وحركة الحياة في الغابات. تحرك كاييه مع الحركة، وراح ينظر من حوله. كان أمازونه ما يرى، وطيوره، وحيواناته، وفراشاته، وكان ابنه من يشاهد، وزوجته، ونفسه، وقبيلته. لم يكن يشعر بالموت القادم على الزورق، فالريح كانت ساكنة. نزل، وهو يحتضن الأغصان، والأغصان تبكي عليه. ترك شجرة الجوز وحدها، وترك المناشير الجبارة تقوم بعملها. لم يكن يهمه ما تفعل، ما كان يهمه اللحظات السعيدة التي فقدها، أحاسيس النفس في سلامها، أحلام المرء على كثرتها، همسات الورد حين حبورها. لم ينتبه إلى الجرافات التي راحت تلتقط بمخالبها الجذوع، ولم يفطن لبيته، والآلات الجهنمية تقتلعه من الجذور. كان كالمسحور، كالمحلق فوق الكون، كالجناح، كالشعاع، كالانعكاس، كماء السماء. الشفاف. وفي اللحظة التي راحت فيها الأنغام تتحرر من أوهام الحياة، والعازفاتُ تتركُ الموتَ يضرب على أوتارها، التفت كاييه إلى حيث كان، وعرف أنه قد فقد بالفعل ولده وزوجته ونفسه وقبيلته. لقد كذبت الموسيقى عليه. تركته يحمل عبء إثبات الذات. دوى التصفيق. كان كل شيء قد انتهى.

* * *  بعد أسبوعين، عادت الطائرة الصغيرة بالنساء الأهليات لتأخذ العازفات. اختفت صدورهن الضخمة، وركبن السيارة أربعة-أربعة بأثداء مترهلة. لم تغادر نيويورك نيويورك مع زميلاتها بعد أن قررت إجراء عملية تجميل لثدييها. كانت الأولى في صف النساء الأهليات أمام باب العيادة المتنقلة، تلكم اللواتي يريد أزواجهن إعادة نفخ صدورهن لقاء بعض المال. في الواقع، لم يكن الغرس الضرعي سوى كيس من المخدرات كبير. عندما عرفت نيويورك نيويورك بالأمر، ذرفت دموعًا حرى، وانتظرت مع الأخريات أن يأذن لها باتش كاسيدي بالسفر الذي كان بمفاجأة لم يتوقعها أحد: كاييه بثديي امرأة، وبقرته العجفاء بِضَرْعٍ لا يضاهيه ضَرْع. لم تكن المفاجأة الأولى، لأن زوجة سهم جاءت، وهي تميل كالديناصور، بربلتين ضخمتين، ولأن هنديات أخريات حشون خدودهن بأكياس المخدرات، وبطونهن، وأردافهن، وكأنهن يجررن كل غابات الأمازون من ورائهن.

* * *  بعد شهرين، تفاجأ بيلي بيل بكل العازفات، وهن يسقطن عليه كما تسقط الصواعق على الغابات، قلن له إن نيويورك نيويورك بعد زواجها من كاييه اشترت شقة فخمة في الشارع الخامس، وإنهن هنا للشيء نفسه. راح يدغدغهن من أثدائهن، ومن أثدائهن، ومن أثدائهن، وراح يدغدغهن، وهو يبتسم، وهو يبتسم، وهو يبتسم، وهو يعرض أنيابه الأربع… الماسية.

تمت كتابة هذه القصص يوم الخميس الموافق 2013.01.24 في باريس